يشكِّل ذوو الاحتياجات الخاصة 15% من السكان حول العالم، من بينهم نحو 250 مليون طفل، بحسب إحصاء الأمم المتحدة عام 2021م. وهذه النسبة في تزايد مستمر نتيجة عوامل عديدة مستجدة في عصرنا، مثل انتشار المواد الكيميائية الضارّة بالصحة، والتلوّث، وشيوع الهواتف الذكية بين أيدي الأطفال، وغير ذلك. وبينما يعاني الأغلبية منهم من الإهمال على مستوى العالم، فإن 80% منهم موجودون في الدول النامية، يعانون أكثر من غيرهم، وبخاصة الأطفال. إذ إن معظمهم لا يحصلون على التعليم الأساسي والعلاج الفعَّال، علمًا أن التدخل المُبكِّر لدى الأطفال يُعدُّ عنصرًا حيويًا في تأهيل هذه الفئة من المجتمع.
ليست الاحتياجات الخاصة مجرد مسألة طبية أو تربوية ضيقة، بل هي قضية إنسانية واجتماعية تتعلق بمئات الملايين من البشر حول العالم. فوفقًا لآخر تقرير لليونيسيف في 9 نوفمبر 2021م، يعاني 15% من سكان العالم أحد أنواع الإعاقة؛ أي أكثر من مليار شخص. وتتنوع هذه المعوِّقات ما بين الجسدية والعقلية، والاضطرابات السلوكية، وصعوبات التعلُّم.
وفي ظل الأوضاع الحالية في العالم، يواجه ذوو الاحتياجات الخاصة تحديات مضاعفة تجعلهم من أكثر الفئات تضررًا، سواءً أكان على المستوى البيئي أم النفسي؛ لأن الكوارث الطبيعية، مثل الفيضانات وارتفاع درجات الحرارة، تُهدِّد بشكل مباشر حياتهم. إذ تفتقر خطط الإخلاء والاستجابة للكوارث في كثير من الأحيان إلى الشمولية التي تراعي احتياجاتهم الخاصة، من حيث الملاجئ المهيأة أو المعدات الطبية الأساسية. أمَّا التلوث البيئي، فيُضاعف معاناتهم الصحية؛ لأنهم أكثر عرضة للأمراض المرتبطة بالهواء والماء الملوَّث.
ويعاني الأطفال من بين هؤلاء أكثر من غيرهم. إذ يُحرم معظمهم من التعليم الأساسي بسبب نقص المدارس المهيأة لتلبية احتياجاتهم، ونقص الكوادر والمعلمين المؤهلين، وفقًا لتقرير اليونيسيف المذكور. وجاء في إحصاء حديث صادم، أجراه باحثون من جامعة كولومبيا البريطانية في كندا بالاشتراك مع جامعة هارفارد الأمريكية، ونشرته “مجلة جمعية الطب الأميركية – الطب النفسي” في 5 فبراير 2025م، أن 6.9% فقط من المصابين بالاضطرابات الصحية النفسية على مستوى العالم يحصلون على علاج فعَّال. وهذه الأرقام هي بمنزلة صرخة للعالم لإعادة النظر في كيفية التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة.
التنوُّع والاختلاف إثراء للمجتمع

يُعدُّ تعدد حالات ذوي الاحتياجات الخاصة ظاهرة تعكس التنوُّع البشري في أبهى صوره؛ إذ تختلف الإعاقات وتتباين أشكالها بين الجسدية والحسية والعقلية والنفسية والنمائية. ويتطلب هذا التنوُّع فهمًا عميقًا وإدراكًا أن كل حالة فريدة من نوعها، سواءً من حيث طبيعتها أو تأثيرها على حياة الفرد.
فالإعاقات الجسدية تشمل تحديات الحركة أو ضعف الأطراف، بينما تتعلق الحسية بفقدان السمع أو البصر.
أمَّا العقلية، فتتعلق بالإعاقة الذهنية مثل متلازمة داون، في حين تندرج الاضطرابات النفسية، مثل الاكتئاب والقلق المزمن، ضمن هذه الفئات أيضًا.
ما يميّز هذا التنوُّع هو التداخل بين الإعاقات. فقد يعاني الشخص أكثر من نوع واحد في الوقت نفسه، وهو ما يزيد من تعقيد الاحتياجات المطلوبة للدعم والتأهيل. وهذا يتطلب تدخلات شاملة تُراعي الجوانب الطبية والاجتماعية والتعليمية، وتدمج الشخص في بيئته بما يحقق له أقصى درجات الاستقلالية والاندماج.
إذًا، من المهم الإشارة إلى أن تعدُّد الحالات ليس مجرد تصنيف طبي، بل يمثِّل دعوة للمجتمع لإعادة تعريف مفهوم القدرات. فهؤلاء الأفراد ليسوا عاجزين، بل يملكون إمكانات قد تفوق أحيانًا تصوراتنا إذا ما أُتيحت لهم فرص توظيفها. وتظهر هذه القدرات في النجاحات الباهرة التي حققها كثير منهم في مجالات مثل: الفن والرياضة والعلوم.
فلطالما أثبت ذوو الاحتياجات الخاصة أن التحديات لا يُمكن أن تقف عائقًا أمام النجاح والإبداع، وبرع كثير منهم في مختلف المجالات، محقّقين إنجازات مذهلة ألهمت العالم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تألَّق في مجال العلوم العالم الفيزيائي ستيفن هوكينغ، على الرغم من إصابته بمرض التصلب الجانبي الضموري؛ إذ قدَّم إسهامات ثورية في علم الكونيات. أمَّا في الرياضة، فقد أبدع العداء الجنوب إفريقي، أوسكار بيستوريوس، الذي أصبح أول رياضي مبتور الساقين يشارك في الألعاب الأولمبية العادية، محطِّمًا بعض الأرقام القياسية. وفي الفنون، تألَّق الموسيقي والمؤلف الشهير بيتهوفن، الذي واصل تأليف الموسيقى حتى بعد فقدان سمعه بالكامل، ليترك إرثًا موسيقيًا خالدًا. هؤلاء وغيرهم أثبتوا أن الإبداع والنجاح يعتمدان على الإصرار والشغف.
ولذلك، يكمن التحدي الحقيقي في بناء مجتمع يُقدِّر الاختلاف ويعمل على إزالة الحواجز المادية والنفسية؛ ليصبح تعدُّد الحالات مصدرًا للإلهام بدلًا من أن يكون سببًا للتهميش.
أهمية التدخل المُبكِّر
عندما تنشأ الأسرة، يرسم الوالدان صورًا وردية لمستقبل أطفالهم، طامحين لأن يصبحوا خيرًا منهم. ثمَّ يولد الأطفال، فيراقبون حركاتهم وخطواتهم ونموهم، وأول كلمة يتلفظون بها، وسيكونون محور الحب والاهتمام والتطلعات المستقبلية. حتى الأسر التي يُولد لها طفل باحتياجات خاصة يظلّ هذا الحلم مستحقًا وممكنًا؛ لكن الطريق لتحقيقه ستكون مختلفةً ومليئةً بالتحديات. إذ تتضاعف المسؤوليات، وتحتاج الأسرة إلى نوع مختلف من الرعاية لأطفالها، وهنا يأتي التدخل المُبكِّر في أعوام الطفل الأولى. وغيابه ينعكس ازديادًا في أعداد ذوي الاحتياجات الخاصة وسوء أوضاعهم.
التدخل المُبكِّر هو مجموعة من الخدمات والدعم الموجهة للأطفال منذ الولادة حتى سن السادسة، وهي الفترة الحرجة من عمر الطفل. إذ يكون الدماغ في أقصى مرونته وقابليته للتعلُّم، وهو ما يجعله مثاليًا للتدخل المُبكِّر. ولا يقتصر التدخل المُبكِّر على الخدمات التي تقدّم للطفل فقط، بل هو برامج شاملة تسعى لتمكين الأسرة؛ لأنها المحور الأول في حياة الطفل. كما يجعل الأسرة أكثر استعدادًا، وأقدر على رعاية طفلها بشكل فاعل ومتوازن.
تُقدَّم خدمات التدخل المُبكِّر للأطفال الذين يعانون إعاقات أو تأخرًا في النمو والتطور. ويشمل هذا التدخل مجموعة من البرامج العلاجية مثل: علاج النطق، والعلاج الطبيعي، والعلاج الوظيفي، والتربية الخاصة، بالإضافة إلى تقديم خدمات متخصصة أخرى بحسب احتياجات الطفل وأسرته. وتتعدد هذه الخدمات وتختلف بحسب نوع الإعاقة وطبيعتها، أو التأخر الذي يعانيه الطفل.
تكمن قوة التدخل المُبكِّر في قدرته على تقديم حلول متعددة الجوانب تستهدف احتياجات الطفل وأسرته بشكل دقيق. ويُعدُّ التشخيص الدقيق نقطة البداية المثالية، حيث تُجرى اختبارات واستشارات وفحوصات طبية لفهم احتياجات الطفل بشكل عميق، ولتحديد نوع الإعاقة وطبيعتها أو التأخر، وهو ما يُسهِّل تحديد خطوات التأهيل المناسبة.

دور الأسرة
تؤدي الأسرة دورًا مهمًّا في هذه الرحلة، وأكّدت دراسة نشرت في مجلة “لانست” بتاريخ 4 أكتوبر 2016م، أن مشاركة الوالدين تُضاعف فاعلية البرامج العلاجية والتأهيلية؛ لأن الفترة التي يقضيها الطفل مع العائلة أكبر من مكوثه في مراكز التأهيل مع الاختصاصيين.
وعندما يتوافر للأطفال بيئة غنية بالتحفيز والدعم في المنزل، فإنهم يكتسبون مهارات بشكل أسرع وأجدى.
لا يعتمد نجاح التدخل المُبكِّر على الأسرة فقط، بل يتطلب دعمًا مجتمعيًا شاملًا يشمل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية والأفراد. كما أن دور المجتمع لا يتوقف عند الدعم المالي فقط، بل يشمل التوعية بأهمية هذا النوع من التدخل من خلال تمويل برامج التدخل، والتوعية المجتمعية، وتهيئة البنية التحتية.
يُعدُّ التدخل المُبكِّر ركيزة أساسية، خاصةً في دعم الأطفال الذين يعانون تحديات تطورية، فهو بداية الطريق نحو حياة أكثر استقرارًا لهم ولأسرهم. وعلى الرغم ممَّا يحمله هذا المجال من وعود كبيرة، فإنه يواجه عديدًا من العقبات التي تتطلب تضافر جهود المجتمع والمؤسسات والأسر للتغلب عليها.
التدخل المُبكِّر
نجاح مزدوج.. مجد الهنداوي ووالدتها

ليست مجد الهنداوي فتاة أردنية تعيش مع متلازمة داون فقط، بل هي قصة تحدٍ وإرادة تؤكّد أن الدعم والحب قادران على صنع المعجزات. تُحب مجد أن تُسمِّي حالتها “متلازمة المحبة”؛ لأنها ترى الحياة بعين مليئة بالأمل والشغف، وتؤمن أن لكلّ إنسان قدرات كامنة تنتظر الإشراق.
منذ ولادتها، أدركت والدة مجد أن ابنتها تحتاج إلى أكثر من الرعاية، فهي بحاجة إلى إيمان معمّق بقدراتها أولًا، وإلى خطوات مدروسة لتكون مستقلة وقوية.
ولذلك، تبنّت برنامج “البورتج”، وهو أحد أقوى برامج التدخل المُبكِّر، الذي يُمكّن الأهل من أن يكونوا المعلمين الأوائل لأطفالهم. لم تكن الرحلة سهلة، لكنها كانت مليئة بالحب والصبر.
علّمتها النطق، ودرّبتها على المهارات الحياتية، وكانت تمسك بيدها في كل تحدٍ جديد حتى أصبحت قادرة على الوقوف بثقة أمام العالم.
كبرت مجد، وأصبحت بطلة “كاراتيه” تعتلي منصات التتويج، وهي تعمل الآن في أحد مطاعم مطار الملكة علياء ليشاهد كلّ العالم ابتسامتها الساحرة.
قصة مجد ليست مجرد سردية نجاح، بل رسالة أمل، فالأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة قادرون على تحقيق المستحيل إذا وجدوا الدعم والتوجيه المناسبين. لقد أصبحت مجد أيقونةً لقوة الإرادة، ودليلًا حيًّا على أن أيّ طفل قادر على صنع عالمه مهما كانت التحدّيات.
مقارنة تاريخية
ارتفعت نسبة ذوي الاحتياجات الخاصة بشكل كبير في الحقبة المعاصرة مقارنة بالفترات التاريخية السابقة. ففي إنجلترا على سبيل المثال، كانت نسبة هؤلاء لا تتعدى 2% بين عامي 1832م و1914م، وفقًا لموقع (Historic England)، مقارنة بـ15% الآن كما ذكرنا سابقًا. لا بدَّ، والحالة هذه، أن يكون السبب مستجدًا على حضارتنا المعاصرة، ولم يكن موجودًا في الماضي. ونستطيع الإشارة هنا إلى عامل رئيس، من بين عوامل أخرى، وهو وسائل التواصل.
وفي هذا السياق، نشرت صحيفة “الإندبندنت” في 18 يونيو 2024م، تقريرًا حول تأثير وسائل التواصل على الصحة العقلية والجسدية، مشيرةً إلى أن المراهقين حول العالم يقضون ما يصل إلى 9 ساعات يوميًا على هذه الوسائل، وهو ما يؤدي إلى آثار سلبية. وجاء في تقرير مجلة “فوربس” في فبراير 2024م، أن ملايين الأمريكيين يعانون سنويًا أعراضًا في حالات صحتهم العقلية بسبب هذه الوسائل، وأن عدد الأشخاص الذين يطلبون الرعاية في ازدياد. كما أكدت مجلة “جمعية علم النفس الأمريكية” في أغسطس 2023م، أن منصات التواصل الاجتماعي ارتبطت بشكل متزايد بمشكلات الصحة العقلية، مثل القلق وأعراض الاكتئاب.
اترك تعليقاً