لطالما كانت العمارة لغة صامتة تحكي قصص الحضارات وتعكس تطورها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فهي ليست مجرد وسيلة لإنشاء المباني، بل تُعد تجسيدًا لروح المكان ومرآة للهوية الوطنية. فقد كانت الهوية العمرانية علامة فارقة تميز كل منطقة عن الأخرى، حيث تتكيف التصاميم مع البيئة المحيطة، وتستمد مواد البناء من مواردها المحلية، وتندمج مع الثقافة السائدة لتخلق نسيجًا حضريًا متجانسًا يعكس طبيعة المجتمع. نرى هذه الرؤية الثقافية للعمارة متجسدة فيما تشهده المملكة حاليًا من حراك عمراني وثقافي غير مسبوق، ومدفوع برؤية السعودية 2030 الهادفة إلى تحقيق تنمية حضرية مستدامة تعكس القيم الثقافية الأصيلة، وتستجيب في الوقت نفسه للمتغيرات العالمية في مجالات التصميم والتكنولوجيا والاستدامة.
تعيد المشاريع الكبرى الحالية تعريف المشهد العمراني السعودي، مثل مشروع بوابة الدرعيةالذي يعدُّ من أبرز المبادرات التي تجسّد تطبيق خريطة العمارة السعودية؛ إذ يهدف إلى إعادة تأهيل منطقة الدرعية التاريخية وتطويرها لتصبح وجهة سياحية وثقافية تعكس روح العمارة النجدية التقليدية، وذلك باستخدام مواد بناء محلية وتقنيات تقليدية لإبراز الهوية الثقافية للمنطقة مع توفير مرافق حديثة تلبي احتياجات الزوار.
وفي إطار سعي المملكة لتعزيز هويتها المعمارية من خلال دمج العمارة التقليدية في المشاريع المعاصرة، يبرز مشروع وسط وجنوب العُلابوصفه أحد الأمثلة على إحياء طابع العمارة المحلية في تصميم حديث يتكامل مع المعالم المحيطة به، وذلك بالاعتماد على موجِّهات تصميمية تستلزم تطوير نسخة حضرية معاصرة تعكس الخصائص الثقافية والجغرافية للمنطقة، فتعزّز الهوية المحلية وتخلق تجربة فريدة للزوار والمقيمين، مستندةً إلى الأصالة المحلية في التصميم، واعتماد أحدث الابتكارات في تقنيات البناء والمعايير البيئية.
ماهية الهوية المعمارية وأهميتها
تشكلت “الخريطة المعمارية السعودية” التي أطلقها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بوصفها خطوة استراتيجية لتعزيز الإرث العمراني وضمان استمراريته في ظل التوسع المتسارع. وتسعى هذه المبادرة إلى تحديد معالم واضحة للطابع العمراني السعودي من خلال تبني 19 طرازًا معماريًا مُستوحى من الخصائص الجغرافية والثقافيةللمملكة، وذلك بما يتوافق مع تنوع مناطق المملكة جغرافيًا وتاريخيًا وثقافيًا.
تهدف هذه الموجِّهات التصميمية إلى تحقيق توازن دقيق بين الأصالة والحداثة، وهو ما يُسهم في خلق بيئات حضرية معاصرة تعكس العمق الثقافي والهوية السعودية، وتعزّز من جاذبية المدن اقتصاديًا وسياحيًا، وترسّخ مكانة المملكة بوصفها مرجعًا عالميًا في تطوير البيئات العمرانية المتكاملة.
فالهوية المعمارية تمثل عنصرًا أساسًا في تكوين المدن؛ لأنها تعكس روح المجتمع وتعزّز الارتباط العاطفي بين السكان وبيئتهم العمرانية. فالعمارة ليست مجرد تشكيلات مادية، بل هي لغة تحمل رموزًا ثقافية واجتماعية تعبّر عن تاريخ المكان وخصوصيته. ومن هذا المنطلق، اهتمَّ كثير من المفكرين والباحثين بتطوير نظريات معمارية تسلِّط الضوء على أهمية استدراك الهويات البصرية في التخطيط والتصميم العمراني.
“تمثّل الهوية المعمارية عنصرًا أساسًا في تكوين المدن، حيث تعكس روح المجتمع وتعزّز الارتباط العاطفي بين السكان وبيئتهم العمرانية”
ويعدُّ كريستيان نوربرغ شولتز من أبرز المفكرين الذين تناولوا مفهوم الهوية المعمارية، من خلال نظريته “عبقرية المكان”، التي تؤكد أن لكل بيئة طابعها الفريد الذي يجب أن ينعكس في العمارة المحلية، مشيرًا إلى أن الشعور بالمكان يتولّد من خلال التفاعل بين الإنسان والبيئة المبنية، وهو ما يستدعي تصاميم تتوافق مع الجغرافيا والثقافة المحلية. وفي السياق السعودي، يتجسّد هذا المفهوم في المبادرة الوطنية للهوية العمرانية، حيث يعكس الطراز النجدي بيئة الصحراء من خلال المباني الطينية البسيطة، في حين تتأثر العمارة الحجازية بالتبادل التجاري والثقافي، بينما يعكس الطراز الجبلي في عسير انسجامه مع التضاريس الصعبة عبر استخدام الحجر المحلي.
من هذا المفهوم، لا يمكن فهم الهوية المعمارية من دون دراسة العلاقة بين المباني وسياقها العمراني، وهو ما تناوله الباحث المعماري ألدوروسي في نظرية “السياق المعماري،” التي تؤكد أن العمارة يجب أن تكون امتدادًا للتاريخ والبيئة بدلًا من أن تكون كيانًا منعزلًا. ويشير إلى أن التصاميم العمرانية التي تفقد اتصالها بالسياق المحلي تصبح غريبة وغير متوائمة مع النسيج الحضري. هذا ما تسعى إليه مبادرةالهوية العمرانية السعودية، حيث توفر موجِّهات تصميمية مرنة تتيح دمج العناصر التراثية بأساليب حديثة من دون فقدان طابعها الأصيل.
تتجلى أهمية الموجِّهات التصميمية فيما تناوله الباحث كفين لينش في كتابه “صورة المدينة” حول أهمية الرموز البصرية في العمارة؛ إذ أكد أن العناصر العمرانية المميزة تؤدي دورًا محوريًا في تشكيل الهوية البصرية للمكان. وبالمثل، يرى المعماري جون روسكين أن التفاصيل الزخرفية في المباني ليست مجرد عناصر جمالية، بل تحمل دلالات ثقافية واجتماعية تُسهم في التعريف بهوية المكان. وفي العمارة السعودية، نجد أن المشربيات في الحجاز لم تكن فقط عنصرًا وظيفيًا للتحكّم في المناخ، بل كانت تعبيرًا عن مفهوم الخصوصية في العمارة الإسلامية. كما أن الأقواس المزخرفة في الأسواق والمساجد تمثل امتدادًا للتراث الإسلامي الذي يعكس الأبعاد الروحية والتاريخية للعمارة المحلية. وفي نجد، تعكس الأفنية الداخلية طبيعة الحياة الاجتماعية المتقاربة، حيث كانت تشكل فضاءً عائليًا يجمع الأسرة ويوفر بيئة مناخية مناسبة.
استلهام الطرز التقليدية لا إعادة إنتاجها
تعدُّ الأنماط التصميمية الثلاثة، التقليدي والانتقالي والمعاصر، تأكيدًا على أهمية الحفاظ على الهوية العمرانية. إذ يشير المعماري ريم كولهاس في نظريته “الهجينالعمراني” إلى أن الهوية يجب ألا تكون ثابتة أو محصورة في الماضي، بل يجب أن تتطور مع الزمن من خلال دمج العناصر التقليدية مع الابتكارات الحديثة. ومن هذا المنطلق، فإن المبادرة السعودية لا تقتصر على إعادة إنتاج الطرز التقليدية، بل تهدف إلى استلهامها بأسلوب حديث يواكب المتغيرات العمرانية والتقنية. وتُظهر هذه النظريات أن الهوية المعمارية ليست مجرد مسألة شكلية، بل هي نتاج تفاعل معقد بين البيئة والثقافة والزمان.
وفي المملكة العربية السعودية، تعكس المبادرة الوطنية للهوية المعمارية إدراكًا عميقًا لهذه الجوانب؛ إذ إنها تسعى إلى استحداث أنماط معمارية جديدة مستوحاة من الطرز التقليدية، ولكن برؤية تتناسب مع متطلبات العصر. ومن خلال الجمع بين نظريات عبقرية المكان والسياق المعماريوالرمزية البصرية والاستدامة، يمكن للمملكة أن تقدّم نموذجًا عالميًا في تحقيق التوازن بين الأصالة والتجديد، وهو ما يعزز من الهوية البصرية للمدن السعودية ويجعلها أكثر ارتباطًا بجذورها الثقافية والتاريخية.
خلاصة تجارب سابقة
نُفّذت سابقًا مشاريع عديدة تسعى إلى توثيق الهوية المعمارية في المملكة وإبراز دورها في تشكيل المشهد الحضري الحديث. ومن أبرزها توثيق هوياتالمناطق في مشروع الجنادرية عام2021م، حيث جرى العمل على إعادة تمثيل العمارة التقليدية للمناطق المختلفة داخل بيئة مهرجان الجنادرية الثقافي، بهدف تقديم صورة متكاملة عن التنوع المعماري في المملكة. فكان هذا المشروع فرصة لاكتشاف عمق وتأثير الأنماط التقليدية على المشهد العمراني، كما اتضح أن لكل منطقة خصائص معمارية فريدة تعكس بيئتها الطبيعية والاجتماعية، وأن دراسة هذه الأنماط يجب ألا تقتصر على حفظها بوصفها تراثًا، بل يجب أن تتحول إلى مصدر إلهام للمشاريع الحديثة.
“بالجمع بين نظريات عبقرية المكان والسياق المعماري والرمزية البصرية والاستدامة، يمكن للمملكة أن تقدم نموذجًا عالميًا في تحقيق التوازن بين الأصالة والتجديد”
وإلى ذلك، كانت هناك مشاريع تتعلق بإحياء الحرف التقليدية وإعادة دمجها في المشهد المعماري المعاصر. ومن بين هذه المشاريع مهرجان طين في الدرعية، وهو مهرجان معماري وثقافي احتفى بالعمارة النجدية وأهمية مادة الطين في البناء. وكان هذا الحدث تجربة فريدة، ركّزت على إحياء وتقديم تقنيات البناء بالطين للجمهور من خلال ورش العمل والعروض الحية التي توضح كيفية إعداد الخلطات الطينية، وبناء الجدران بالطوب اللبن، وتزيين الواجهات بالنقوش التقليدية، والتفاصيل الزخرفية للباب النجدي. وكان لهذا المهرجان أثر ثقافي واجتماعي وعلمي كبير على الزوار؛ إذ لم يقتصر على استعراض العمارة النجدية بوصفها موروثًا، بل أعاد إحياء الحرف التقليدية التي كانت على وشك الاندثار، وعزّز فهم الجمهور لأهمية العمارة التقليدية التي تتكيف مع المناخ وتستخدم المواد المحلية بطريقة مستدامة.
وإلى جانب التوثيق العمراني، كان هناك توثيق أنماط وتفاصيل التصميم الداخلي التقليدي في مناطق المملكة المختلفة. وارتكز المشروع على دراسة وتحليل العناصر الداخلية للبيوت التقليدية في كل منطقة، بما في ذلك المفروشات، والزخارف الجصية، والأسقف الخشبية المنقوشة، والأبواب والنوافذ المزخرفة. ففي منطقة نجد، على سبيل المثال، دُرست الأسقف المدعمة بأخشاب الأثل المنقوشة، والجدران الطينية المطلية بالجص المزخرف بأشكال هندسية. وفي المنطقة الحجازية، جرى توثيق تفاصيل المشربيات الخشبية، والأرضيات الرخامية المزينة، إضافة إلى الأنماط اللونية الفريدة التي تميز البيوت القديمة في جدة التاريخية. أمَّا في منطقة عسير، فقد ركّزت الدراسات على فنالقط العسيري، وهو أحد أهم عناصر التصميم الداخلي التراثي، حيث يستخدم لتزيين الجدران الداخلية بأنماط ملونة تعكس الهوية الثقافية لسكان المنطقة.
وكان لافتًا للنظر في هذه التجارب كيف أن الزوار والمهتمين بالعمارة التراثية يتفاعلون بمدى كفاءة المواد التقليدية في توفير حلول مستدامة وبيئية، مثل قدرة الجدران الطينية على العزل الحراري الطبيعي، وهو ما يجعلها من أكثر المواد استدامة ورفقًا للبيئة. كما شكلت هذه الفعاليات فرصًا لالتقاء الحرفيين المعماريين بالمهندسين الشباب، وهو ما ساعد على تحفيز الأجيال الجديدة على تبني مفاهيم العمارة المحلية بروح معاصرة.
تؤكد هذه التجارب أن المحافظة على الهوية العمرانية لا تعني العودة إلى الماضي بمعزل عن الحاضر، بل تعني إعادة تفسير هذه العناصر والمخزون المعماري المتنوع لإعادة دمجها في المشهد العمراني المعاصر، لتعكس روح المكان وتكون في الوقت نفسه ملائمة للمتطلبات المعاصرة. كما تؤكد أن مبادرة الهوية العمرانية السعودية لا تهدف فقط إلى الحفاظ على التراث العمراني، بل تعمل على تحفيز الفكر المعماري على استحداث أنماط جديدة مستمدة من الطرز التسعة عشر، ولكن برؤية متجددة ومتوافقة مع احتياجات العصر.
بيئة حضرية أكثر تفاعلية وإنسانية
إن خريطة العمارة السعودية نموذج عالمي يمكن أن يكون مرجعًا لكيفية تحقيق التوازن بين الأصالة والحداثة في المشاريع العمرانية الحديثة، حيث تسهم في تحسين جودة الحياة وتعزيز الهوية الثقافية، وتوفير بيئات حضرية مستدامة وجاذبةتتماشى مع متطلبات التنمية المستقبلية. فالمملكة اليوم، وهي تشهد نهضة عمرانية غير مسبوقة، لا تستعيد فقط هويتها المعمارية، بل تعيد تعريفها بطريقة متجددة تتناسب مع المتغيرات العالمية، وهو ما يعزز من مكانتها بوصفها إحدى الدول الرائدة فيالمجال العمراني والإبداعالمعماري.
“التفاصيل الزخرفية في المباني ليست مجرد عناصر جمالية، بل تحمل دلالات ثقافية واجتماعية تُسهم في التعريف بهوية المكان”
ومن هذا المنطلق، يتطلب مستقبل العمارة السعودية تبني نهج معماري متكامل يرتكز على التقنيات الذكية والاستدامة البيئية، وهذا ما بدأت المملكة بالفعل في تحقيقه عبر مشاريعها الكبرى، حيث توظف العمارة بوصفها وسيلة لتعزيز التفاعل بين الماضي والحاضر والمستقبل. في هذا السياق، سيكون للهوية المعمارية السعودية دور حاسم في توجيه تصميم المدن والمباني بطريقة تحترم الإرث الثقافي، وتوفر في الوقت نفسه حلولًا مبتكرة تلبي احتياجات الأجيال القادمة، فالعمارة السعودية اليوم لم تعد تقتصر على كونها مجرد انعكاس لتراث عريق، بل أصبحت رؤية استشرافية لمستقبل متكامل يجمع بين الأصالة والابتكار، وهو ما يضعها في موقع الريادة الإقليمية والعالمية بوصفها منظومة عمرانية قادرة على تقديم تجربة معمارية متفردة تتسم بالهوية العميقة والاستدامة والحداثة.
اترك تعليقاً