مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو - يونيو | 2025

بلا قيد أو شرط

حُبّ الأبوين يضيء حياة الأبناء

د. عبدالجبار الرفاعي

عاطفة الأبوين قيمة يعرفها ويقرّ بأهميتها الجميع، وتختلف هذه العاطفة عن كل أشكال العواطف الأخرى؛ لأنها وجودية بالنسبة إلى الطرفين. إنها ضرورية للبقاء بالنسبة إلى الأطفال، وحتى للأبوين اللذين يرون في بقاء أبنائهم من بعدهم، بقاءّ لهم هم أيضًا. وفيما تبقى الأمومة شبه عصية على التفسير المنطقي على الرغم من وضوح جميع مظاهرها في الحياة اليومية، وكثيرًا ما ينكسف الفكر النقدي أمامها، فإن الأبوّة تبدو أكثر استعدادًا لمحاورة المنطق والفكر النقدي. وتكامل هاتين العاطفتين هو ما يمنح الأبناء كل احتياجات العيش خلال الطفولة، لا بل إمكانية العيش نفسها. إنه الحب الذي يحمي ويرشد ويعطي بلا مقابل، هكذا كان منذ الأزل، وهكذا سيبقى إلى الأبد.   

الذين عاشوا طفولتهم في تلك القرية في الريف العراقي يذكرون أن أقرب مدرسة ابتدائية تأسست عام 1960م، كانت تبعد عنهم مسافة ستة كيلومترات. فكان الأولاد يتوجهون إلى المدرسة مشيًا وحفاة الأقدام. غير أن الحصة الكبرى من الإرهاق كانت تقع على عاتق أمهاتهم، لتنوع المسؤوليات المنوطة بهن وتعدّدها في الريف، ومنها رعاية الأبناء، خاصة مَن يذهب إلى المدرسة منهم. تبدأ المهمة الأولى للأمهات صباح كلّ يوم بخوض مياه أحد الجداول الباردة في الشتاء، لحمل الأبناء إلى الضفة الثانية للجدول ليواصلوا المشي إلى المدرسة. ومن ثَمَّ، تواصل الأمهات الكدح في الحقول بممارسة أعمال الفلاحة المنهِكة بمعية الآباء، والقيام بمهمات رعاية الأسرة، وإعداد الطعام الذي يقتصر على الخبز وحده في الغالب. كما أن بعض الأمهات كنّ يقعن ضحية ظروف مفجعة، عندما يُتوفى الزوج فجأة، فتتورط الأم بكفالة مجموعة من اليتامى وتدبير متطلبات عيشهم. 

فمما يُروى، على سبيل المثال، أنه عندما قُتِل زوج إحدى النسوة وترك لها خمسة أطفال صغار في فقر مدقع، عملت الأم بجهد وذكاء على تدبير معيشة أطفالها بصناعة الفحم وبيعه. فكانت تصنع الفحم على ضفة الجدول، وفي اليوم التالي كانت تحمل ما لا يقل عن خمسة عشر كيلوغرامًا منه على رأسها، وتتوجه به مشيًا لبيعه في “قلعة سكر”، المدينة التي تبعد خمسة عشر كيلومترًا عن القرية. أي أن هذه المرأة كانت تقطع مشيًا ثلاثين كيلومترًا في يوم واحد ولا تعود إلى البيت إلا عند المغرب، حاملة معها ما يحتاج إليه أولادها.

 ولكن أحد أبناء هذه المرأة كان عاقًا سيئ الطباع عدوانيًا وعنيفًا، يتطاول على أمه بكلام قليل الأدب، وأكثر من ذلك، بأفظع ما يمكن لابن عاق أن يفعله بحق أحد أبويه: ضربها. وعلى الرغم من أن هذه الأم كثيرًا ما كانت تلجأ إلى وسطاء يبعدون شرّ ابنها عنها، فإنها كانت تهدأ بسرعة، وتصبر على تصرفات ابنها؛ إذ لم تفكر يومًا باتخاذ موقف صارم منه مثل طرده من البيت أو التوقف عن كفالته.

أدهشت تلك الأم كلَ من عرفها بقدرتها الاستثنائية على العمل الشاق، وتحمّل سلوك ابنها العاق، وبقائها على شفقتها عليه. ولكن حالتها ليست فريدة من نوعها.

نادرًا ما يلتقي التفكير النقدي بالأمومة، وهذا ما يدعو الأبناء للتعلّق والاحتماء بالأم، مهما تقلبت حياتهم وتقدّمت أعمارهم.

الأمومة لا تُدرّس ولا تُكتسب

تفرض على المرأة طبيعتُها البيولوجية والسيكولوجية نوعًا من العبودية، تخضع فيها بمتعة للأبناء بلا شروط ولا مكافأة. فالأمومة ضرب من العبودية الطوعية للأبناء، نلمسها لدى كثير من الأمهات، وهي تتعدّد بعدد الأبناء. عاطفة الأم وشفقتها ليست فائضة أو عبثية أو مجنونة. فالإنسان بلا عواطف يتحول إلى كائن متوحش. وليس في المجتمعات البشرية كلّها، منذ أول إنسان على الأرض إلى اليوم، أكاديميات علمية لتعليم الأمهات الأمومة، أو الحنان، أو الشفقة، أو العواطف. ذاكرة الأم تمحو كلّ ما يصدر عن الأبناء، مهما كان بشعًا مقيتًا. 

أعذب حُبّ يذوقه الإنسان في حياته إشراقات قلب أمه. فقلب الأم أشبه بضمير معلّم روحاني. لا شيء في الوجود يمنح الحياة أجمل معانيها كقلب الأم. فهي مرآة تتجلى فيها أجمل صور المرأة. الأم تحب بلا شروط، هي القلب النابض الذي تلتقي فيه كلَ حالات الحب والرحمة والإيثار والعطاء اللامحدود بكل أشكاله. الأم هي الإنسان الذي يعطي بلا امتنان، وبلا أيّ حساب للعوائد مقابل العطاء. 

التفكير النقدي بين الأمومة والأبوة

الأمومة هي الحالة الوحيدة في الكائن البشري المخلوقة من الرحمة الإلهية الخالصة دون سواها. ولا يعرف منزلة الأم إلا من عاش مرارة فقدانها والحرمان من حنانها. تطغى العاطفة في الأمومة فتحجب هشاشة الأبناء وأخطاءهم وخطاياهم. الأمومة تبلّد العقل حيال مواقف الأبناء وسلوكهم، وتخفي كلّ شيء مزعج في شخصياتهم وحياتهم. نادرًا ما يلتقي التفكير النقدي بالأمومة، وهذا ما يدعو الأبناء للتعلّق والاحتماء بالأم، مهما تقلبت حياتهم وتقدّمت أعمارهم. الآباء يقوّمون سلوك الأبناء، وينتقدون أخطاءهم، والإنسان بطبيعته ينفر من النقد. لقاء العقل النقدي والتفكير الواقعي بالأبوة أوضح وأوثق من اللقاء بالأمومة.

الأمومة والأبوة حاجة إنسانية أصيلة، إنها أعمق تعبير عن شغف الإنسان بالخلود. فكلما تقدّم عمر الإنسان استفاقت في حياته الحاجة للعودة إلى الطفولة، وهي تعبير عن توقه الأبدي لاستئناف الحياة والعودة للبدايات. حُبّ الأبناء حُبّ نرجسي لذواتنا، ويعود ذلك إلى أن في الأبناء ما ينبئ بديمومة حياة الإنسان عبر امتداده في حياة أبنائه وأحفاده، وهكذا. الأطفال مرآة لصورة الإنسان يوم كان صغيرًا، كأنهم يستأنفون للكبار مرحلةَ طفولتهم، وكلّ ما تحفل به ذاكرة الطفولة من جمال. مضافًا إلى أن الأبناء يُشبعون حاجة الإنسان العميقة للكمال. فكلّ ما فشل الإنسان في إنجازه في الأمس، يحلم بأن يحقّقه الأبناء غدًا. وهكذا يمكن أن يشبعوا ولعه الذي لا ينطفئ بالاعتراف، بوصفه الحافز الأعمق للإنجاز. وكثيرًا ما يحلم الآباء بأن ما خسروه من اعتراف الغير بمواهبهم ومنجزهم، يمكنهم أن يستوفوه باعتراف الغير بمنجز الأبناء. 

الأطفال أكثر براءة وعفوية وحيوية وغبطة بالأشياء من الكبار. نتعلم من الأطفال الاحتفاء بما نحسبه بسيطًا وعفويًا وهامشيًا. الأشياء التي يحسبها الكبار مُطفأة وليست ذات معنى، تتبدّل بلمسات الطفولة العفوية إلى مضيئة آسرة، تكشف عن وجوه متعدّدة لمعانٍ متوهجة، ولا تتبدّى معانيها إلا عبر تعاطي الأطفال معها واهتمامهم بها. هكذا نستأنف مع الطفولة رحلة اكتشاف وجوه المعنى فيما حولنا، التي نفتقد الكثير منها كلما تقدّم عمرنا. 

بين لغتي العقل والقلب

عقل الأبوين لا يتحدث لغةَ عقل الابن، لكن قلب الأبوين يتحدث لغةَ قلب الابن، وهذا ما يمنح الحياةَ أجمل معانيها. قلوب الآباء تبقى مشغولة بالأبناء ما داموا في الحياة، قلوب الأبناء ناظرة لمستقبلهم الشخصي ومستقبل أبنائهم، وقلّما تتلفت إلى الوراء. كل حُبّ يمكن أن ينطفئ في القلب، إلا إن كان تجربة وجود مثل حُبّ الأم والأب. يتعذر على مَن هو خارج تجربة الوجود أن يذوقها، وربَّما يصعب جدًا عليه قبولها وتفسيرها. التجربة الروحية تجربة وجود كأنها حُبّ الأبوين للأبناء، هذا الحُبّ لا يتحسّس جذوته المتقدة إلا الآباء. فكثيرًا ما نسمع من يقول إنه لم يعرف قوة حبّ الآباء للأبناء وتذوقهم لهذا الحُبّ وشغفهم بالأبناء، إلا بعد أن أصبح هو أبًا.  

كلُّ صلة حية لا تموت حين تكون مادتها القلب قبل العقل، والروح قبل المصالح، والحياة الأخلاقية قبل كلِّ شيء.

لا يرى الإنسان صورته الأجمل إلا بقلوب المحبين. الإنسان يتذوق معاني الجمال في العالم ويبتهج بها، ولا يجد ما هو أجمل في معناه من المحبّة والرحمة. الألم العاطفي للأبوين على نكبات الأبناء من أقسى الآلام وأمضاها. بعض الآباء وكثير من الأمهاتِ لا يستطيع الرقادَ عندما يمرض أحدُ الأبناء. أليس أمرًا مألوفًا أن تقف أم عند باب بيتها لساعات بانتظار ابنها لتطمئن إليه عندما يتأخر عن العودة، أو حتى لتعرف منه كيف جرى امتحانه المدرسي؟  قلوب الأبناء ليست كقلوب الأمهات والآباء، لولا حنان الأمهات والآباء وعطفهم وشفقتهم على الأبناء وتضحيتهم بكلِّ شيء من أجلهم، لانقرض البشر وتعطلت الحياة على الأرض. 

اختلاف الحب الوجودي عن غيره

تختلف مراتب الحُبّ وتتنوع كيفياته. كلّ إنسان يحب على شاكلته وكيفية تفاعل محبوبه واستجابته. الحُبّ الاستثنائي الأصيل يتحقّق فيه الإنسان بطور وجودي أجمل وأثرى. حُبّك لأي إنسان يتحقّق على وفق ذاتك وذات ذلك الإنسان. حُبّ الأم يتشاكل مع الأمومة وهو ضرب من الحُبّ غير المشروط، وحُبّ الأب يتشاكل مع الأبوة وهو ضرب من الحُبّ المشروط. حُبّ بناتك يتشاكل مع طبيعة الأنوثة وحنانها، وحُبّ أولادك يتشاكل مع أنماط شخصياتهم. حُبّ كلّ واحد من الأولاد أو البنات يتشاكل مع ذاته وذات الأبوين ونمط صلته بأبويه. كل صلة حية لا تموت حين تكون مادتها القلب قبل العقل، والروح قبل المصالح، والحياة الأخلاقية قبل كلِّ شيء. رابطة الدم والرحم من الأمور التي تمكث أبدًا إن سقاها ورسخها الحُبّ والإيمان، ولم يعبث بها تصادم المصالح والأمزجة. والتعامل الأخلاقي والعاطفي يمكّن الأبوين من الدخول إلى قلوب الأبناء وامتلاكها بلا استئذان.

 حُبّ الأبناء لا يعني القيام بكلّ شيء نيابة عنهم كما يفعل بعض الأبوين. مَن يحاول العيش نيابة عن أبنائه يجني عليهم، ويجعل منهم كائنات هشّة لا تطيق تحمل أية مشكلة يمكن أن تواجههم في المستقبل. الحضور في الواقع ومواجهة تحدياته ومباغتاته المختلفة ضرورة لصناعة الإنسان وجعله قادرًا على إدارة حياته بنفسه.


مقالات ذات صلة

من الأعلى، من نافذة الطائرة في رحلة من الرياض إلى جدة، تظهر في الأسفل سبع فوهات لبراكين خامدة تنتظم في خط مستقيم. منظرها مذهل، ويُغري برحلة إليها واستكشافها عن قرب.

هناك فرق بين القلق الطبيعي الذي يشمل مشاعر عدم الارتياح والخوف والترقُّب تجاه مواقف حياتية مختلفة، وبين القلق المفرط والمستمر الذي يؤدي إلى اضطرابات.

في قلب مدينة مونتريال الكندية، حيث يلتقي التاريخ بالحاضر، يتجسَّد مشروع “سيتي ميموار” أو “مدينة الذاكرة” ليُقدِّم تجربة حضرية رائدة من خلال تركيب مبتكر يهدف إلى بعث تاريخ المدينة الغني إلى الحياة.


0 تعليقات على “حُبّ الأبوين يضيء حياة الأبناء”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *