تظهر اليد في سياقات متعددة؛ إذ تحتشد فيها الدلالات بصفتها اليد التي تخلق وتدل، ولأنها عنصر الوصل الفاعل في ذكائها ورقتها، ودافع التخمين والتكهن حينما تغيب أو ترتبك. يخلق الشعر منها حقلًا دلاليًا ينسكب منه المعنى عذبًا، ومن بين شعراء العربية الذين تناولوا اليد بحساسية عالية كان بسَّام حجَّار الذي شكّلت اليد في شعره حقلًا دلاليًّا مستقلًا بذاته؛ إذ يتضمن كثير من قصائده إشارات رهيفة إلى اليد، كما كتب فيها قصيدة كاملة: “ثم أتت يداكِ. رسمت شكلًا من طينة الضجر وكنتِ بعضًا من رقتها»، “وسوف تسألك الأيدي، برقّة الأيدي وأناتها، عن الرجل الذي أغوته فراشة العزلات”، “وتدلني يداي”. تكرار ظهور الأيدي في شعر حجَّار تكثيف للدلالة الإيحائية للنص، تظل برقتها ماثلة أمامه مثل طيف مستحوذةً على حصتها من نصوصه.
ومثلها مثل الشعر تعيد السينما تعريف اليد وابتكار معانٍ مختلفة لحضورها، وقد ذكَّرني ملف “اليد”، الذي أعدَّه الروائي عزت القمحاوي في مجلة القافلة (العدد 708)، بالمخرج روبير بريسون، الذي افتقدت حضوره في الجزء الخاص بالسينما من الملف تحت عنوان “بطولات الأيدي في السينما”. مثله مثل حجَّار استطاع بريسون المهتم في كل أفلامه بحركة الجسد ولغته أن يمنح اليد شعريتها وألقها، خصوصًا فيلمه “النشَّال” الذي وضعته سلسلة “Blow up” على رأس قائمة الأفلام التي تناولت الأيدي. السلسلة من إخراج لوك لاجييه، وهي مجلة أسبوعية تُقدِّم نظرة ملهمة عن السينما. ولم يأتِ هذا الأمر من فراغ، ذلك أن بريسون استطاع أن يُقدِّم مشاهد سينمائية باهرة عن الأيدي كانت المحرك لدراسات عديدة، حيث نرى حركة الأيدي في لقطات قريبة، وهي تمتد إلى حقائب يد السيدات وجيوب الرجال، لتغمر هذه اللقطات المشاهد بتوتر لا يعكسه وجه اللص الذي ينجز مهمته بهدوء وثقة.
بوسعنا أن نستشف فلسفة بيرسون السينمائية ونتعرّف على كثير من سحرها ومفاهيمها عبر مذكراته “مدونات حول السينماتوغراف”، حيث تتكامل الصورة مع الصوت ويتكامل الجسد مع الروح. ينطوي الحذف عند بيرسون على الأهمية نفسها التي ينطوي عليها رسم الإطار السينمائي، ثم إن أهم ما ترتكز عليه فلسفته السينمائية بوصفها “طريقة جديدة في الكتابة”، السعي عبر تقشّفها إلى التركيز على أهم قيمة بالنسبة إليه “التقاط ما يحدث في الداخل”.
هو المخرج الوحيد تقريبًا الذي ظل طوال مسيرته خارج أي تصنيف، وقد قال عنه جان لوك غودار مرَّةً: “بريسون هو السينما الفرنسية، كما أن دوستويفسكي هو الرواية الروسية”. وقد أثَّر بريسون في عدد من المخرجين من أمثال: الأمريكي بول شريدر، والبلجيكية شانتال أكرمان، والروسي أندريه تاركوفسكي الذي قال عنه إنه “أحد العباقرة القلائل في السينما”، وعدَّه مثلًا أعلى. أبرز بريسون عبر مسيرته تفانيًا كبيرًا وتكريسًا نادرًا لنفسه لأجل السينما التي يؤمن بها؛ ليحدث بذلك ثورة عبر أكثر الطرق اقتصادًا وتقشفًا.
أجاب بريسون عن سؤال طرحته عليه صحيفة “لكسبريس” الفرنسية حول ما جذبه إلى موضوع فيلمه “النشَّال” قائلًا إنه: “ذكاء الأيدي”. وفي حوار له مع جان لوك غودار (دفاتر السينما، العدد 104، فبراير 1960م) يقول بريسون عن فيلم “رجل هرب”: “بعده، شعرت برغبة في رؤية وإظهار أيادٍ ماهرة أخرى”. تُبرز مشاهد الأيدي في فيلم “رجل هرب” هذه الشجاعة التي تخفي توقًا كبيرًا إلى الحرية؛ إذ تفكك باب السجن الخشبي قطعةً قطعةً، ضمن خطة كاملة للفرار. ويذكر بريسون في الحوار نفسه: “الأفعال الخارجية هي أفعال أيدي النشَّال، التي تقود صاحبها إلى مغامرة داخلية”.
هكذا ينبغي أن يمر الحديث عن الأيدي في السينما بروبير بريسون تحديدًا. إنه يخلق سينما مبنية على الاقتصاد والحذف، وبذلك فهو لا يبقي على شيء ما لم يكن ضروريًا، مانحًا مساحة للمشاهد لأجل التخمين. يستخدم بريسون التجزئة، مستعينًا باللقطات المقربة، حيث لا تلتقط إطاراته الأجسام إلا في جزئيتها، ساعيًا لفهم أفضل للجوهر.
وقد تجلّت تجسيدات الأيدي على نحو بالغ الذكاء في “ثلاثية السجن”، وكان أبرز توظيف لها في فيلم “رجل هرب” وفيلم “النشَّال”. ففي مشاهد محطة القطار، تتناغم الأيدي بخفة استثنائية، وتشير بيجي سول (دفتر لويس لوميير، العدد 8، 2011م) إلى أهمية المونتاج في إبراز مشهدية أيدي النشَّالين المتناغمة التي كانت متجاوزةً الفعل نفسه والغرض منه إلى إبراز حالة من الابتهاج. ففي رقصة الأيدي هذه يكشف ميشيل عن نفسه، وتَظهر لنا هذه المتعة الخالصة التي سال حبر كثير سعيًا لإيجاد تأويلات لها. وتتوصل سول في بحثها إلى أن بريسون يبتكر مفهوم “الآلي – الروحي” الذي يسمح بظهور أجزاء من الجوهر.
تستدعي مشاهد الأيدي في أفلام بريسون بعضها بعضًا، كأنها تتصل كلها برابط خفي، وكما يقول براين برايس في مقاله “نهاية التسامي.. حداد على الجريمة: أيدي بريسون”: يمكن قراءة صور اليد عند بريسون رأسيًا، لرؤية هذه الصور وهي تشارك في سلسلة تمتد إلى ما وراء المحور الأفقي للفيلم الواحد. إذ تتحول الصورة عند اتصالها بصور أخرى، مثلما يفعل اللون عند اتصاله بألوان أخرى، كما يقول بريسون.
اترك تعليقاً