السفر إلى النجوم وزرع بذور الحضارة الإنسانية على كوكب آخر أسَر خيال البشرية لفترةٍ طويلة، وشكَّل أرضًا خصبةً للأعمال الأدبية والسينمائية. ومع انطلاق عصر الفضاء والتقدُّم العلمي في منتصف القرن العشرين، دُرِست هذه الفكرة بشكل علمي، وسلَّط الباحثون الضوء على أهم التحديات التي تواجه تحقيقها، وأبرزها طول الرحلة الذي يتجاوز أعمار البشر ويمتد إلى آلاف السنين. وللتغلُّب على ذلك، اقترح البعض تصميم سفينة الأجيال الفضائية التي تمتد رحلتها الفضائية إلى قرون عديدة.
سفينة الأجيال الفضائية عبارة عن مركبة ضخمة تتحرك بسرعات تُقارب سرعة الضوء نحو هدف في الفضاء البعيد، ربَّما يكون كوكبًا صالحًا للاستعمار. ويعيش داخل هيكلها عدد كبير من الأشخاص حياة كاملة، وينجبون أطفالًا يَخلفونهم. وبعد أن تتعاقب أجيال متعددة وتمضي قرون عديدة، تصل السفينة إلى وجهتها.
في أدبيات الخيال العلمي ظهر مفهوم سفينة الأجيال الفضائية، أوَّل مرَّة، في عام 1928م، على يد عالم الفيزياء الروسي قسطنطين تسيولكوفسكي، مثل عنوان فصل من كتاب بعنوان “مستقبل الأرض والبشرية”. ووصف فيه هذه المركبة الفضائية المفترضة والمكتفية ذاتيًا طوال رحلتها التي تستغرق آلاف السنين. بعد ذلك، تناول هذه الفكرة عدد من كتَّاب الخيال العلمي. ففي عام 1935م، تخيَّل الكاتب الأمريكي موراي لينستر، سفينة أجيال فضائية للسفر إلى النجم ألفا سنتوري، وهو أقرب النجوم إلينا بعد الشمس، وكانت السفينة المتخيلة هذه مأهولة بعائلات تنجب مزيدًا من الأطفال في الطريق، كما جاء في “موسوعة الخيال العلمي”.
يُشبِّه “لينستر” السفينة بمبنى سكني لا يستطيع أحد أن يغادره. وركَّز على التأثيرات النفسية والاجتماعية لوجود مجتمع بشري في مكان مغلق طوال وقت الرحلة. فعندما تجتمع مجموعات كثيرة من الناس فترات طويلة من الزمن، فإن اختلافات الرأي أو الصراعات الشخصية تميل إلى الظهور. ولذلك انهار المجتمع البشري خلال هذه الرحلة الخيالية المفترضة.
كرة أرضية صغيرة
إن بناء عالم اصطناعي مكتفٍ ذاتيًا بالكامل يعتمد على نفسه في كل شيء، وتوفير الطاقة اللازمة للسفر بسرعات عالية ليس مستحيلًا، بل ممكن من الناحية العلمية. إذ يتعين على سفينة الأجيال أن تُحاكي الغالبية العظمى من معطيات بيئة الأرض على نطاق أصغر، حتى يتمكن الركاب من العيش في بيئة مريحة وصحية. وهذا يعني بناء سفينة أجيال فضائية ذاتية الاستدامة، توفر ضروريات الحياة من حيث إنتاج الغذاء والمياه والأكسجين وإدارة النفايات والطاقة. وكذلك الحماية من أخطار الفضاء المتمثلة في الإشعاعات الكونية وضربات النيازك، إضافة إلى توفير جاذبية اصطناعية.
تحديات تكنولوجية
هناك كثير من التحديات التكنولوجية تواجه هذه الفكرة، منها على سبيل المثال: أنظمة الدفع، والجاذبية الاصطناعية، ونظام الحماية، كما أشار موقع (Classics of Science Fiction) في 2 ديسمبر 2019م.
بالاعتماد على طرق الدفع المتاحة حاليًا، فإن الوصول إلى أقرب نظام نجمي، وهو النجم ألفا سنتوري، الذي يبعد أكثر من أربع سنوات ضوئية، يحتاج إلى أكثر من سبعين ألف سنة للوصول إلى هناك بمركبة “فوياجر 1″، التي تسير بسرعة ستين ألف كيلومتر في الساعة. لذلك، يجب علينا تطوير أنظمة دفع تُقلِّص المدة الزمنية للرحلة. فالدفع الأسرع يقلل من وقت السفر؛ لأن العلاقة بين السرعة والزمن علاقة عكسية.
في هذا الوقت، سنكون بانتظار اختراقات تكنولوجية معينة، كاستخدام المادة المضادة مثلًا، باعتبارها وقودًا يمكنه تخفيض زمن الوصول إلى 40 سنة فقط بدلًا من 70 ألفًا. فكمية قليلة من الهيدروجين المضاد تُقدَّر بـسبعة عشر غرامًا كافية لتزويد السفينة النجمية بالطاقة للوصول إلى هناك، وفقًا لما جاء في موقع “ريسيرش غايت” (Research Gate) في يونيو 2003م. وقد ظهرت، مؤخرًا، أفكار جديدة تتعلق بطاقة الدفع التي تختصر زمن الرحلة إلى عشرات أو مئات السنين بدلًا من آلاف السنين، مثل محركات البلازما، والأشرعة الشمسية، والأشرعة المغناطيسية.
وفيما يتعلق بالجاذبية الاصطناعية، فإن الطريقة الوحيدة الممكنة فيزيائيًا لإنشائها بشكل يؤثر في كل الأجسام في سفينة الأجيال الفضائية، هي من خلال قوة الطرد المركزية؛ وذلك من خلال دوران سفينة الأجيال الفضائية حول محورها. فهل بإمكان المجتمع بداخلها أن يتعايش مع ذلك؟
ولنظام الحماية من الإشعاعات وضربات النيازك، يُمكن محاكاة المجال المغناطيسي للأرض وتطبيقه على سفينة الأجيال، أو استخدام البلازما لتبخير الأجسام الفضائية كالكويكبات والنيازك، وهذه تكنولوجيا ممكنة علميًا.
تحديات بيئية
لا شك في أن توفير الأكسجين والماء لأجيال عديدة في بيئة مغلقة، من دون أي مدخلات من العالم الخارجي، هو من أصعب التحديات. فمن أجل توفير المساحة، يصبح الخيار الأفضل هو الاعتماد على أنظمة دعم الحياة التي تعتمد على التجديد البيولوجي. إن أنظمة الحياة ذات الدورة المغلقة، مثل الجسم البشري، هي السبيل الوحيد للسفر إلى الفضاء لفترات طويلة. فحمل الأغذية المجففة، مثلًا، ليس خيارًا قابلًا للتطبيق؛ وذلك بسبب تدهور الفيتامينات بمرور الوقت، والكميات الهائلة التي ستكون مطلوبة للتخزين طويل الأجل. لذلك، ستكون الزراعة الفضائية هي الخيار الأفضل، كما ورد في موقع (Strange Horizons) عام 2019م.
ومن أفضل السيناريوهات محاكاة الغلاف الجوي للأرض لتوفير الماء والغذاء والهواء. إذ توفر زراعة النباتات الغذاء وتستهلك في الوقت نفسه ثاني أكسيد الكربون الموجود في السفينة وتحوله إلى أكسجين عن طريق البناء الضوئي. كما يمكن استخدام الطحالب وبعض أنواع البكتيريا للقيام بهذا الدور.
أمَّا المياه، فيمكن إعادة تدويرها واستخدامها. ويمكن دعم ذلك بعمليات كيميائية تعمل على تفكيك ثاني أكسيد الكربون وإطلاق الأكسجين داخل السفينة. لقد طوَّر معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالفعل آلةً قادرةً على امتصاص ثاني أكسيد الكربون وضخ الأكسجين مكانه، تُدعى “موكسي”، ضمن مهمة وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” في رحلتها إلى المريخ في عام 2020م، بحسب موقع “ناسا” في 30 يوليو 2020م. وإذا ذهبنا بخيالنا لأبعد من ذلك، فربَّما تتوقف سفينة الأجيال الفضائية من أجل التقاط النيازك والمذنبات والكويكبات لتجديد مخزونها من المياه والتنقيب عن المعادن وغيرها.
ومن كل ما تقدَّم، نفهم أن على سفينة الأجيال الفضائية الخيالية هذه أن تشكِّل مجتمعًا كاملًا مصغرًا يحتوي على المدارس والجامعات، والمستشفيات، ومناطق ترفيهية، وقوة أمنية، وهيئة قضائية وغيرها. وعلى كل راكب، من أطباء ومهندسين ومعلمين وغيرهم، أن يقوم بوظيفته طوال إقامته على هذه السفينة. وتتلخص الطريقة الوحيدة للتغلب على جميع هذه التحديات في تصميم وبناء سفينة ضخمة تكفي لإيواء مجتمع معقد بالكامل يُقدِّم مجموعة واسعة من الخيارات.
مشروع هايبريون
أحد هذه المشاريع الخيالية الحديثة، مشروع “هايبريون” الذي يقوده فريق من طلاب العلوم في جامعة ميونيخ التقنية، ويسافر بنا إلى أقصى حدود الخيال العلمي. يستكشف هذا المشروع إمكانية السفر بين النجوم بواسطة سفن الأجيال. وقد أُطلِقت مسابقة في شهر نوفمبر 2024م، حول تصميم هذه السفينة، ومن المتوقع أن يُعلن عن الفائزين في شهر يونيو من العام الحالي.
يدعو مشروع هايبريون الباحثين وأصحاب الرؤى والمهندسين المعماريين وعلماء الاجتماع، إلى التعاون كفريق متكامل من أجل تصميم السفينة التي تستمر مهمتها 250 عامًا أرضيًا. وتستوعب ما يُراوح بين 500 و1500 شخص طوال الرحلة.
وعلى الرغم من أن سفينة الأجيال الفضائية لا تزال بعيدة المنال، فإن هذه المسابقة لا تنحصر في السفر إلى النجوم فحسب، بل تضيف آفاقًا جديدة في المعرفة، وتشجِّع على التفكير في إمكانات البشرية لبناء مستقبل مشترك ومستدام ومبتكر على الأرض وخارجها. كما أنها تضيف حلولًا لمواجهة التهديدات الكبرى على الأرض مثل أزمة الطاقة والمياه والغذاء والتغيرات المناخية. وهذا يعني أن سفينة الأجيال الفضائية الحقيقية هي كوكبنا الأزرق الذي يسبح بنا في الفضاء، ويجب أن نحافظ عليه جميعًا.
اترك تعليقاً