لماذا هناك بلدان متقدمة وبلدان أخرى غير متقدمة؟ لماذا يكسب الفرد في أغنى عشر دول في العالم 158 مرة أكثر مما يكسبه الفرد في أفقر عشر دول، وفق شعبة الإحصاء في الأمم المتحدة عام 2023م؟
تتعدد آراء الاقتصاديين والمؤرخين حول الأسباب الفعلية وراء هذا التفاوت الكبير، ومن بينها آراء المفكرين العرب، منذ أن حاول الإجابة عن هذه الأسئلة المفكر اللبناني شكيب أرسلان في مجلة “المنار” المصرية قبل نحو قرن. لكن أحدث بحث في هذا المجال أجراه ثلاثة علماء اقتصاد أمريكيين نالوا، مؤخرًا، جائزة نوبل بناء على ذلك؛ إذ برهن هؤلاء أن المؤسسات النوعية تقف على رأس الأسباب التي تصنع الفرق بين التخلُّف والتقدُّم.
نال جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 2024م ثلاثة علماء في المجال الاقتصادي، وهم: دارون أسيموغلو، وسيمون جونسون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجيمس روبنسون من جامعة شيكاغو، وذلك عن نتائج أبحاثهم الرائدة التي ألقت الضوء على الدور المحوري للمؤسسات في تشكيل الازدهار الاقتصادي على المدى الطويل. وحقيقة الأمر، أن المؤسسات ودورها باتت واحدة من أكثر مجالات البحث شيوعًا في اقتصادات التنمية خلال الأعوام الثلاثين الماضية.
وقد يُعدُّ هذا التاريخ متأخرًا إذا ما قُورِن ببدايات النشاط الإنساني على الأرض، وما تبعه من نشأة الكيانات السياسية وتطورها التدريجي وصولًا إلى مفهوم الدولة.
نشوء المؤسسات
فإذا نظرنا إلى تتابع التاريخ الاقتصادي، نجد أن تسارعًا في النمو قد تحقق نتيجة تضافر جهود مجموعة من المسارات المؤسسية المتنوعة، أمكن رصدها من قِبل علماء تاريخ الاقتصاد منذ التحوُّل من مرحلة جمع الغذاء والتقاطه، التي ميَّزت عصور ما قبل التاريخ، إلى مرحلة البدء في النشاط الزراعي وإنتاج الغذاء التي مهَّدت للعصور التاريخية اللاحقة. وهذا ما أشار إليه كلٌّ من أسيموغلو وروبنسون في كتابهما “لماذا تفشل الأمم؟”.
واكب هذا التحوُّل، بطبيعة الحال، وجود جهات (مؤسسات) كانت تهدف إلى تحقيق العدالة في توزيع الأرض الصالحة للزراعة، وتخصيص الحصة المناسبة من المياه لكل جماعة، إلى جانب حقوق الحماية والدفاع، وكذلك مقايضة ما يزيد على الحاجة من المنتجات والمحاصيل. فنشأت تحت رايتها مجموعات من القرى والقبائل التي أخذت في الاندماج سِلمًا، أو باستخدام القوة لتظهر على أثرها المدن فالأقاليم، وصولًا إلى الدولة بمفهومها الواسع.
أدى هذا التطور في المؤسسات إلى سير بعض هذه المجتمعات أبعد من الاكتفاء بالدولة إلى تشكيل إمبراطوريات ممتدة الحدود. ولا غروَ أن العالم القديم اعتمد في المقام الأول على مؤسساته الاقتصادية تلك التي تُعنى بالإنتاج الزراعي واستغلال الموارد الطبيعية في الصناعة والتجارة؛ لِما لهذه الأنشطة من نتائج تنعكس بدورها على تطوير المؤسسة العسكرية وتقدمها، التي كانت تمثِّل حجر الزاوية في الفتوحات والتوسعات الاستعمارية التي طالما هدفت إلى السيطرة على المواد الأولية والثروات الطبيعية؛ لتستفيد منها في تحقيق الرخاء والتقدم الذي ينعكس على قوتها وهيمنتها، وهكذا دواليك.

المؤسسات في العصر الحديث
غير أن العالم الحديث، بداية من عصر النهضة الأوروبية وما تلاها من ثورة صناعية، أدرك أن الرأسمالية والقوة وحدهما ما كان في مقدورهما أن تُسهما في التقدم الحضاري. ومن هنا، ظهر فكر جديد يسعى إلى توظيف كلٍّ من العقل واليد بما يُحقِّق فكرة النظرية والتطبيق في التناسب بينهما. وأخذت تلك الأمم بتشجيع قيام المؤسسات المختلفة وفقًا لاختصاصاتها، مؤكدةً بذلك أن الاقتصادات القوية لا تأتي فقط من توفر رأس المال أو الموارد الطبيعية، بل من قدرة المؤسسات على تطبيق سياسات تنموية تدعم الابتكار وتحسِّن ظروف الحياة لجميع المواطنين.
ومن خلال رصد هذا الإجراء الأخير وتتبعه ودراسته، فاز الأكاديميون الثلاثة بجائزة نوبل في الاقتصاد، لتقديمهم بشكل رئيس أدلة سببية على تأثير جودة المؤسسات في الدول وازدهارها الاقتصادي.
أهمية المؤسسات الحكومية
من البديهي الإقرار بأن الكيانات السياسية تؤدي دورًا كبيرًا في صياغة الفوارق الاقتصادية الكبيرة بين الدول الغنية والفقيرة. بمعنى أن الدولة التي تضمن حقوق الملكية، وتحد من الفساد، وتحمي سيادة القانون والتوازن في السلطات؛ ستكون أنجح في تشجيع مواطنيها على خلق الثروات وإعادة توزيعها بشكل أفضل؛ لأنها توفر بيئة شفافة تمكن المؤسسات النوعية مثل: الهيئات الرقابية، والبنوك المركزية، والمحاكم من أداء وظائفها من دون تدخل سياسي. كما أنها من ناحية أخرى، تتيح للمؤسسات تطبيق القوانين والسياسات التي تحمي الحقوق وتضمن تحقيق العدالة، وهو ما يعزِّز بيئة الاستثمار والتنمية.

أهمية المؤسسات غير الرسمية
ولعلَّ من الأهمية بمكان، في إطار الحديث عن المؤسسات النوعية، ألا يُقصد بها أبدًا المؤسسات الرسمية وحدها والمتمثلة في الحكومات والأنظمة المالية والقضائية وغيرها، بل تشاركها في ذلك المؤسسات الاجتماعية والثقافية والخدمية الخاصة منها والعامة، التي يقع عليها العبء الأكبر. ومنها على سبيل المثال:
المؤسسات التعليمية والثقافية: تؤدي المؤسسات التعليمية ممثلة في الجامعات والمراكز البحثية والمعاهد المتخصصة دورًا رئيسًا في تقدُّم الدول وخدمة المجتمعات، من خلال توفير المعرفة وإتاحة الفرص للابتكار؛ لأنهما يمثلان جناحي الاقتصاد. ولا يقتصر الأمر في ذلك على التخصصات التطبيقية دون النظرية، بل إن غياب تلك الأخيرة قد يُضفي على التطبيق سِمة النمطية والتكرار. فتطوير الأفكار وحل الأزمات وإدارتها تندرج تحت اختصاصات الجانب النظري للتنمية. وقد حدَّدت “رابطة الجامعات الحكومية والأهلية” في الولايات المتحدة الأمريكية، و”رابطة تطوير الاقتصاد الجامعي الأمريكية” الطرق التي تُسهم بها مؤسسات التعليم العالي في التنمية الاقتصادية ضمن ثلاثة مجالات رئيسة، وهي:
- تطوير المواهب والقوى العاملة.
- الابتكار والنظم البيئية الريادية.
- التطوير من خلال الشراكات المجتمعية.
المؤسسات الثقافية والتوعوية: وهي المؤسسات التي تسعى إلى ترقية الفكر الإنساني، ولعلَّ من أشهرها تلك التي تُعنى بحفظ التراث وصيانة الآثار وترويج السياحة. فنجد أن مؤشرات أدائها لم تكن قطُّ مقرونة بوفرة المعالم السياحية والأثرية في دولةٍ ما بقدر ما هي مرتبطة بدور المؤسسات في تنمية هذا الجانب والنهوض به وبأعداد السياح سنويًا.
المؤسسات المالية: تؤدي المؤسسات المالية، مثل البنوك المركزية وشركات التداول والاستثمار، دورًا بالغ الأهمية في تنمية الاقتصاد وضمان استقراره. فلا غروَ أن الأنظمة المصرفية المستقرة تعزِّز القدرة على التقدم الاقتصادي من خلال توفير التمويل للأعمال الصغيرة والمتوسطة، وهو ما يُسهم في زيادة الإنتاجية وخلق فرص عمل جديدة. ففي كثير من الاقتصادات الناشئة، تمثِّل البنوك التجارية والمؤسسات المالية الأخرى عناصر أساسية لتمويل مشاريع البنية التحتية والصناعية.
المؤسسات القضائية: تُسهم المؤسسات القضائية بدور حيوي في دعم التنمية الاقتصادية وتَقدُم الدول من خلال تحقيق الاستقرار القانوني، وحماية حقوق الملكية، وضمان العدالة في تطبيق القوانين بما يسمح بإيجاد بيئة أعمال مستقرة وآمنة. إن توفير بيئة قانونية حازمة من شأنها حل النزاعات التجارية ومكافحة الفساد. كما يمكن أن تعزِّز جذب الاستثمارات المحلية والدولية، وتحفِّز النمو في القطاعات الاقتصادية المختلفة. فنجد، على سبيل المثال، أن دول الاتحاد الأوروبي تستند في تأمين اقتصادها على المحاكم الأوروبية التي تضمن الالتزام بمعايير موحدة تُسهِّل التجارة والاستثمار بين الدول الأعضاء. وكذلك محاكم التحكيم الدولية ودورها في حلِّ النزاعات التجارية بين الدول والشركات، وهو ما يعزِّز الثقة الدولية. كذلك الحال في هيئات الرقابة ومكافحة الفساد في عدد من الدول العربية التي تُعنى بالعمل على حماية النزاهة ومكافحة الفساد في القطاعين العام والخاص.
المؤسسات المجتمعية: وتتضمن المنظمات غير الحكومية مثل الجمعيات الأهلية والهيئات التطوعية، والمشروعات الخاصة والنقابات المختصة بتقديم برامج للتدريب والتأهيل في بعض المهارات والمعارف اللازمة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. ويُنسب إلى هذه المؤسسات الفضل في دعم المرأة والشباب من خلال توفير قروض صغيرة تكون النواة في خلق مشاريع خاصة بُغية محاربة الفقر ومحو الأمية. أضف إلى ذلك، أنها غالبًا ما تُعنى أيضًا بكل ما يتعلق بالبيئة والحفاظ على مواردها ودعم المشاريع التي ترتكز على الطاقة المتجددة وإدارة النفايات. ومن أبرز مهامها أيضًا تلك المتمثلة في معالجة التوترات الاجتماعية وتقليلها لخلق بيئة داعمة للإنتاج والتقدم.
للمؤسسات الحكومية أهمية كبرى، غير أن العبء الأكبر من متطلبات التنمية العميقة يقع على المؤسسات المجتمعية والخاصة وعلى تكاملها والتنسيق فيما بينها.

أهمية تكامل عمل المؤسسات
ولعلَّه غني عن البيان أن تقدُّم الأمم يكون مرهونًا بتكامل تلك المؤسسات معًا دون العمل في جزر منعزلة. ولكي نجني نجاحًا مرجوًا من تلك المؤسسات، لا بدَّ من أن تتوحَّد في رسالتها ورؤيتها وأهدافها. فعلى سبيل المثال، تسبَّب إطلاق بعض الدول عددًا كبيرًا من المبادرات من دون اتباع منهج علمي لتحديد ما الذي حقق أهدافه وما الذي لم يحقق، في إخفاق سياسات التنمية في القرن العشرين في بعض الدول حول العالم. في حين يعزو البعض الآخر هذا الإخفاق إلى أن الدول الغنية لم تقدم للدول الفقيرة أية مساعدات. وإذا كان هذا نموذجًا لغياب التنسيق والتكامل بين المؤسسات على المستوى الدولي، فإن حضور التنسيق بين مؤسسات الدولة الواحدة أسهم في تخطي كثير من الأزمات العامة مثل أزمة كوفيد – 19، والبطالة والقضايا العنصرية، التي أسهمت فيها الجامعات ومؤسسات المجتمع المدني المتنوعة.
كان هذا جواب العلماء الثلاثة، الذين أشرنا إليهم في البداية، حول أسباب التفاوت الكبير في أحوال الدول ما بين التقدُّم والازدهار وبين الجمود والفقر. ففي الوقت الذي واكبت بعض الدول أحداث الثورة الصناعية البريطانية ونتائجها، وأخذت في النمو الاقتصادي الملحوظ، نال البعض الآخر فقط ما يكفي لتحسن طفيف في مستوى معيشته، في حين بقي آخرون بمعزل تام عن مسيرة التصنيع والتقدُّم.
اترك تعليقاً