ربَّما لا يشبه عباس الموسوي أحدًا سواه. فنانٌ بمشهدية متفردة، يشكل ذاته كما يشكل لوحاته، فغدا كل شيء فيه مكملًا لرؤاه الإبداعية؛ قبعته أولًا، تلك “الفيدورا” الأنيقة بتاجها المجعد وحافتها المرنة، والتي غالبًا ما يعيد تشكيلها، فتغدو لريشته ملمسًا عليها، تُضفي فرادة مستمدة من فرادته. أمَّا الوشاح الذي يطوِّق عنقه، فأشبه بنغم يتمم سمفونيةً بصريةً يحب أن يكون عليها دائمًا. فيما يأخذ قميصه هيئة نابضة بالألوان والأشكال، فيكمل بذلك تناغمه الفريد بين هيئته الخارجية المزينة بالألوان والإبداعات، وروحه الفيّاضة بها.
التكامل بين الفن والحياة، فلسفة يتكئ عليها التشكيلي البحريني الفنان عباس الموسوي، المولود في قرية “النُّعَيم” بالعاصمة المنامة عام 1952م، حيث تماهى منذ طفولته مع مشهد بصري متكامل، سيصبح لاحقًا ذاكرته ومنهلًا يغرف منه إبداعاته، على مدى خمسة عقود من الاشتغال.
في وعيه البصري، تتشكَّل ثلاثية يتصوَّرها سرمديةً في ذاكرته منذ نعومة أظفاره: الأسواق، والبحر، والنخل، ويجمعها عنصر رابع هو الفضاء المكاني المسمَّى (قرية). تلك الذاكرة، التي ستتجلى في مختلف أعماله، مؤلفةً موضوعاتها، ومانحةً هويتها البصرية، وصائغةً ملامحها بخصوصية فريدة، تجعل منها امتدادًا حيويًا لذاكرة المكان، وجسرًا سيأخذه لاحقًا لإطلاق مشروع السلام؛ ليتحوَّل بفنه من المحلية إلى العالمية.

قبل سؤال النشأة.. الطريق إلى الجنة!
تُبشِّرك الطرقات المؤدية إلى محترفه بأنك تقصد فضاءً فنيًا فريدًا، وجنة إبداعية صاغها بنفسه. على جانبي الطريق جداريات تمتد إلى عشرات الأمتار. المنحنيات تأخذك إلى مزاوجة بديعة بين الشجيرات وظلالها، والأعمال الفنية وإبداعها. وأنت تقف أمام جنته لا تستطيع السيطرة على بصرك وهو يمسح المكان متفحصًا التفاصيل الفنية في كل الزوايا. تقف كما لو أنك أمام معرض في الهواء الطلق؛ تفاصيل الواجهات، النوافذ والأبواب، الجدران والشجيرات، الهوامش التي أعاد تدويرها فمنحها أبعادًا جماليةً بعد أن كانت ذات أبعاد قبيحة ومهملة!
ثم يستقبلك الموسوي بطقوس المكان، يطرق على قيثارة دلمونية عملاقة أمام مدخل جنته، يقول: “للمكان طقوسه التي أستقبل بها الوافدين إليّ، أغمس عصًا في الماء، ثم أمررها على القيثارة، إيذانًا بدخول الضيف”. يشير إلى أحجار حديدية، تبدو كما لو أنها من “الهيماتيت”، وقد وضعت في حواضن فنية: “هذه أحجار من خام الحديد، تمنح للمكان طاقته الإيجابية!”، ثم يشير إلى حرّاس المكان الذين ستراهم في كل الزوايا، وهم مجسمات على هيئة إنسان متأنق ومشكل بأسلوب تجريدي.
على بعد أمتار تتخلق الذاكرة
ابن “النُّعَيم”، الذي نشأ فيها مشبعًا بكم هائل من مظاهر الحياة والحيوية والتغيير، كان جار البحر، “يبعد بيتنا عن ورش صناعة السفن التقليدية 30 مترًا، والبحر كذلك.. فكنا كلما خرجنا من المنزل رأينا السفن وهي تكبر وتكتمل يومًا بعد آخر. وبعد تسعة أشهر إلى عام، تصير السفينة جاهزة، فيأتيها الصناديد من الرجال لسحبها إلى البحر، وهم يرددون الأهازيج، ويتوزعون الحلوى البحرينية. أمَّا نحن الأطفال، فكنا نعيش هذا الطقس، ونحن نمرح ونلعب بين الخشب المُعدِّ لصناعة السفن، نتنفس رائحته، ونتشبع بألوانه”.
كان الطفل عباس، يتحلَّى بفضولية السؤال: “أسأل كلما عدت من المدرسة ذاك القلَّاف الذي يمكث طوال اليوم يصنع سفينته: تُرى متى تكتمل؟ فيجيب: عندما تحفظ درسك كاملًا! لكنني دُهشت عندما قال لي قلاف ذات مرة: كما ترسمون السفينة وتبدعونها على الورق، نبدع نحن بناءها في الواقع. كان ذلك رده عليَّ عندما أبديت اندهاشي من صنعهم السفينة من دون هندسة وخرائط”.
أمَّا البحر، فكان عباس دائم التردد عليه منذ صباه، “احترفت الصيد منذ صغري. كنت أعرف أنواع الأسماك وسلوكياتها، ولم أكن مهتمًا بالرسم، إذ لم أدرك أنني موهوب فيه، لكن زملائي الطلاب في المرحلة الإعدادية، كانوا يترددون عليَّ لأرسم لهم الطيور، والحيوانات، وصور اللاعبين!”.


في تلك المرحلة، التقى الموسوي بأستاذه الفنان عبدالكريم البوسطة، ففُتِن بفنه، وأخذ يرافقه ويراقبه وهو يرسم الطبيعة البحرينية ببساتينها وعيون مائها وقراها وسفنها.. وتولَّدت لديه فكرة أن يطلعه على بعض رسوماته: “كنت أمارس في أوقات فراغي الرسم، من خلال إعادة رسم الأعمال الكلاسيكية التي أطلع عليها في الكتب، فحملتها إلى منزله، وأطلعته عليها، لأُريه كيف بوسعي أن أنقل تلك الأعمال بشكلٍ متقن”.
مبتعث الفنون الأول بحرينيًا
بعد عودة الفنان أحمد باقر، أحد روَّاد التشكيليين، إلى البحرين متخرجًا من “البوزار” الفرنسية، بدأ بتدريس الفنون في المعهد العالي للمعلمين، النواة الأولى لجامعة البحرين. هناك التقى عباس الموسوي بأستاذه الذي أدرك فيه موهبة استثنائية تستحق التعمق والتطوير.
“في المعهد، كنت أتفوق على أقراني في الرسم. وفي العام الثاني التقيت أستاذي وصديقي الفنان القدير أحمد باقر، فشاركته جولات رسم الطبيعة، وإقامة المعارض والبرامج الفنية، وهو ما دفعه إلى مخاطبة وزارة التربية والتعليم، لتخصيص بعثة لدراسة الفنون، فكنت أول مبتعث بحريني لدراسة الفن في القاهرة”.
قبلها بسبع سنوات، كانت أولى مشاركات الموسوي في المعرض السنوي للفنون التشكيلية عام 1972م. ولم تمضِ سوى خمس سنوات، حتى حقَّق الجائزة الأولى في هذا المعرض؛ ليؤكد حضوره بوصفه فنانًا واعدًا على الساحة التشكيلية البحرينية. كانت سبعينيات القرن الماضي سنواتٍ حافلةً لفنان أخذ يمارس أعماله بحماسة، خاصة بعد تخرُّجه عام 1979م، متخصصًا في التصميم الداخلي، عائدًا إلى البحرين بحماسة الشاب المُحمَّل برؤى فنية جديدة. وهو ما يوضحه بقوله: “كنت شابًا متحمسًا للفن، وبلغت بي الحماسة أن كنت أرسم، في منتصف الثمانينيات حتى مطلع التسعينيات، أربع لوحات في اليوم الواحد”، وهي مرحلة سيصفها لاحقًا الفنان الشيخ راشد بن خليفة آل خليفة، رئيس المجلس الوطني للفنون، وصاحب “مؤسسة راشد للفنون”، بأنها “العصر الذهبي لعباس الموسوي”.

انطباعي الذاكرة السرمدية!
تميَّز الموسوي بأعماله المتنوعة بين الانطباعية والتعبيرية والتجريدية، متخذًا في كل مرحلة من مسيرته الفنية أسلوبًا أو موضوعًا، لكنه ظلَّ أسير ذاكرته السرمدية، كما وصفها، مفتونًا بالأسواق والقرية والبحر؛ إذ تنقَّل في تنفيذ رؤاه لهذه التنوعات بين التجريد النسبي والتجريد البحت. لكنه لا يمكث طويلًا في الأخير، مفضلًا اتباع أسلوبه الانطباعي الخاص، “أنا انطباعي ابن المكان، والأرض، والبيئة المحلية. ابن البحرين الجزيرة الجميلة، ابن النخلة، والقرية، والبحر، والصحراء…”.
لم تقتصر هذه الانطباعية على بحرينه التي فُتِن بها، حتى قال بلهجة محكية “نتّفت طبيعتها من الرسم”، قاصدًا أنه أشبع كل طبيعتها رسمًا، فغادرها إلى باريس، متخذًا الجنوب الفرنسي محترفًا: “مكثت في الجنوب عامين، معمقًا انطباعيتي برؤى الفنانين الانطباعيين الكبار، فأخذت أرسم طبيعة الجنوب، وأنتجت حينها ثمانين عملًا مستلهمًا من طبيعته الخلابة، كما أنجزت مئة عمل لـ(حديقة كلود مونيه)، وكل تلك الأعمال مقتناة في أوروبا”.
المُحاط بالأزرق بحرًا وسماءً
تميزت أعمال الموسوي بغناها اللوني وتدرجاتها الحيوية، لكنه في مرحلة يمكن أن نطلق عليها “المرحلة الزرقاء”، اتّخذ من الأزرق وتدرجاته لونًا طاغيًا على معظم أعماله، فصارت الأسواق زرقاء، والقرية كذلك.. ربَّما من المبرر أن يكون البحر كذلك، لكن كيف “يُزرقن” الأسواق والقرى؟ وكيف له أن يبعث روحًا حيوية تناقض ما آلت إليه أعمال بابلو بيكاسو في مرحلته الزرقاء، التي تطغى عليها الكآبة والوحدة واليأس؟ يكمن ذلك في فلسفة الأزرق لدى الموسوي: “الأزرق لون حديث ومعاصر، فالعالم الفني كان يعتمد على الألوان الواقعية؛ إذ لم يكن الأزرق يُرى إلا في البحر والسماء. لكننا في البحرين، حيث يحيطنا البحر والسماء، وجدت نفسي متأثرًا بهذا الامتداد اللوني، خاصة بعد أن أثار صديقي الراحل الفوتوغرافي علي خميس سؤالًا: عباس، هل جربت الأزرق؟ فأخذت سؤاله على محمل الجدّ، وانطلقت في تجربةٍ أفضت إلى لوحات زرقاء استحوذت على اهتمام العديد من المقتنين”.
وسواء على صعيد الفلسفة اللونية التي يتبناها، أو الأسلوب الفني الذي يتبعه، فإن الفن في مرآته رقصة يتماهى فيها الإيقاع بالحركة، والخط باللون، والانفعال باللحظة الإبداعية، وهو كذلك تجريب متراكم، واشتغال دائم.
المتيم بالأسواق وخصوصيتها
لم يكن شغف الموسوي بالرسم منفصلًا للحظة عن ذاكرته، بل كان امتدادًا لها؛ إذ استلهمها في أكثر أعماله، فجاءت القرية والبحر والأسواق عناصرَ متجذرة. أمَّا القرية، فلأنه نشأ فيها وعاش تفاصيلها، متنقلًا بين القرى الأخرى برفقة والده، وهو ما أتاح له رؤية المشهد القروي بعمق وانغماس، فانعكست تجربة أصيلة في أعماله. فيما عاش البحر صبيًا، ففُتِن بزرقته وامتداده، وصار البحر حالة شعورية بصرية متكررة في إبداعاته. أمَّا الأسواق، فحكايتها مختلفة، حيث رسمها بأسلوب الرسم التصويري، متأثرًا بخبرته بوصفه مصورًا فوتوغرافيًا، ومطورًا رؤى مستحدثة لإخراجها بشكل غير تقليدي، حتى باتت في لوحاته نابضة بالحياة، تتداخل فيها الألوان، وتتحرر الخطوط، مشكلةً بصمته الفريدة.

الفن من أجل السلام
لم يكن الموسوي إنسانًا ميالًا إلى الركون، بل كان دائم الحركة، مشبعًا بشغف المبادرة والمشاريع الفنية التي تعكس رؤاه؛ إذ نبذ الراحة بمفهومها السلبي، وانطلق مؤمنًا بأن الفن رسالة مستمرة، وحراك لا يعرف السكون، فأطلق مشروعه العالمي “الفن من أجل السلام”، وهو مشروع بدأه منذ عام 1991م، لكنه اكتسب زخمًا عالميًا عندما دُعي في عام 2017م لتقديم عمل فني احتفالًا بمرور 60 عامًا على تأسيس الأمم المتحدة.
فما بين حربي الخليج الأولى والثانية، بادر الموسوي إلى دعوة أقرانه الفنانين في “جمعية البحرين للفنون التشكيلية” لإطلاق صرخة رافضة للحرب وويلاتها: “كنت مؤمنًا بقدرة الفن على مخاطبة الناس، ولهذا أطلقت مشروع (الفن من أجل السلام)، على الرغم من أن العديد من الفنانين تساءلوا: مَن يا تُرى سيسمعك؟ لكني كنت مؤمنًا بقوة وعمق الرسالة الفنية، فأقمت معرض (لا للحرب)، ومن ثَمَّ، توالت المعارض المتعلقة بهذه الرسالة، ومنها: العذراء والغول، والصحراء تحترق، وليلة الكريسمس على بغداد”.
لقي معرض “لا للحرب” صدًى على مستوى الخليج العربي والعالم. فأطلق الموسوي مشروع “2000 يوم”، وهو مشروع امتد من مطلع التسعينيات حتى عام 2000م، حيث أقام كثيرًا من الفعاليات، وأشرك طلاب المدارس ورياض الأطفال، إضافة إلى دعوة السفارات لإقامة فعاليات يومية تدعو للسلام، “كنت أمول المشروع من خلال بيع أعمالي الفنية، مؤمنًا بأن رسالة السلام تستحق بذل الجهود من أجلها.
ومع مرور الوقت، تلقيت إشادة من الدولة ممثلة في الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، كما قدمت الوزارات والمؤسسات المختلفة مساعدتها، لكني كنت حريصًا على أن يظل المشروع مستقلًا بعيدًا عن التسييس أو التحول إلى مشروع تجاري” ، وأصرَّ على أن يبقى مشروعًا إنسانيًا للجميع، متحررًا من الانتماءات، ومنفتحًا على كل الأديان والأعراق والألوان: “كثيرون حاولوا استقطابي، وأرادوا أن يكون المشروع تحت مظلتهم، لكني نأيت به عن أي تبعية؛ ليكون رسالة نقية تتجاوز الحدود، وتخاطب العالم بلغة واحدة: لغة الفن والسلام”.
لكن ذلك لم يمر بسلام على الموسوي، “فحتى الجانب الآخر، أولئك الذين لم يستوعبوا فكرة أن عربيًا يقود مشروعًا عالميًا للسلام، حاولوا التشكيك في المشروع، وعرقلته في الأمم المتحدة، لكنه كان راسخًا كالفن ذاته، واضحًا كألوانه، نقيًا كرسالته. وبفضل هذا النقاء في الرؤية، تجاوز المشروع المحلية، وتلقينا دعوات من 20 دولة، ليكون هذا المشروع من البحرين إلى العالم”.
سيرة موجزة
وُلِد الفنان البحريني عباس الموسوي في المنامة عام 1952م، ليصبح أحد أبرز وجوه الفن التشكيلي في البحرين والخليج العربي. تلقى تعليمه الفني الأول على يد الفنان الدكتور أحمد باقر، قبل أن يواصل دراسته في جامعة القاهرة، حيث تأثر بالأسلوب الانطباعي للفنان صبري راغب.
حصل على دبلوم تدريس الرسم عام 1975م، ثم نال بكالوريوس التصميم الداخلي من مصر عام 1979م. وفي نوفمبر 2024م، أقام معرضه الشخصي “50 عامًا من الفن والسلام”، كما شارك على مدى خمسة عقود في معارض امتدت من أوروبا إلى الشرق الأقصى، وأسهم في إطلاق عديد من المنصات والمشاريع الفنية.
كلما حاولتُ تجاهل الفن، ظنًّا مني أنه شيء كمالي، كان الفن يقاتل بكل قوته ليثبت أنني على خطأ. ليقول: أنا نبضٌ يتجدد في الحياة، كلما بدا أنه يتناقض، ازداد حضورًا. أنا كالزهور التي تزيّن المكان، وشعاري: أنا هبة من الله للناس، ودليلٌ على إبداع الله في الإنسان.