من الأعلى، من نافذة الطائرة في رحلة من الرياض إلى جدة، تظهر في الأسفل سبع فوهات لبراكين خامدة تنتظم في خط مستقيم. منظرها مذهل، ويُغري برحلة إليها واستكشافها عن قرب. وإن كان الوصول إلى هذه البراكين المهيبة للوقوف أمامها يتطلب بحثًا وجهدًا، وكثيرًا من الشجاعة، فكيف الحال إذا قرَّر المستكشف الغوص داخل فوهاتها؟ هذا ما يرويه الرحال والفنان الفوتوغرافي إبراهيم سرحان عن مغامرته التي خاضها منفردًا للوصول إلى فوهة أحد هذه البراكين، وعاد منها بهذه اللقطات المصوّرة المصحوبة ببعض التأملات والخواطر.
بعد أسابيع من رؤية هذه المخاريط البركانية من الطائرة، تفحصّت بعض الخرائط لمعرفة حقيقتها وموقعها، وعزمت على زيارتها واستطلاعها. وتطلب الأمر أكثر من رحلة واحدة خلافًا لما كنت أتوقع.

في الرحلة الأولى، لم أستطع الوصول إلى الفوهات. فوقفت عند أطراف مكان مهيب، وتضاريس قاسية، وصخور بركانية حادة في كل مكان. لم تكن هناكَ مسارات، ولا طرق ممهدة. وتعذّر حتى الاقتراب بالسيارة من المنطقة المقصودة. حدّثت نفسي بالمشي إليها، ولكن الشمس كانت قد آلت إلى المغيب، وبدا الوقت ضيقًا. فانتهت الرحلة على هذه الحال، وعدت أدراجي من حيث أتيت. لكن مهابة ما رأيته والصعوبات التي واجهتها أشعلت في داخلي مزيدًا من الفضول والشغف؛ لأن كل مكان يصعب الوصول إليه هو على الأرجح مكان بِكر، ربَّما لم تمسه يد إنسان، وربَّما بقي على حاله ملايين السنين.
وتطلب تفحّص الخرائط والمزيد من التدقيق فيها أيامًا لرسم بعض المسارات الممكنة، وقادتني واحدة منها للوصول إلى إحدى الفوهات السبع.
أمام البركان وفي أعماقه
وصلت باكرًا، أوقفت سيارتي على مسافة قريبة، ثم تسلّقت حافة البركان بحذر، حتى وصلت إلى الفوهة. ومن ثَمَّ، وبحذر أكبر، نزلت إلى داخلها وصولًا إلى قاعها حيث بدوت أمام نفسي مثل نقطة صغيرة في منتصفها. كان قاعها مكسوًا بطبقة من الطين الأبيض المتشقق بفعل الجفاف. وعلى غير المتوقع، مرَّت فوق الفوهة طائرة. وراح صوتها يتردد ويتضخم داخل الفوهة بشكل مدوٍ. وما إن غابت الطائرة حتى عاد السكون الطلق يغمر المكان.

ثمة ما يؤجج المشاعر والخواطر في فوهة البركان لغرابة المكان ومهابته. فأنت في مكان كان فيما مضى من الزمان مصدرًا لقوى طبيعية هائلة، قوى شكَّلت سطح الأرض وغيَّرته. كنت أنظر إلى الصخور المتناثرة فأرى فيها بقية من رهبة الانفجار وتطاير الحمم في الظلام، وأتساءل إلى أي مدى سحيق بلغت صيحات بركان غاضب؟ ثم تأملت في نفسي وأنا أقف وحيدًا وجهًا لوجه أمام تاريخ طبيعي ممتد إلى ملايين السنين، فشعرت أن عمر الإنسان قصير جدًا بالنسبة إلى ما حوله.

الخروج من البركان أصعب من دخوله
ليس الوصول إلى الفوهات والبراكين هو التحدي الأكبر، بل الخروج منها. فكثيرًا ما كنت أحاول أن أجد طريقي للعودة في الظلام عبر أماكن يصعب الوصول إليها في ضوء النهار، فكيف بمحاولة مغادرتها ليلًا من دون مسارات أو طرق أو علامات؟ كانت هناك لحظات فقدت فيها تمامًا المسار الذي دخلت منه، بعدما كنت أتنقل كما أشاء من مكان إلى آخر. وفي كثير من الأحيان، يكون الخروج من ناحية أخرى في رحلة اختراق للحرة من طرفين مختلفين. هذا من دون ذكر تحديات أخرى واجهتها في قيادة السيارة عبر تلك التضاريس. ففي أكثر من مرة، كانت السيارة تعلق بين الصخور، ويتطلب الأمر بناء مسار من الحجارة تحت السيارة لمجرد تحريكها مرة أخرى.
ضوء الشمس المتغير يغيّر كل شيء
كان تغير موقع الشمس في قبتها، يغيّر شكل التضاريس وظلالها، فلا تعود تتذكر شكل الدرب الذي سلكته للوصول إلى ما وصلت إليه. ولكن كان لذلك فائدة على صعيد آخر.

فأغلب الصور التي التقطتها كانت حين تتغير الإضاءة وتبرز تضاريس الأرض بألوانها المختلفة، ما بين شروق الشمس وغروبها. حين تتخلق أمام الرائي مشاهد غير مألوفة توحي إليه وكأنه على كوكب آخر. ومع كل صورة كنت ألتقطها، كنت أشعر أنها توثق لحظة معينة من مكان نادر وعجيب.
وعندما نشرت إحدى الصور التي أصبحت الأكثر شعبية من بين كل ما شاركته، رأيت بعد ذلك علامة للمكان على خرائط “غوغل” بالتسمية نفسها التي أشرت إليها في وصف الصور “الفوهات السبع”، ولم تكن هذه التسمية موجودة من قبل.
حرّات المملكة وما فيها
الفوهات السبع هي مجرد واحد من الحقول البركانية العديدة التي تحتضنها المملكة، وتُعرف محليًا باسم “الحرّات”. وهي مساحات شاسعة من الحمم المتجمدة التي تدفقت قبل آلاف أو ملايين السنين، وتغطي مساحة تقدَّر بنحو 90 ألف كيلومتر مربع؛ أي ما يمثل نحو %4.6 من مساحة المملكة. وتتركز هذه الحرّات بشكل رئيس في المناطق الغربية على هيئة شريط محاذٍ لساحل البحر الأحمر. ويعود أصل تسمية “الحرة” إلى طبيعة أرضها ذات الحجارة السوداء النخرة التي تبدو وكأنها أُحرقت بالنار، كما ورد في معاجم اللغة العربية. وتتميز بتنوع أشكالها وظواهرها الجيولوجية، من المخاريط والفوهات، وتضم بعض الحرّات كهوفًا وأنفاقًا بركانية، مثل كهف أم جرسان في حرة خيبر الذي يبلغ طوله نحو 1350 مترًا.

وإلى ذلك، تضم المملكة مظاهر جيولوجية نادرة في هذه الحرّات وجوارها. فعلى سبيل المثال، تتميز جبال الأبيض، والبيضاء، وحليّة المنسف البركانية في حرة خيبر، بلون صخورها البيضاء المكوّنة من الصخور الحمضية “الكومندايت”، وهو ما أعطاها شكلًا مميزًا بين طفوح ولابات بركانية سوداء محيطة بها.
مواقع تستحق جهد الزيارة
تتطلب زيارة هذه المواقع قدرًا من الجهد والاستعداد بسبب طبيعة تضاريسها القاسية، وخاصة عند محاولة الوصول إلى نقاط معينة. فكثير من الحرّات تتميز بتكوينات وعرة من الحمم المتجمدة، التي تحول بينها وبين من يريد الوصول إليها، ولو مشيًا على الأقدام إلى حيث يستحيل الوصول بالسيارة.
الحرّات البركانية في السعودية هي كنوز طبيعية لم تنل حظها من الشهرة العالمية بعد. فعلى الرغم من أنها تشكّل واحدًا من أكبر الحقول البركانية في العالم، فإن جمالياتها لا تزال غير معروفة لكثير من الناس، حتى داخل المملكة نفسها. وما هذه الصور إلا من ضمن مشروع شخصي مستمر منذ سنوات في استطلاع هذه الحرّات وتصوير معالمها وتفاصيلها الرائعة.

اترك تعليقاً