في عبارة غريبة يقول فتغنشتاين “إن معنى العالَم يقع خارج العالم”. وردت هذه العبارة في “رسالة منطقية فلسفية”، وهو الكتاب الذي وضع فيه المؤلف أهم مبادئ الفلسفة التحليلية، وكذلك الفلسفة الوضعية المنطقية. وكان فتغنشتاين يعتقد أن لغتنا تُصوِّر الواقع المادي، وأي عبارة لغوية لا تمثّل شيئًا في العالم الخارجي فهي عبارة بلا معنى، أو لا تنتمي إلى مجال العلم. فعندما أقول “السماء الآن تمطر”، فإن العبارة ذات معنى، ومن ثَمَّ، تقبل الصدق أو الكذب؛ لأننا يمكن أن نراجع الواقع الخارجي فننظر إن كانت السماء تمطر أو لا. لكن هناك عبارات لا تُصوِّر العالَم، بل تُصوِّر مشاعرنا وقيمنا الأخلاقية والجمالية. فقولي “أنا أشعر بالفرح” ليس لها معنى، فليس هناك في العالَم واقعة تقول إن فلانًا يشعر بالفرح. وكذلك قولي “الحب شعور جميل”، أو “الكرم خلق فاضل”، وغيرها.
كلمة “معنى” الواردة في عبارة فتغنشتاين يُراد بها “القيمة”. إننا نضفي على العالَم قيمًا تجعله مكانًا قابلًا للعيش. فالقرية التي أعيش فيها جميلة وهادئة، ويسود بين أفرادها التعاون والود. لكن هذه القيم التي “تؤثّث” العالَم ليست فيه، بل فينا نحن. هي مشاعر وقيم ذاتية نُسقطها على العالَم. أمَّا العالَم في ذاته، فهو يتكوّن من وقائع مادية وحوادث فيزيائية موضوعية لا تحفل بمشاعرنا. إنه مكان موِحش للنفس البشرية.
الشعور بوحشة العالَم هو السبب الذي جعل الإنسان يُعطي “معنى” للعالَم. لكنَّ الفلاسفة ذوي النزعة العلمية، مثل فتغنشتاين، يرون أن هذا “المعنى” ليس جزءًا من العالَم. إنه يقع خارجه. فهل يعني هذا أن المعاني وهْم؟ هل مشاعرنا التي نحس بها بقوة لا معنى لها؟ سيضطر هؤلاء الفلاسفة إلى أن يجيبوا بـ”نعم”؛ وذلك لأنهم يربطون بين المعنى والواقعة الخارجية، وما يندّ عنها فلا معنى له. لكن فتغنشتاين نفسه تراجع عن صرامة النظرية التي طرحها، واقترح نموذجًا جديدًا هو “ألعاب اللغة”، وفيه يعتقد أن الواقعَ المادي ليس هو المصدر الوحيد للمعنى. فالحياة الاجتماعية للبشر مليئة بأشكال وصور ذات معنى. إن التفاعل بين الأفراد لا يمكن أن يحصل إلا في إطار مُنظّم من القيم الثقافية السابقة على وجود أولئك الأفراد. فعندما يسلّم شخص على مجموعة أخرى من الأشخاص، فإن الشكل الملائم لهذا السلوك يعطي للأفراد توقعات لأي سلوك لاحق: فمن الفضيلة والواجب الديني والأخلاقي أن تسلّم على الناس عندما تأتي إليهم، وأن يردوا عليك السلام. وأي انتهاك لهذه القاعدة البسيطة يُعدُّ خروجًا عن لعبة اللغة (وهذا التشابه بين استعمالات اللغة والألعاب مفيد: فلكل لعبة قواعد يجب اتباعها لتسير اللعبة بشكل صحيح).
في سياق هذا التحوُّل لم يغيّر فتغنشتاين موقفه من المشاعر. فهي لا تزال ذاتية وداخلية ولا يمكن معرفتها إلا بملاحظة السلوك الخارجي. فعندما أكون سعيدًا، فإن سلوكي الظاهري يتخذ شكلًا مغايرًا للشكل الذي يتخذه شعور الحزن. ففي السعادة أكون منفتحًا على العالم ومبتسمًا ونشطًا، وفي الحزن يحدث انطواء على الذات وابتعاد عن الناس وربما بكاء، وغير ذلك من سلوكيات ظاهرية. والسلوك الظاهري هو سلوك عام أو اجتماعي؛ فالجميع يدركه ويراه. أمَّا الشعور الداخلي، فهو خاص بي وحدي: طبيعة الحزن وشدته وتقبلي النفسي له. ومن ثَمَّ، فهو بلا معنى (لأن المعنى ذو طابع عام). صحيح أن فتغنشتاين لم يقل إن الشعور وهْم، لكن ما هو الوهم إذا لم يكن فقدان المعنى؟
البشر ليسوا آلات مبرمجة تبعًا لقواعد مسبقة. إنهم ليسوا مجرد كائنات منطقية وعقلية جامدة، بل ذات مشاعر متنوعة وثرية. وهذه المشاعر هي ما يجعل الإنسان إنسانًا. ولو أن شخصًا كان منطقيًا في كل تصرف من تصرفاته، ويراعي القواعد المقررة بشكل حذق، فإنه لا يكون إنسانًا إلا إذا داخله شيءٌ من الجنون! ولعلَّ الجنون هنا كلمة تُعبِّر عمَّا يفلت من القواعد. والمشاعر جزء من هذا الجنون الأنطولوجي الذي يصف حياتنا؛ فليس هناك قواعد للحزن أو الانتشاء أو الحب أو الكراهية. “تجليات وتعبيرات” تلك المشاعر تكون علنية، لذا قد تلتزم بالقواعد. فعندما أحزن فهناك بعض القواعد التي تنظم شكلَ الحزن وفقًا للثقافة الاجتماعية. عربيًا نعرف أنه مسموح للمرأة أن تبكي إذا حزنت، بينما يُستهجن هذا الأمر لدى الرجل (مع استثناءات طفيفة). والبكاء سلوك ظاهري عام. وهكذا، فالمشاعر نفسها تفلت كما قلنا من القواعد. أمَّا التعبير عنها، فربَّما يلتزم بها أحيانًا.
يعرّف بعض الفلاسفة والعلماء “العقلَ” أو “العمل العقلاني” بأنه التزام بالقواعد التي وضعت لتحقيق غايات معينة. فالشخص الذي يريد أن يدّخر بعض المال (غاية) عليه أن يقتصد في الإنفاق، وأن يتجنب شراء السلع الكمالية، وأن يحتفظ ببعض راتبه (تطبيق قواعد). وإذا فعل العكس قلنا إنه غير عقلاني، أو إن سلوكه غير مبرر. وهذا ضرب من الجنون الطفيف. فكيف له أن يدخر المال إذا لم يتبع القواعد؟ هناك شيء ما دفعه إلى انتهاك القواعد. إنه الرغبة. والرغبة جزء من مشاعرنا التي لا يستطيع العقلُ أن يسيطر عليها إلا بشق الأنفس. الرغبات والمشاعر سواء أكانت حسنة أم سيئة لا تساير منطق العقل إلا إذا كان هذا المنطق يؤدي إلى إشباعها. لكنَّ لها، في ذاتها، منطقَها الخاصَّ وهو “اللامنطق”. وهذا لا يعني أنها بلا معنى. كيف هذا وهي سر الوجود الحقيقي؟
اترك تعليقاً