مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2024

عِمارة البادية.. الحلقة المفقودة


مشاري منسي البقمي

دائمًا ما تُقدّم المستوطنات التقليدية بالمملكة على أنها ذات تنوع وتباين عالٍ في أنماط بنائها المختلفة، وكأنها جزر معزولة في وسط بحر من الرمال. وهو ما أعتقد أنه يتعارض مع مفاهيم الأشكال وعمليات انتقالها وتطور البيئات المبنية؛ فهي إمَّا مؤثرة أو متأثرة، ضمن عمليات تعتمد على مفهوم القبول والمقاومة ضمن الجماعات المتصلة بعضها ببعض. وعليه، يستحق ذلك إعادة تفكير بإمعان ومحاولة البحث عن الحلقة المفقودة في جنبات الصحراء الفاصلة بين هذه المناطق.

هذه الصحـراء تُوصف بأنها أراضٍ لبدو رحّل لا يستقرون، بل في حالة تنقُّل مستمر. هذا الوصف يقدّمهم على أنهم جماعات تهيم في الصحراء بلا وجهة ولا نمط فقط بحثًا عن الكلأ. هذه الصورة الأنثروبولوجية عن البادية ينقصها الكثير من التفاصيل، فالنظام القبلي يقوم على أقاليم محددة يحرسها فرسان القبيلة من الدخلاء والمعتدين. كما يجري بناء المستوطنات الطينية حول مصادر المياه والنخيل داخل هذه الأقاليم، وتبدأ الجماعات بممارسة نمط حياتها بين فترات للاستقرار وأخرى للتنقل داخلها. هذا النمط ليس فريدًا من نوعه، فقد ذكر أموس رابوبورت، نمطًا مشابهًا في وصفه لمستوطنات قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية. إذ تقوم هذه الجماعات بالاستقرار طوال العام، وتبدأ بالتنقل في أقاليمها المحددة خلال الفترة من ديسمبر حتى مارس بحثًا عن صيد الجواميس. المفارقة هنا، أن الصورة الذهنية عن مسكن الهنود الحمر دائمًا ما ترتبط بخيمة التيبي، متجاهلة مستوطناتهم الدائمة المبنية من الخشب، وهذه هي نفسها الصورة الذهنية التي تربط البادية بمسكن الخيمة، متجاهلة أيضًا المستوطنات الطينية التي وصلت في بعض الحالات إلى مستوى استيطاني من قلاع وقصور.

فبقليل من التأمل تجد أنه من غير المنطق الاستمرار في التنقل خلال فترات الصيف، فلا كلأ ولا ماء. في المقابل، هذه الفترات هي أوقات إنتاج النخيل للتمور والاستقرار حول مصدر ماء ثابت، وهو ما يشرحه الصويان بالتفصيل في وصفه للحِل والترحال عند البادية في “موسوعة الصحراء العربية”. وهنا يظهر نمطان من المساكن: الخيمة المخصصة لفترات التنقل، وهي ما قدّم لها هارولد ديكسون، وصفًا مفصلًا وظيفيًا وإنشائيًا في كتابه “عرب الصحراء”، المنشور في عام 1949م. والآخر هو المستوطنة ذات النسيج الطيني، التي نادرًا ما تجد لها وصفًا مفصلًا كالذي قدّمه ديكسون للخيمة. وكحال جميع المستوطنات، تتدرج البيئة المبنية فيها إلى مستويات عديدة تبدأ من القلاع والقصور، مرورًا بالأسواق والأحياء ذات النهايات المغلقة، فيما تبقى الخيمة بين الاستخدام عند الحاجة خلال رحلة الربيع أو الاستخدام الدائم في أقل مستويات الاستيطان. والأمثلة عديدة، ولكن سنذكر عددًا منها هنا، فتجد في الشمال الشرقي قرية “نطاع” بنسيج متكامل من مسجد وسطي وأحياء بنهايات مغلقة، وبجوارها قصر الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – ونجد شمالًا منها أيضًا قرية العليا. كما تجد الممارسة الاستيطانية نفسها في أقصى الغرب بالقرب من الطائف تتمثل في بيشة وحي الظهيرة برنية وقلعة شنقل وسوق رمادان بتربة وقصور الثعالية بالمحاني. وما بين هذه وتلك، ينتشر نمط البناء الطيني في صدر الجزيرة العربية في عديد من المواقع حتى يصل ذروة تطوره ونضج أشكاله في المناطق الوسطى المتمثلة في الدرعية وما حولها.

هذا التشابه في النمط الاستيطاني بين هذه المناطق المتباعدة، ليس بمستغرب إذا ما أسقطت عليه نظرية رابوبورت حول عمليات تكون الشكل المبني، التي طرح أثناء تقديمها عديدًا من الأمثلة حول العالم؛ أحدها مثال مساكن قبائل الهنود الحمر، الذي تناولناه سابقًا. فهو يرى أن عمليات تكوّن الشكل ترتكز على قوى أولية، وهي نمط الحياة والثقافة والمعتقدات التي تصنع الأشكال من أجل تحقيق أفضل ممارسة لها. كما تعتمد على قوى ثانوية، وهي المواد والتقنيات الإنشائية المتوفرة والمناخ وغيرها. فالقوى الثانوية هنا، تقوم على مفهوم الفرق بين ما هو مستحيل وما هو غير حتمي. فمن المستحيل بناء أكواخ جليدية في وسط رمال الصحراء، ولكن استخدام الطين له عدد من التقنيات والأشكال المختلفة، وليس شكلًا حتميًا واحدًا فقط. ولعل أشهر أشكالها الأخرى، عمارة حسن فتحي الطينية، التي تختلف عما نطرحه هنا. إذًا، هذه المستوطنات البدوية المتباعدة والمتشابهة خاضعة لقوى إنتاج الأشكال الأولية والثانوية نفسها، وهو ما يبرر تطابقها.

وبمجرد إدراك النمط الاستيطاني للبادية ونسيجها المنتشر حول مستوطنات وسط شبه الجزيرة العربية، والذي هو بكل تأكيد امتداد لها، نجد أن المناطق التقليدية وعمليات الاستيطان حول المملكة متصلة بعضها ببعض، وعمارة البادية هي حلقة الربط بين هذه الأنسجة التقليدية المتباعدة. وفي ظل التقاطع الثقافي العالي من معتقدات وثقافة وأنماط حياة، الذي يشكّل القوى الأولية في صنع الأشكال المعمارية، سنجد أن الممارسات الوظيفية الأساسية متشابهة في جميع المناطق التقليدية حول المملكة تقريبًا. فلا أعتقد أن هناك نمطًا تقليديًا محليًا لا يراعي ثنائية الرجل والمرأة، أو لا يقوم بترتيب وظيفي لاستقبال الضيوف، وما إلى ذلك من هذه الممارسات. بينما تخضع الأشكال والعناصر المعمارية لعمليات الانتقال والتعديل والتطوير تدريجيًا بين الأنسجة المتجاورة، ضمن عمليات التأثير والتأثر والقبول والمقاومة، التي تتأثر بالقوى الثانوية غير الحتمية التي ذكرناها آنفًا. وهو ما أعتقد أنه يقدم الدعم لنظريات أعمق حول وحدة الهوية المبنية التقليدية في المملكة.


مقالات ذات صلة

أكثر من ثمانية مليارات إنسان يعيشون على هذه الأرض. وأضعاف هذا الرقم هو عدد المرايا الرقمية التي باتت تحاصرنا بما يشبهنا من نسخ. لا غرابة إذًا أن يكون التفرُّد حلمًا بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى؛ التفرُّد بمعنى أن تكون نسخة واحدة لا يُشبهها شيء. غير أن السعي نحو ذلك الحلم ضمير مشترك بيننا، […]

في منتصف التسعينيات الميلادية، كتبتُ عن طليعية التحديث المبكرة للتجربة الشعرية النبطية المجددة للشاعر الراحل الحاضر الأمير بدر بن عبدالمحسن، رحمه الله، وذلك عبر مقال من سلسلة مقالاتي “قراءة ذاتية لتيار جماعي” المتبادلة مع الشاعر علي الدميني. وقد تكون هذه أحد الأسباب، التي حدت بمجلة القافلة أن تطلب مني المشاركة بمقال عن تجربته الشعرية، حرصًا […]

الحديث عن الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن ليس ببعيد عن البحث عن لغة مختلفة يمكن أن تصفه أو تصف تجربته الشعرية المختلفة، بكل ما للكلمة من معنى. لكن الحديث في نهاية الأمر أصبح واجبًا في غمرة الحزن الذي انتابنا برحيله، باللغة التي نراها أقرب إلى ملامسة ما أمكن من أطراف تجربته المتفردة. رسم: عمر صُبير […]


0 تعليقات على “عمارة البادية.. الحلقة المفقودة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *