لسنا بحاجة إلى تأكيد جاذبية المرأة الجميلة، ويمكننا أيضًا الاتفاق على أثر هذه الجاذبية في مجالات الحياة المختلفة، خاصة ما يتصل بالحضور الإعلامي والفني. لكن الأمر هنا مختلف قليلًا؛ إذ نحاول اكتشاف أثر جمال المرأة عليها وعلى المتعاملين معها في الوسط الإبداعي الأدبي. فهل إذا كانت المرأة المثقفة جميلة في الوقت نفسه، تبقى بالدرجة الأولى جميلة، ومن ثَمَّ مثقفة؟ وأي عقبة يمثلِّها جمال المرأة فيما لو قرَّرت أن تُصبح كاتبة أو شاعرة أو روائية؟
تقرِّر ناعومي وولف صاحبة كتاب “أسطورة الجمال.. كيف تُستخدم صور الجمال ضد المرأة؟”، أن النساء استطعن اختراق الخطوط الحمراء التي أحاطت بوجودهن عبر التاريخ. بدأ هذا الاختراق من الموجات الأولى للحركة النسوية خلال النصف الأول من القرن العشرين. ولم يكن تجاوز العقبات أمرًا سهلًا. لكن المفاجأة التي تُجادل الكاتبة حولها هي أنه مع حضور النساء في النطاق العام، ينمو تصوُّر أسطوري لديهنَّ عن معايير جمال المرأة، يُمكن تلخيصه في المرأة الطويلة والنحيفة وبيضاء البشرة وذات الشعر الأشقر، التي يخلو وجهها من الندوب وعلامات تقدُّم السن. لقد مثَّل هذا التصوُّر عبئًا عميقًا في وعي النساء، بحيث لم تعُد هناك من ترضى بجمالها، جريًا وراء تلك الصورة الأسطورية التي لم تجتمع تفاصيلها لدى امرأة واحدة قطُّ. ليس الجدل حول الكاتبة الجميلة ببعيد عن هذا التصوُّر. فجمال الكاتبة يبدو أيضا عبئًا عليها، ليس من زاوية رغبتها في الوصول إلى نموذج مُعيَّن للجمال، وإنما من زاوية رد الفعل الثقافي متمثلًا في الكتّاب والكاتبات والمسؤولين الثقافيين من الجنسين.
لنتفق أولًا على أن جمال المرأة يمثِّل نوعًا خاصًا من الضغط على وعي الرجال المتعاملين معها. وهو نوع مُعقّد ومُوجع في آنٍ، وذلك بسبب اجتماع عدد من العوامل التي تشكِّل هذا الضغط بنسب مختلفة طبقًا للأنساق الثقافية في مجتمع مُعيَّن. هنا علينا ألا نتوقف عند حدود الجمال الشكلي الذي تختلف مقاييسه من ثقافة إلى أخرى، وهو ما سنتفق عليه ضمنًا دونما تحرٍّ لمعاييره، بل يجب أن نضيف إليه الوعي الخاص الذي تملكه الكاتبة بوصفه قيمة مُضافة لجمال الشكل.
لكن كيف تصعد المرأة الكاتبة عمومًا؟
لفترة طويلة في مجتمعاتنا الشرقية، لم يكن من السهل أو المقبول أن تحاول النساء الانخراط ضمن مجتمعات الكتَّاب والحصول على الأدوات اللازمة لتطوير شغف من تريد منهنَّ أن تصبح كاتبة. كانت نوادي الأدب ومقاهي المثقفين تعاني ندرةً في العنصر النسائي، وغالبًا ما مثَّلت الفتيات قبل مرحلة التخرُّج في الجامعة العدد الأكبر من الحضور النسائي. الأمر هنا يبدو مُربكًا قليلًا؛ إذ كانت الكاتبة الجميلة تُحاط بنوع خاص ومُركَّب من الرِّيبة، لأنها امرأة ولأنها جميلة ولأنها كاتبة.
يمكننا تمييز شكلين من ردود الفعل التي تنتج من هذا النوع من الرِّيبة المحيطة بالكاتبة الجميلة في بداية ظهورها على الأقل: الأول هو الحفاوة الزائدة بها التي تسعى إلى الاحتواء والتوجيه، أو العداء الحاقد عليها الذي ينتج غالبًا من غيرة مباشرة أو خيبة أمل.
وبغض النظر عن الأسباب، يمكننا البدء من فرضية أقرب إلى الحقيقة الثقافية. وهي أن الكاتبة الجميلة تتمتع بتعامل خاص في الأوساط الثقافية العربية، وتحظى كتاباتها باهتمام إعلامي ونقدي أوسع، في البداية على الأقل. وبذلك تدخل الكاتبة الجميلة الوسط الثقافي، وقد حملت منذ البداية عبئًا ثقيلًا من التنميط الاجتماعي والاشتهاء والحقد والرغبة في الاستخدام جميعًا.
مبدعة لأنها جميلة.. أم جميلة لأنها مبدعة؟
هناك مشهدان يحتاج إليهما السياق، الأول حدث في الطريق إلى مؤتمر في الهند؛ حيث كان من السهل في مطار مدينة جايبور الصغير التعرُّف إلى ضيوف المؤتمر بين الوجوه والملابس الهندية المميزة. ظهر بصورة غير معتادة غربيون من ذوي البشرة البيضاء وملامح آسيوية وشرق أوسطية، وسيدة سمراء وحيدة تجلس بهدوء واضعة نظَّارات غليظة. تبادلنا جميعًا النظرات والابتسام وهزَّ الرؤوس. على مستوى الملامح لم تكن السيدة ذات النظَّارات لافتة، كما أنها ليست جميلة بالمعايير الإفريقية. في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر اعتلت السيدة نفسها المنصة لتُلقي محاضرة ضيف الشرف. عرفت، حينئذٍ، أنها من أشهر كاتبات أمريكا في مجال العلوم الاجتماعية. حين بدأت الكلام وتركيب الأفكار أخذت ملامحها في التبدُّل تدريجيًا، وعلا وجهها بريق ازدادت لمعته، وافترَّ ثغرها عن ابتسامة مُشرقة، وتطايرت أشعة الذكاء والانفعال بالأفكار من تحت نظَّاراتها؛ ببساطة أصبحت إنسانًا أو امرأة شديدة الجمال.
المشهد النقيض حدث أثناء دراستي في كلية الآداب بجامعة القاهرة. كانت الفتاة ذات الشعر البني والعيون الخضر والبشرة الباهتة التي تُوحي برقَّة مُطلقة، تُراودني في منامي. حين رأيتها تقف ذات نهار مع زميلة أعرفها ذهبت مُسرعًا لاغتنام الفرصة. بعد خمس دقائق من الحوار تبدَّد الجمال معظمه من عيني، وتمنيت لو لم تتكلم قطُّ.
الجمال نسبي، وهو مرتبط بالشكل الخارجي والوعي كليهما.
نسبية الجمال والتنميط الثقافي
يُمكننا نظريًا أن نجادل في نسبية الجمال، وكيف أن مستوى الوعي ونوعه يؤثران في رؤيتنا لجمال صاحبهما. لكن الأمر يبدأ في الالتباس إذا تأملنا السلوك الفعلي في ثقافات مرتبكة تتحوَّل فيها الخطوط الحمراء العلنية إلى رادع مُخيف للخيال والطبيعة الإنسانية، يدفع مساحة الخفي السرِّي للتمدُّد حتى تصبح ورمًا مؤلمًا يزن أضعاف العلني الصريح الباهت، ويُثقل خطو التقدُّم الحضاري للمجتمعات والإبداع الفردي كليهما. هنا يصبح مفهوم الجمال مرتبطًا باحتياجات أساسية من ناحية، وبصور نمطية متبادلة بين الجنسين من ناحية أخرى، بحيث يفقد معظم الأفراد القدرة على النظر بصورة موضوعية إلى الإنسان امرأة كـان أو رجلًا.
حين تملأ الصور النمطية الفضاء العام بين الكائنات، يتحوَّل الجمال إلى حاجز صلب بين الكائن الجميل، وهو في حالتنا المرأة، والمتعاملين معها من الرجال بالتحديد؛ بحيث يصبح التعامل مُؤَسّسًا ومنطلقًا من قاعدتين: الأولى هي الاحتياجات التي يُشعلها جمال المرأة، والثانية هي الصورة النمطية عن وعي المرأة وتكوينها الشخصي عمومًا. فالكاتبة الجميلة تبدو استثناءً نسبيًا وليس كاملًا من هذا الوضع؛ إذ تملك القدرة على الإعلان عن ذاتها ووعيها وشخصيتها، وهو ما يُزاحم الصورة النمطية. لكن هذا الوعي الفائق نسبيًا يزيد من ضغط جمالها الشكلي على وعي الرجال المتعاملين معها.
الأمر عميق وموجع كما أشرنا من قبل. لكن ماذا عن الكاتبة الجميلة نفسها؟ هل يمثِّل جمالها في ثقافات معيَّنة تهديًدا لهويتها بوصفها إنسانًا مبدعًا؟ بعبارة أخرى: هل يفقد الإنسان أو المرأة هويته حين يصبح جميلًا بحيث تصر بعض الثقافات على التعامل مع الجميلة الكاتبة، وليس مع الكاتبة الجميلة؟
“كلَّما تمكَّنت النساء من اختراق مزيد من العوائق القانونية والحياتية، أصبحت صور الجمال الأنثوي تمثِّل عليهنَّ ثقلًا أكبر وأقسى.”
هناك عمق أبعد من ذلك؛ إذ لن يستمر اختصار الكاتبة الجميلة في جمالها طويلًا، أيًّا كانت الأنساق الثقافية التي تتعامل ضمنها. فالوسط الثقافي والفني تحديدًا يفسح المجال أكثر من سواه للمرأة كي تُعبِّر عن وعيها وتُظهر ملامح شخصيتها الخاصة. هنا نحن أمام مزيد من الافتراضات التأسيسية لهذا الجدل: لا بدَّ أن يكون لدى الكاتبة الجميلة قدر مبدئي من التميز الإبداعي والفكري يسمح لها بدخول مجتمع النخبة المُبدعة والمثقفة. وعلى هذا التميز الإبداعي أن يحافظ على حضوره وأصالته، شأنه في ذلك شأن الرجل الكاتب. يبدو أننا تقدَّمنا خطوة في فهم علاقة جمال الكاتبة بالواقع الثقافي العربي، وهذا ما يطرح سؤالًا مهمًا: إن كانت الكاتبة الجميلة تملك مساحة من الإبداع، فما تأثير الجمال في إبراز هذه المساحة وتطويرها أو تبديدها؟
نحن أمام نسبية مُربكة؛ فالوسط الثقافي سيبدو فاتحًا ذراعيه للكاتبة الجميلة، لكنه سيتنازعها بين حفاوة زائدة وعداء حاقد وموضوعية عاقلة. نحن لا نريد توسيع الدائرة لتشمل شبكات المصالح التي تحكم العلاقات في الأوساط الثقافية العربية، بغض النظر عن النوع الجنسي، فقط نقف عند جمال الكاتبة، كما لو كان هذا الجمال منفصلًا عمَّا عداه من عناصر تحكم حضورها في المشهد.
لنعد إلى الاحتمالات الثلاثة التي نقترحها: أولًا الحفاوة الزائدة التي تمثِّل سلاحًا ذا حدين شديد الأثر. إذ يمكن أن تساعد تلك الحفاوة على تفتُّح طاقات الإبداع لدى الكاتبة الجميلة وتطوير وعيها وقدراتها النوعية. لكنها في الوقت نفسه ستمثِّل عائقًا مستمرًا بسبب ما قد يصاحب هذه الحفاوة الزائدة من مطالبات ضمنية قد تستدرج الكاتبة الجميلة أو تدفع بها إلى الدخول ضمن شبكات علاقات ومصالح ذات سمت تبادلي بمنطق السوق. هنا يتحوَّل الاحتفاء الزائد إلى فخ تناقضي يتوقف انتصار أحد طرفيه على قدرة الكاتبة الجميلة نفسها على إدارة موهبتها وعلاقاتها جميعًا، ومدى سماحها باستثمار جمالها بمنطق تسويقي، بوصفها نجمًا أو سلعة مثل نجوم الطرب والسينما والإعلام.
مع استمرار الافتراض بأن الكاتبة الجميلة موهوبة ومبدعة بدرجة جيدة، يكون الاحتمال الثاني هو العداء الحاقد، الذي غالبًا ما سيصدر عن نوعين من الفاعلين في أوساط النخبة الثقافية: الكاتبة الأقل جمالًا التي لا تحظى بالحفاوة الزائدة نفسها، والكاتب الذي لم تكن توجهاته نحو الكاتبة الجميلة موضوعية، وقامت هي بصده أو عدم الاستجابة لتصوراته عنها. هنا يتحوَّل الجمال إلى لعنة تطارد الكاتبة الجميلة من داخل الوسط الثقافي نفسه.
الاحتمال الثالث هو التعامل مع الكاتبة الجميلة بموضوعية عاقلة تحكم على كتاباتها طبقًا لمعايير الفن بعيدًا عن الشكل الخارجي أو جاذبية الشخصية، وهو ما ينتهي إليه الأمر غالبًا مع إصرار الكاتبة الجميلة على تطوير قدراتها وعدم استثمار جمالها.
لكن، ماذا عن رد فعل الكاتبة الجميلة على التوجهات السابقة؟ يمكن حصر حالة التحدي العقلي والنفسي للكاتبة الجميلة في خطابي الاحتفاء المبالغ فيه والعداء الحاقد. هنا يبدو الجمال عبئًا ثقيلًا بصورة حادة. ففي حالة الاحتفاء المبالغ فيه، ينتصب فخ شديد الإغواء للكاتبة الجميلة؛ فإمَّا الاستسلام لهذا الاحتفاء بما يفرضه من مطالبات بالرد والانخراط في شبكات مصالح مُعطِّلة، وإمَّا مقاومته والمغامرة بإمكان تحوُّل هذا الاحتفاء الزائد إلى عداء. أمَّا العداء الذي يصدر عن حقد أو إحباط لأهداف غير إبداعية، فهو ضغط شديد ومباشر، لكنه أقل خبثًا من الاحتفاء الزائد.
ل
“ماذا عن الكاتبة الجميلة نفسها؟ هل يمثِّل جمالها في ثقافات مُعيَّنة تهديدًا لهويتها بوصفها إنسانًا مبدعًا؟ بعبارة أخرى: هل يفقد الإنسان أو المرأة هويته حين يصبح جميلًا؟”
لماذا الكاتبة الجميلة وليس الكاتب الجميل؟
موضوع الكاتب الجميل أو الوسيم يمثِّل الوجه الآخر لعملة الكاتبة الجميلة في الثقافات العربية، وهو يبدو للوهلة الأولى مثيرًا للنقاط الجدلية نفسها التي تناولها هذا المقال حول الكاتبة الجميلة. لكنه في الواقع ليس كذلك في مجتمعات ذكورية يملك الرجال فيها مقاليد السلطة الاجتماعية والثقافية بنسبة كبيرة. بداية، تبدو معايير الجمال الذكوري مختلفة طبقًا للصور النمطية الشرقية، لكننا سنقف عند المحددين الأساسين اللذين استخدمهما هذا المثال: جمال الشكل وعمق الوعي. الكاتب الجميل بصورة تفوق المعتاد ربَّما أثار العاملَين الأخيرين فقط في الوسط الثقافي: العداء الحاقد والتعامل الموضوعي. غير أن التعامل الحاقد هنا سيكون أقل ظهورًا في العلن طبقًا لسياسات الخطاب الثقافي العربي، الذي لا يعترف بجمال الرجل بوصفه عنصر تأثير في محيطه الأنثوي خاصة، بحيث ستبقى عوامل الغيرة والحقد بين الرجال مختفية عن سطح الوعي.
وغالبًا، ستدور صراعات خفية بين الرجال المهيمنين، كما أشرنا، على مقاليد السلطة في الوسطين الثقافي والاجتماعي، خاصة في حضور المرأة، ثم سيقوم بعض هؤلاء المتصارعين بتبادل التنميط بصورة ضمنية تبقى تحت السطح، في حين تسود العلاقات بينهم حالةٌ تشبه الحرب الباردة القابلة للانفجار بصورة جزئية مؤقتة. لهذا، غالبًا ما يخرج الكاتب الوسيم بقدراته إلى مساحة الفعل الاجتماعي، من دون أن يكون لهذا الجمال الشكلي أثر كبير في حضوره الثقافي.
اترك تعليقاً