مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2025

جماليات الأجواء..

نحو هوية إبداعية عربية

يُقدِّم هذا الكتاب إلى المكتبة البحثية العربية، من منظور نوعي متفرد، مفهوم “الأجواء” محاولًا تأصيله والكشف عن مدلولاته المتنوعة من أجل فتح آفاق للعمل البحثي والنظري والتطبيقي في مجال الجماليات والإنسانيات، وذلك بعد أن لاحظَت مؤلفته أستاذة الجماليات والفلسفة المعاصَرة بجامعة تونس منيرة بن مصطفى حشَّانة ما وصفته بالفراغ الأكاديمي الموحش بشأنه؛ إذ لم يُلتفت إليه في الدراسات ذات البُعد الجمالي على الرغم من انتشاره في مجالات عديدة ومختلفة منذ ما يقارب الثلاثين سنة، وبعد تجاوزه الحقل الجمالي والفني ليُعبِّر عن “منعرجٍ وجداني” في الدراسات الإنسانية.

في هذا السياق، تتساءل “حشَّانة” في مقدمة عملها: لماذا ظلَّت الدراسات حول “جماليات الأجواء” محدودة وضئيلة في عالمنا العربي؟ لكن سؤالها هذا لا يعني أن المفهوم قد غاب تمامًا في دراسات هذا التخصص عن الباحثين العرب؛ لأن كثيرًا منهم، كما تُشير، قد كتبوا عنه لكن باللغة الإنجليزية، وحاولوا تطبيقه في بعض المجالات مثل الموسيقى والهندسة المعمارية والتصميم، لكن الكتابات باللغة العربية فيه ظلت محدودةً وقليلة جدًّا.

تقول المؤلفة: إن جماليات الأجواء، وهو المفهوم الذي تطوَّر في الفلسفة الألمانية المعاصِرة، أُسِّست منذ تسعينيات القرن الماضي من أجل إيجاد طرائق جديدة لفهم التجارب الجمالية المعاصِرة في تنوعها لتشمل كل مظاهر الحياة، وما يعنيه ذلك من تفسير للواقع اليومي المعيش السياسي والاقتصادي والحضاري والفني، وإنها أرادت بنقله وترجمته وتكييفه مع “لغة الضاد” واستضافته فيها تطبيق هذا النموذج النظري على الجماليات العربية و”جعله أداة منهجية لقراءة تراثنا الجمالي والأدبي وممارستنا الفنية المعاصرة”، وذلك بغرض تأكيد “هويتنا الإبداعية” على خريطة البحث الجمالي العالمي.

ومن أجل تحقيق هدفها المتمثل في محاولة الوجود على خريطة المفاهيم المرتبطة بمصطلح “الأجواء”، ثم ربطه بالجماليات العربية، قسَّمت المؤلفة كتابها إلى ستة فصول، استعرضت فيها تعريفات المصطلح وشبكة المفاهيم الفرعية المحيطة به كافة، كما ظهرت ضمن السياق الغربي أساسًا وفي أكثر من ميدان معرفي ومجال بحثي منها الطبيعة وعلم المناخ والجماليات الحديثة والنقد الفني والعمارة. وقد خصَّصت الفصل السابع، وهو الأخير، لآفاق استخدام “جماليات الأجواء” في الثقافة العربية المعاصرة واستعراض تجاربها في التراث أولًا، ثم في المشهد الفني العربي المعاصر في مرحلة ثانية.

وسيفهم القارئ من فصول الكتاب تطور دلالة مفهوم الأجواء وجمالياته التي تظل تحمل معنى حسيًّا يمنح المحيط الخارجي للإنسان قيمة كبيرة. فكما توضح المؤلفة، كلمة “الأجواء” ومفردها “الجو” تُستعمل في لغتنا العادية للتعبير عن المشاعر سلبًا وإيجابًا بربطها بالطبيعة الخارجية. فنتحدث، على سبيل المثال، عن “كآبة الطقس”، أو “غضب البحر”، أو “مناجاة القمر”، وهذه كلها استعمالات مجازية لمفهوم الأجواء، كانت الخطوة الأولى التي هيأت ظهوره نموذجًا فكريًّا ونظريًّا يُستخدم في البحث العلمي الإنساني والاجتماعي.

وتوضح المؤلفة أن استخدام مفهوم الأجواء في البحث الجمالي يستوعب معانيه كافة. فالأجواء، هي قبل كل شيء، “وسط”. هذا الوسط “يحوينا ويغلفنا ويشملنا”، وله دلالاته النفسية والبيولوجية ويرتبط بالجسد والحضور في العالم، كما يُحيل إلى الحواس والفضاء، وهو ذو علاقة بـ”الهالة” التي نستشعرها حين نشاهد عملًا فنيًّا أصيلًا. فالأجواء بهذا المعنى مشاعر وأحاسيس يختبرها الإنسان في حالات بعينها تعكس انفعاله مع أشياء بعينها، ومع أماكن يسكنها أو يمر بها ويتأثر بها عاطفيًّا. لهذا، فالأجواء حاضرة في فنون الموسيقى والمسرح والسينما وفنون الأداء، وحاضرة كذلك في التصاميم المعمارية على اختلافها. فمبدعو هذه الفنون والتصاميم يفهمون جيدًا، ولأجل جذب جمهورهم، “كيفية توليد الجو” في أعمالهم حتى يمكن في النهاية فهم معنى الرسائل التي تحملها، وخَلْقُ عواطف بعينها عند التجاوب معها.

وفيما يتعلق بتجارب الأجواء في الثقافة العربية، تؤكد منيرة بن مصطفى حشَّانة، أن الحضارة العربية زاخرة بتنوع لا مثيل له من تجارب الأجواء التي يمكن دراستها، وعرضت في كتابها بعض الأمثلة الدالة على ذلك، ومنها أجواء المجالس الأدبية التي هي أجواء “إمتاع ومؤانسة”، وأجواء “التجارب الصوفية” وما يرتبط بها من “سماع” ترى فيه موضوعًا للدرس اعتمادًا على منهج الأجواء ليضيء “دور الحواس والقلب والجسد” في هذه التجارب. وثمة أيضًا مجال العمارة و”جوِّها الخاص”، الذي يمكن أن يكون هو كذلك موضوعًا لدراسات تهدف، على سبيل المثال، إلى فهم طبيعة التفاعل بين عناصر الفضاء والإضاءة والألوان في معمار المساجد والقصور، مثل قصر الحمراء، وغيرها من المعالم العربية الشهيرة الذي يخلق انطباعًا مميزًا لدى من يزورها بطريقة تُظهر “ثراء هذا التراث المعماري وخصوصيته”.


مقالات ذات صلة

تأليف: مارك كوكيلبيرج ترجمة: عبدالنور خراقي وعبدالرحيم فاطمي الناشر، خطوط وظلال، 2024م يبدأ أستاذ فلسفة الإعلام والتكنولوجيا بجامعة فيينا، مارك كوكيلبيرج، كتابه باقتباس السطور الأولى من رواية “المحاكمة” لـ”كافكا” المنشورة عام 1925م، التي أشارت إلى واقعة القبض على “جوزيف. ك” صبيحة أحد الأيام دون أن يرتكب خطأ ما، والذي سيُعدم لاحقًا بعد محاكمة افتقرَت إلى […]

تأليف: بول تايلر ترجمة: سلمى الحافي الناشر: الساقي، 2025م على غلاف النسخة الإنجليزية من هذا الكتاب، سيشاهد القارئ هيكلًا عظميًّا متمددًا على أريكة مريحة يُتابِع التليفزيون، وبيده ما يبدو أنه هاتفه المحمول، ومن حوله تتناثَرُ وجبات الطعام السريعة. ويشكل هذا، باختصار، المعنى العام للمضمون، الذي أراد أن ينقله مؤلِّف هذا العمل خبير التغذية والباحث في […]

تأليف: جوزويه باجيو ترجمة: عبدالفتاح عبدالله الناشر: هنداوي، 2024م اللُّغويات العصبية، كما نقرأ في مقدمة هذا الكتاب، هي “دراسة الأساسات العصبية للغات البشرية”، وهي ترتبط بشبكات الخلايا العصبية في المخ، والطرائق التي تتفاعَلُ بها، بما يسمح للبشر بالتعلُّم والتمكُّن من لغة أو أخرى. وهي نتيجة لتلاقي علم الأعصاب وعلم اللغة، لكن يدخل في نِطاق عملها […]


0 تعليقات على “جماليات الأجواء..”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *