مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير - فبراير 2023

عالم الميتافيرس ليس حلمًا ورديًا


د. جاستن توماس

ثورة مرتقبة في التواصل والطب والسفر.. فماذا عن آثاره النفسية؟

شاركتُ مؤخرًا في مشروع بحثي عن الواقع الافتراضي، بحثتُ فيه مع زميلي الأستاذ في الإعلام الرقمي الإبداعي، تأثير المساحات الخضراء الافتراضية على الصحة النفسية، ومن ثَمّ لم أستطع مقاومة تجربة التقنيات بنفسي، لذا وضعتُ نظارة عرض الواقع الافتراضي، ووجدتُ نفسي محاطًا على الفور بأنواع مختلفة من الشجيرات داكنة الخضرة، والأوراق المتطايرة في مهب الريح، فيما كان صوتُ خرير جدول ماء ضحل بالقرب مني. كانت تجربة الواقع الافتراضي الانغماسـي رائعـة، إلا أنني كنتُ وحيدًا، فالشيء الوحيد المفقود كان وجود أشخاص آخرين. لكن ما كان حدثًا ثوريًا قبل أيام سيصبحُ من الماضي قريبًا، حين يحلُّ مكانه عالم “الميتافيرس”.

د. جاستن توماس

وفقًا لصحيفة “وول ستريت جورنال”: “الميتافيرس هو عالم افتراضي مترابط، تتجمع فيه شخصيات رقمية “أفاتارات” من كافة أنحاء العالم للتسوق والدراسة والتواصل الاجتماعي والعمل”. 

فالميتافيرس هو في الأساس المكان الذي يلتقي فيه الإنترنت بالتقنيات الانغماسية مثل الواقع المعزز والواقع الافتراضي. ويصفُ عديد من المطلعين هذه التطورات الناشئة بأنها الجيل الثالث من الشبكة العنكبوتية، أي أنها تطور ثوري أصبح ممكنًا بفضل شبكات الأجهزة المتنقلة الأسرع، والتقدم في تقنية الواقع الافتراضي، وطرح تقنية (البلوك تشين) والعملات الرقمية المشفرة.

وتُعرّف مجلة (Cyberpsychology and Social Networking) مصطلح عالم الميتافيرس بالعبارات الشيقة التالية: “مصطلح ميتافيرس (Metaverse) هو كلمة مركبة تجمع بين مفهومين، ميتا (Meta) وهي بادئة يونانية تعني بعد أو ما وراء، وكلمة (universe) وتعني الكون. أي أن الميتافيرس بعبارة أخرى هو عالم ما وراء الواقع، فيه بيئات متعددة المستخدمين، يربط بين وسائل التواصل الاجتماعي والإمكانات الفريدة لتقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز الانغماسية، وبالتالي يدمج الواقع الفعلي والواقع الافتراضي”.

وباختصار، لن أقبع وحدي في تلك الغابة الافتراضية لوقت طويل، إذ سينضم إلي زملائي على شكل “أفاتارات” رقمية أو واقع معزز. وبدلًا من أن أشاركهم شاشتي، سأشير فقط إلى السماء الافتراضية حيث سيعرض محتوى عرضي التقديمي على سحابة بيضاء ليراه الجميع.

عالم مفتوح من الإمكانات الجديدة

عندما تفّتحَ ذهني لإمكانات الميتافيرس بدأت أدرك أهمية هذا التطور وقدراته البعيدة. تخيلتُ، على سبيل المثال، جلسات علاجية في عالم الميتافيرس يعبّر فيها “أفاتار” المريض عن لغة جسده بدقة؛ إذ يفتقد كثير من الأطباء المختصين لغة الجسد عند استخدامهم التقنيات الحالية ثنائية الأبعاد غير الانغماسية، مثل برنامج “زوم”، في عملهم عبر الإنترنت.

وإلى جانب تحسين التواصل بين الطبيب المختص والمريض عبر الإنترنت، يمكّن الميتافيرس أيضًا الأطباء من تطبيق أسلوب علاجي قوي يعرف بالتجربة السلوكية. وهو أسلوب يتضمن على سبيل المثال، تعريض المرضى لمواقف ترهبهم، بطريقة آمنة، مثل: إلقاء الخطب أمام جمهور، أو التحليق بطائرة، أو التعرض للعناكب. وقد أثبت الواقع الافتراضي التقليدي فائدته في العلاج، لذا من السهل رؤية كيف يمكن لعناصر عالم الميتافيرس أن تكون بيئة علاجية للبعض.

كما يمكنني أيضًا تخيّل فصل دراسي افتراضي فيه طلاب من جميع أنحاء العالم، تعبّر فيه “أفاتارات” الطلاب، المبنية على الذكاء الاصطناعي عن مشاعر أشبه بالحقيقية. فإذا كان الطالب في حيرة من أمره، يمكنني أن أرى ذلك في عيني “الأفاتار”، وعندما يود الطالب التحدث أستطيع أن أستشفّ ذلك أيضًا من عينيه. وقد درَّستُ مؤخرًا فصلًا عبر الإنترنت “زوم” وأنا على هيئة أفاتار؛ وكم دهشتُ عندها من سرعة تعودي على نفسي في الهيئة الرقمية. وقيَّم طلاب الفصل تجربة “الأفاتار” تقييمًا عاليًا، ولكن لحسن الحظ أنهم ما زالوا يفضلونني بشخصيتي الواقعية.

نحنُ لسنا بانتظار عالم الميتافيرس، فهو هنا بالفعل. وسيصبح وجوده أكثر وضوحًا عندما يسهل الوصول إلى مزيد من التجارب عبر الإنترنت من خلال الواقع الافتراضي والواقع المعزز. وثمة تقارير عن أطفال اختاروا بالفعل إقامة حفلات أعياد ميلادهم في بيئات مشتركة عبر الإنترنت مثل روبلوكس (لعبة على الإنترنت). ومثل هذه الأحداث هي في الأساس من موروثات جائحة كوفيد – 19، التي أجبرتنا على العمل عبر الإنترنت، واعتاد العديد منا على ذلك، حتى أننا صرنا نفضل الآن النسخة الرقمية لبعض جوانب الحياة.

من سطح الإنترنت إلى أعماق الميتافيرس

ومع تقدمنا في هذا الأمر، ونحن نمضي أغلب حياتنا على الإنترنت، كيف سيكون تأثير ذلك على صحتنا العقلية؟ وأي آثار قد يتركها الميتافيرس، أو الجيل الثالث من الشبكة العنكبوتية، على صحتنا النفسية؟

الحقيقة أننا لا نزال نعاني من التقنيات التي نشأت من الجيل الثاني (تقنية الويب 2.0). فعلى سبيل المثال، بالكاد أدركنا مؤخرًا أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي قد يصبح قهريًا ويؤدي إلى مشكلة كبيرة. هذا بالإضافة إلى أن منظمة الصحة العالمية لم تعترف بأن إدمان ألعاب الإنترنت مرض نفسي قابل للتشخيص إلا في عام 2019م، وأول اقتراح باحتمال وجود هذه المشكلة كان في أواخر التسعينيات الميلادية من القرن الماضي. وباختصار، لا تزال الأبحاث التي تُعنى بتأثير تقنية الويب 2.0 على الصحة النفسية جارية؛ ولا يسعنا إلا تخمين التأثيرات النفسية والاجتماعية لعالم الميتافيرس.

ومن الممكن أن يقدّم عالم الميتافيرس، على أحسن تقدير، تسلية مؤقتة تفيد أولئك الذين يواجهون مشاكل في العالم الواقعي. ولكن حتى في هذه الحالة علينا أن نتحلى بالحذر، فالنشاطات التي قد تساعدنا في الهروب من ألم الواقع أو تجنبه قد تتحول إلى عادة أو إدمان. والافتراض الأسوأ هو أن يؤدي الانقطاع عن العالم الواقعي والانغماس في العالم الافتراضي إلى الأوهام وأعراض الارتياب. ففي مقال حديث لأستاذ علم النفس، فيل ريد، نُشر على صفحات موقع منظمة (Psychology Today) أشار إلى أن ثمة أدلة متزايدة تربط ما بين استخدام تقنية الإنترنت والمشاكل الصحية المرتبطة بالأوهام والهلوسات.

وكلما زادت جوانب حياتنا التي تتطرق إليها تقنية الإنترنت، تزايدت ضرورة تطوير برامج بحث مستدامة، فنحن بحاجة ماسة إلى فهم التأثير الفوري بعيد المدى لتقنيات الإنترنت على صحتنا النفسية. كما يجب أن تركز برامج الأبحاث هذه على كيفية استخدام التقنيات الناشئة في تعزيز الصحة النفسية والصالح العام.

وتشير استطلاعات قطاع التقنية إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي لديها أعلى معدلات انتشار لوسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت في العالم. وبالتالي، فإن المملكة العربية السعودية تشغل مكانة مميزة تؤهلها لتكون المساهم والمستفيد الرئيس في أجندة أبحاث تأثير التقنيات الرقمية على الصحة النفسية والعقلية.

قانون “أمارا”

تكشف رؤى العالم الأمريكي، روي أمارا، المتخصص في الدراسات المستقبلية، ورئيس معهد المستقبل، الكثير مما يتعلق بكيفية استجابتنا للتقنيات الجديدة. فوفقًا لقانون أمارا، نحن نميل إلى المبالغة في تقدير تأثير التقنية على المدى القصير، والتقليل من تأثيرها على المدى الطويل. هذا القانون ينطبق الآن على ما يتعلق بعالم الميتافيرس، فهذه التقنية الحديثة أو بالأحرى هذا الدمج بين تقنيات حالية والتوليف بينها، سيعيد تشكيل عالمنا على المدى البعيد، إلا أن الضجة المثارة حاليًا عما ستقوم به في الأعوام المقبلة مبالغ فيها. وسوف يؤثر عالم الميتافيرس في نهاية المطاف على جميع الجوانب المهمة في حياتنا؛ من التعليم والسفر والسياحة والصحة والدين. والأفكار التي سنوردها مبنية على دراسات بحثية واستنتاجات استقرائية من تأثير تقنيات الجيل الثاني (ويب 2.0)، أو الإنترنت الحالي.

التأثير الأول: الدين والأخلاق

دفعت جائحة فيروس كوفيد – 19 عديدًا من جوانب الحياة للانتقال إلى بيئات شبكية إلكترونية؛ ومن أمثلة ذلك الخدمات الدينية. وعلى الرغم من تكيّف قادة الجماعات الدينية (الأئمة/القساوسة) مع تقديم تلك الخدمات افتراضيًا، إلا أن شيئًا ما كان ينقص تلك الخدمات. وتُشير الأبحاث التي قادها فريق في جامعة مانشستر متروبوليتان إلى أن أعداد الحضور عبر الإنترنت كانت أكثر من أعدادهم قبل الجائحة، وأن الناس قد استهوتهم سهولة حضور أماكن العبادات المختلفة (المساجد/الكنائس). ومع ذلك، وصف رجال الدين المشاركين في الدراسة الخدمات الرقمية بأنها أقل روحانية وأقل أهمية وأقل فاعلية إجمالًا.

وبينما يُسهّل الإنترنت الوصول إلى الخدمات، يشكو معظم الناس من أن التواجد على الشبكة الإلكترونية لا يقارن بالتجربة الحضورية. المشكلة هنا هي أن مطابقة الواقع لم تكن كافية، بمعنى أن البيئة الافتراضية لم تنجح في مطابقة البيئة الطبيعية؛ فالتقنيات الشبكية الإلكترونية الحالية تفتقر إلى مطابقة الواقع. ولكن من المنتظر أن يُحسّن الميتافيرس من مطابقة الواقع تجريبيًا. فهل سيكفي هذا لدفع الناس إلى تفضيل العالم الافتراضي على الواقعي؟

وبالطبع، سيثير استخدام الميتافيرس في مجال الدين أسئلة أخلاقية وعقائدية مهمة، من مقبولية الأفعال التعبدية عبر الطقوس الافتراضية، إلى مجال التجاوزات المرتكبة في عوالم الإنترنت. 

التأثير الثاني: التعليم والتدريب

يمكن تطبيق كثير مما ذكرناه في شأن الدين والأخلاق على التعليم أيضًا. وقد يكون تحسين مطابقة التعليم الإلكتروني للواقع المعيشي هو ما يحتاج إليه التدريس والتعلم الإلكتروني لقبوله وتفضيله على المستوى الاجتماعي الأوسع.

بالإضافة إلى ذلك، قد تحوِّل التقنيات اللمسية اكتساب المهارات العملية إلى حقيقة ملموسة في بيئات التعلم الإلكتروني، إذ يمكن لطلاب طب الأسنان والطب العام، على سبيل المثال، محاكاة التدخلات الطبية تحت الإشراف، وتلقي ملاحظات متعلقة بالأداء؛ وقد يؤدي هذا إلى تحسين الحصول على التعليم على مستوى العالم. وقد نشهد أيضًا ظهور بعض الجامعات العالمية الكبيرة، وانضمام الطلاب إلى فصولها الدراسية الافتراضية من جميع أنحاء العالم، في الوقت نفسه الذي يتحصلون فيه على خبرة عمل في أماكن إقامتهم.

التأثير الثالث: الصحة النفسية

لعل من أولى وأوضح المجالات التي سيكون للميتافيرس تأثير عليها هي تقنية ألعاب الفيديو، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي يتزايد ارتباطها وتداخل حدودها يومًا بعد يوم. ويتميز هذان المجالان من الأساس بمستوى عالٍ من التفاعلية (الإدمان) والمردود المجزي، لذلك فإن تحسين تجربة استخدامهما بإضافة تقنيات الواقع الافتراضي والواقع المعزز التفاعلية إليهما سوف يجعل الإدمان عليهما أكبر. وفي 25 مايو 2019م، صادقت منظمة الصحة العالمية على إدراج إدمان ألعاب الفيديو في الدليل الدولي لتشخيص الأمراض، كمرض اضطراب نفسي. وثمة محادثات جادة حول معاملة اضطراب الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي بالطريقة نفسها.

وعلى الرغم من أن فكرة الاستخدام المضطرب لا تنطبق إلا على نسبة صغيرة جدًا من المستخدمين، فإن العدد الكبير من المستخدمين يجعل من هذا الأمر مصدر قلق على الصحة العامة؛ لأنه من المرجح أن يؤدي الميتافيرس إلى زيادة عدد مدمني ألعاب الفيديو ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وربما يؤدي إلى استخدامهما بشكل مكثف. ومن المحتمل أن نشهد زيادة أخرى في عدد أو نسبة الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الإدمان على ألعاب الفيديو والاستخدام المضطرب لوسائل التواصل الاجتماعي. ومن منظور الصحة النفسية العامة، من الضروري وضع تدخلات وإستراتيجيات وقائية لمثل هذا الاستخدام المضطرب للتقنية.

وهناك أيضًا مخاوف من أن الميتافيرس قد يؤدي إلى أعراض ذهانية أو إلى تفاقم هذه الأعراض، مثل الهلاوس والأوهام، عندما يصبح الأفراد منفصلين عن الواقع. وتوجد بعض الأدلة على ازدياد الأعراض الذهانية بين أولئك الذين يترددون حاليًا على عوالم الإنترنت الافتراضية. ومع ذلك، ما زال هناك حاجة إلى مزيد من البحث لاستكشاف ما إذا كان هذا سببًا أم نتيجة، فهناك احتمال انجذاب الأشخاص المعرضين للذهان إلى عوالم الإنترنت الافتراضية. والأمر المثير للدهشة هو حقيقة أنه يمكننا إطلاق مثل هذه العوالم الافتراضية، بما في ذلك التقنيات الانغماسية، دون أي اختبار مسبق للعواقب المحتملة، مفترضين عدم احتمال وقوع ضرر.

وعلى الجانب الإيجابي، من المرجح أن يساهم الميتافيرس في تحسين إمكانية الحصول على الرعاية الصحية. فوفقًا لدراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية، فإن الأمراض النفسية هي السبب الرئيس للأمراض والإعاقات في جميع أنحاء العالم، غير أن ما بين %30 و%80 من الأشخاص الذين يعانون من مشاكل في الصحة النفسية لا يسعون أبدًا إلى العلاج، بسبب عوائق عديدة تحول دون إمكانية الوصول للعلاج.

ولكن السهولة الأكبر في الوصول إلى العلاج في عالم الميتافيرس وما يقدمه من استشارات مطابقة بصورة أكبر للواقع المعيشي، بالمقارنة مع تقنيات الجيل السابق، سوف تُظهر فائدتها خاصة بالنسبة لبعض الأشخاص العاجزين عن الوصول إلى العلاج محليًا، أو من صرفهم عنه الحرج الاجتماعي. ويمكن للطب الإلكتروني، أو الطبابة عن بُعد، أو حركة الرعاية الصحية في أي مكان، أن تحفّز نشاطها أكثر، حيث سيعمل الميتافيرس على تحسين الواقعية ومجموعة خدمات الرعاية الصحية المتاحة عبر الإنترنت، وهذه التحسينات ستثير هي أيضًا تساؤلات حول فعالية الخدمات التقليدية من حيث الكادر الطبي والتكلفة.

التأثير الرابع: تعزيز الرفاهية

بنفس الطريقة التي تستطيع بها ألعاب الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي ربط الناس ومساعدتهم على تنمية شعورهم بالانتماء والترابط الاجتماعي والهوية الاجتماعية، سيزيد الميتافيرس من سهولة ذلك من خلال سماحه للناس بالعيش معًا في المساحات الافتراضية نفسها. ومن المحتمل أن يطوّر الناس هويات اجتماعية قيمة مرتبطة بالميتافيرس، بناءً على مواقعهم الجغرافية الافتراضية وأماكنهم المفضلة للتنزه؛ والدراسات المنشورة حول الفوائد التي يعود بها تعزيز الهوية الاجتماعية على الراحة والرفاهية العامة هائلة ومقنعة.

سيُغذّي الميتافيرس حاجتنا الإنسانية الأساسية للهوية والشعور بأننا جزء من مجتمع واسع، وهذا الشعور بالانتماء له أهمية خاصة لرفاهيتنا وصحتنا النفسية؛ لأن ارتباط الفرد بمجموعة اجتماعية له علاقة بطول العمر وتحسين الحالة الصحية. يقول أستاذ علم النفس المشهور بعمله في مجال الهوية الاجتماعية، ألكسندر هسلام، في مجلة علم النفس التطبيقي (Applied Psychology): “الهويات الاجتماعية وما يجسدها ويساعد على خلقها من مفاهيم الانتماء لجماعة متماسكة، هي هويات ذات أهمية محورية للصحة العامة والصحة النفسية”.

وهناك عشرات الدراسات التي تدعم هذه الفكرة، إذ كلما كان الشعور بالانتماء إلى جماعات اجتماعية قيمة أقوى، كانت النتيجة أفضل لمن يعانون من الاكتئاب وأمراض القلب والسكتة الدماغية وغير ذلك. وقد أخذ بنا تأثير الانتماء إلى الحديث عن العلاج الاجتماعي؛ وهو فكرة ترى أن الانضمام إلى نشاط جماعي أو ناد يمكن أن يعزز صحتك وحالتك النفسية.

وتُعد البيوفيليا الافتراضية، والحديث حول تعزيز العافية من خلال مجاورة الطبيعة، عاملًا محتملًا آخر لتحسين الرفاهية والصحة النفسية. ما زالت هذه فرضية بحاجة للتحقق منها، ولكن ثمة أبحاث مبكرة تقترح أن البيئات الطبيعية التي نراها في سياق الواقع الافتراضي لها تأثيرات على الصحة النفسية مشابهة للتعرض للتنوع الحيوي على أرض الواقع، وقد يكون هذا أيضًا منتجًا ثانويًا غير متوقع لعالم الميتافيرس لصالح الرفاهية العامة، وهو أمر ينطوي على مفارقة تستحق النظر؛ فالنتيجة النهائية قد تكون أننا سنقضي مزيدًا من الوقت مع الطبيعة بفضل التقنية.

التأثير الخامس: السفر والسياحة

من المعروف أن السفر يسهم في تشكيل شخصياتنا، لكننا أيضًا من خلال ابتكاراتنا التقنية صرنا نشكل تجربة السفر؛ كما هو الحال مع مفهوم السفر الرقمي، الذي تستطلعه مثلًا مجلة علم النفس السيبراني والسلوك والشبكات الاجتماعية (Cyberpsychology, Behavior, and Social Networking) في عدد خاص. ومثلما علمتنا جميعًا جائحة كوفيد – 19 فإن السفر التقليدي بأجسادنا ليس دائمًا خيارًا متاحًا، كما أن السفر قد يصبح صعبًا مع اعتلال الصحة والعجز الجسدي والتقدم في السن. فهل يمكن أن يصبح السفر الرقمي بديلًا ذا شعبية للسفر التقليدي؟ وربما يساعد أيضًا في موازنة التأثير البيئي السلبي للسفر.

ومع التوسع الذي يشهده عالم الميتافيرس، وازدياد التطور التقني لعالمي الواقع الافتراضي والواقع المعزز، من السهل تخيل الناس يقضون عطلًا افتراضية مصممة وفق رغباتهم. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تشمل مثل هذه العطلة يومًا في متحف اللوفر في أبو ظبي، وليلة في «سيزار بالاس» بمدينة لاس فيغاس.

وقد حظيتُ مؤخرًا بتجربة بسيطة لهذه السياحة الرقمية، وكانت في معرض تقني في الظهران في المملكة العربية السعودية. تضمّنت التجربة جولة عبر الواقع الافتراضي في بعض المساجد الكبرى في العالم، بما فيها المسجد الحرام في مكة المكرمة، والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة. لقد زرتُ هذين الموقعين المقدسين من قبل، ولكن زيارتهما الافتراضية كانت تجربة أقل متعة بكثير. ومع ذلك، فإن مثل هذه الجولات الافتراضية تتميز بأنها تمنح الزوار إمكانية الوصول إلى مناطق قد يصعب عليهم الوصول إليها عادةً، مثل مشاهدة الكعبة من الداخل. ولعل الميتافيرس يكبح جماح رغبتنا في التجوال وشهيتنا للسفر في العالم الحقيقي.


مقالات ذات صلة

غالبًا ما نتصوّر أن الدماغ يؤثر في الجسد كالسائق بالسيارة، لكن الأبحاث الحديثة كشفت أن التأثر والتوجيه يحدث من الجانبين. فالجسد، من خلال نشاطاته الحسية والحركية، يؤثر بالدماغ أيضًا. 

هل بتنا على مشارف عصر زراعي يُسمّد فيه النبات نفسه بنفسه؟

تشير فرضيات عدة إلى أن السفر إلى الماضي أو المستقبل ممكن باستخدام طرق مختلفة؛ لكن جميعها واجهت ما يُعرف بـ “مفارقة الجَدِّ”؛ فإذا تمكن المرء من السفر عبر الزمن في الماضي وقتل جدَّه، فكيف سيكون موجودًا ليؤثر في الزمن الماضي؟


0 تعليقات على “عالم الميتافيرس ليس حلمًا ورديًا”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *