لم يكن عام 2004م اعتياديًا، بل يمكن اعتباره حجر الزَّاوية في انطلاق واحدة من أهمّ مفاعيل شبكة الإنترنت، متمثّلة في بزوغ فجر “التَّواصل الاجتماعيّ” كما تعارفنا عليه، و”الإعلام الاجتماعيّ” كما هو معروف عالميًا؛ إذ بدأ الأمر بمجرَّد رغبة مارك زوكربيرغ في التَّواصل مع بقيّة الطلبة في جامعة هارفرد، فأنشأ “فيسبوك”، ولكن ما لبث أن اتّسع الأمر كثيرًا لتتوالى الاشتراكات في هذه المنصَّة ليصل عدد المشتركين فيها إلى مليون مشترك في غضون عشرة أشهر فقط، بينما احتاجت محطّات التلفزة الأمريكية إلى عشر سنوات تقريبًا للوصول إلى العدد نفسه.
بداية الانفلات من كل الضوابط
في ذلك العام (2004م)، ظهر الجيل الثاني من الإنترنت الذي حوّل الشَّبكة من فضاء لبثّ المعلومات إلى ساحة للتَّفاعل، وهذا ما ولّد الويكي والمدوَّنات والفيديوهات التفاعلية، وهو ما جعل مئات الملايين من البشر يديرون ظهورهم لوسائل الإعلام التَّقليدية (التي كانت تسمَّى “جماهيرية” يومًا ما)، والتي كانت تتحكَّم فيمَن يكتب في الصُّحف، وما الذي يُنشر، أو من يظهر في الإذاعة أو التلفزيون، وما الذي يُقال أو لا يقال فيهما. وأصبح الجمهور قادرًا على التَّعبير عن نفسه بالوضوح الكافي متى ما أراد، وصار إنتاج المحتوى الإعلامي المؤسّسي والفردي أصعب من الإحاطة به، أو ضبطه أمنيًا أو أخلاقيًا أو اجتماعيًا، بل على جميع الصُّعُد، حتى شعرت الجهات التي كانت تسيطر تاريخيًا على نوعية التعبير، أنها لم تعد تملك كثيرًا من الحيل لكبح جماح هذا الانفلات، بل الانفجار في كمّ المحتوى ونوعه الذي يجري توزيعه. ولكن هذا ما كان ليجعلها تقف مكتوفة اليدين، فمن أطلق الجياد من الحظيرة قادر على السَّيطرة على جمع منها، وإن لم يكن جميعها.

يعسكر في وسائل التواصل الاجتماعي أصحاب توجُّهات وأفكار وأيديولوجيات، يريدون من خلالها أن يروِّجوا ما يؤمنون به.
فعلى مدى السنوات العشرين الماضية، تناسلت منصات التواصل الاجتماعي لتصل اليوم إلى أكثر من 200 منصَّة، يستخدمها أكثر من خمسة مليارات شخص، وهو رقم ما كان في متخيَّل أيّ باحث أن يتحقَّق أبدًا. فمنصَّة مثل “فيسبوك”، وهي الأكبر عالميًا، يصل عدد مشتركيها النَّشطين شهريًا إلى نحو 2.9 مليار نسمة، ويصل عدد مستخدميها من العرب إلى 200 مليون مستخدم، يشكّلون نحو %6.9 من العدد الإجمالي للمستخدمين، وكذلك الحال بالتَّناقص مع المنصات الأخرى المهمة. فقد قادت سهولة الوصول، ومجّانية الاستخدام، واتّساع رقعة التَّواصل، والاهتمام الرسمي والشعبي بالتواصل الاجتماعي؛ لتكون أساس التواصل الشعبي والرسمي بين الجمهور بعضه مع بعض، والمؤسّسات كذلك.
هنا ظهر مصطلح “الصحفي المواطن” الذي يشارك، بل ينافس، الصحافة على سرعة نشر الخبر من دون الالتزام بالضرورة بضوابط الكتابة الصحفية، ومن دون مرور المادة أو الصُّورة أو الفيديو على من يقرّر نشره، أو نشر جزء منه، مع الأخذ بما يتناسب مع توجهات مُلّاك الوسيلة الإعلامية، والقواعد المجتمعية والأخلاقية. فبعد أن كان “المواطن” أو الفرد يكتفي بإبلاغ الوسائل الإعلامية بما رأى، أو إرسال ما صوّره إليها، صار يرسله مباشرة عن طريق هاتفه الذكي إلى الشبكات واسعة الانتشار والتَّمدد، ليحقّق رضًا عن نفسه بأنه فاعل في هذا الحدث. وعُدَّ هذا الأمر ثورة على احتكار مجموعة صغيرة في المجتمعات للمعلومات والأخبار، وأنه انقلاب على تحديد وعي الجمهور وتنميطه، فالجمهور نفسه اليوم ينتج ويبثّ حتى من دون الرجوع إلى القواعد التي تنظّم مهنة الصحافة ومصافيها التي تُغربل المعلومة، وتتأكد من صحتها أو “تلوّنها” بحسب توجهاتها.
المؤسسات الإعلامية صارت تتسابق على إثبات ولائها للجمهور عبر نشر مواد أعدَّها هُواةٌ ضمن ما يُعرف بـ”صحافة المواطن“.
على الرغم من اعتبار أنَّ “المواطن الصحفي” انعتق من هذه القيود، فإن الأمر لم يخلُ من المساوئ التي بدأت تتعاظم وتتنوَّع، فليس نشر الأخبار المتسرّعة وغير المتأكَّد من دقتها هو وحدَه ما أثار قلقًا متصاعدًا في كل المجتمعات، بل تعدَّى الأمر إلى نشر الشائعات التي قد يهدف ناشرها الفرد إلى زيادة التفاعل معه من خلال تلفيق أحداث، أو إضافة الإثارة إلى مواد أخرى، خصوصًا بعد أن أخذت المنصات تتصيّد الحسابات ذات المتابعات العالية لتصنع منها “حصان طروادة” تُمرَّر الإعلانات من خلالها، فكما يُقال: “لا أحد يقدِّم الغداء مجانًا”، فهذه البرامج المجانية تُضخُّ فيها استثمارات ضخمة لا من أجل أن يتواصل النَّاس، ولكن لكي يستفيد منشئوها منها مادّيًّا، بل وأكثر من ذلك.
ويعسكر في وسائل التواصل الاجتماعي أصحاب توجُّهات وأفكار وأيديولوجيات، يريدون من خلالها أن يروّجوا ما يؤمنون به، ويحاولون جاهدين كسب مساحات أوسع من خلال التأثير على الرأي العام، حتى إذا ضاقت ببعضهم سُبُل التأثير الاعتيادية لجؤوا إلى التَّضليل. وعلى جانب آخر من المستخدمين الأفراد غير المنضبطين، هناك من يلجأ إلى التضليل لكسب التعاطف الاجتماعي، لاجتذاب المزيد من المتابعين، ولكن كل هذا لا ينفي الأدوار المهمة التي أدَّاها الصحفي المواطن الذي يحاول الالتزام بأن يكون صحفيًا، سواء كان عالِمًا بطبيعة ما يقوم به تمام العلم، أم أنه يسعى إلى ذلك مخلصًا لما آمن به.
مع تقدُّم التكنولوجيا وحدوث طفرات كبيرة في الذَّكاء الاصطناعي، بكثرة برامجه وعِظَم الاستثمارات فيه، والتي تقدَّر بحوالي تريليون دولار خلال العام الحالي 2025م، وسهولة التعامل مع تطبيقاته متعددة الأغراض، انتشر استخدامه في صناعة المحتوى المقدّم على وسائل التواصل الاجتماعي، والأغراض في ذلك متعدِّدة واسعة. ومن ضمن هذه الأغراض التلاعب بالأخبار ومحتوياتها على عدة مستويات، قد تبدأ بأنواع من الممازحات بتوليد صورة لثعبان يبدو طبيعيًا جدًّا له ستة رؤوس، وصولًا إلى التلاعب بأخبار الشخصيات السياسية والدينية. ويعدُّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب واحدًا من أكثر الشخصيات السياسية التي جرى تزييفها عبر الذكاء الاصطناعي بصور شتّى، كما أن نجوم الفن يُعدُّون مادّة دسمة للذين يريدون التسلية أو التشويه، بتركيب وجوه حسناوات السينما مثلًا على أجسام أخرى في أوضاع مخلّة، مع نسج قصص حولها.
“الذباب الإلكتروني”
وبعض أشكال التضليل
غير أنَّ المسألة من الخطورة والتعقيد بما يتجاوز الأفعال الفردية، إلى ما تقوم به منظمات لها أغراض وإستراتيجيات تهدف إلى ترويجها أو الإساءة إلى مخالفيها، أو إلى دوائر حكومية بتوظيف ما يُسمَّى بـ”الذباب الإلكتروني”، لشن حملات على وسائل التواصل الاجتماعي، بقصد التَّحكم في سياقات السَّرد المراد تعزيزه، بالبخس والتشويه والتلاعب في وعي الجمهور عن طريق نشر المعلومات المضلّلة، أو تشويه الحقائق. وحتى لو كان وعي الأفراد قادرًا على كشف حملات التضليل هذه، إلا أنَّ كثافة هذه الحملات، واستخدام الذكاء الاصطناعي باحترافية، وانتشار عبارات مدروسة ومؤثّرة بأسماء أناس اعتياديين، وهم وهميّون، على مختلف المنصات النشطة بحسب كل بلد؛ يجعل الحليم حيرانًا؛ إذ ليس كل المتلقِّين لديهم الفسحة من الوقت للتدقيق اللازم لمعرفة الصحيح من المفبرك، والمولّد بالذكاء الاصطناعي من الحقيقة.

هناك نوع من المستخدمين يدعم الأخبار المزيفة عن قصد؛ لأنها تتطابق مع ما يؤمن به، ويريد أن يعيش في فقاعتها ويثبت لنفسه أنه على صواب.
التضليل الإعلامي الذي يتّخذ وسائل التواصل الاجتماعي مطية له، لا يقف عند تحوير صورة، أو تركيب صوت على صورة متكلّم مع ضبط حركات الشفاه وتعابير الوجه، أو توليد مقاطع كاملة لشخصيات؛ بل يتجاوزها إلى تأثير البيانات الضخمة على المجتمعات، من خلال استغلال إدارات منصات التواصل الاجتماعي ما تراكم لديها من أطنان المعلومات الآتية من قبل المستخدمين، حتى الحريصين منهم على عدم البوح بكل ما يدور في أذهانهم، لإعمال الخوارزميات والبيانات الضخمة في اتخاذ القرارات التي قد تؤثّر سلبًا في الأفراد، مثل انتشار أمراض معيّنة، أو ترويج منتجات أو مركّبات لها علاقة بتحسين الصحة، أو توجهات التوظيف المستقبلية، وهي أمور تناولتها كاثي أونيل بتوسّع في كتابها “أسلحة الدمار الرياضياتية” أو (Weapons of Math Destruction) الصادر في 2016م، والذي لا يزال مرجعًا مهمًّا في مجاله، إضافة إلى عشرات الباحثين الذين زاد التفاتهم إلى ما يمكن أن يفعله التضليل الإعلامي الواسع في تعزيز الانحيازات، وتوسيع الهُوّة بين الطبقات الاجتماعية، فأخذ النشر في مجلّات رصينة متخصصة، من مثل “مجلة التواصل” (Journal of Communication) ومجلة “الإعلام الجديد والمجتمع” (New Media & Society) يتوالى، مع سعي مؤسسات تحاول جاهدة الحدَّ من هذا التَّضليل، مثل “مركز مكافحة الكراهية الرقمية”، وغيره.
نهاية عصر الاطمئنان إلى الخبر
مع كل الأصوات المتعالية المُحذّرة من أخطار تزييف الوعي عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، اعتمادًا على الذكاء الاصطناعي، تبقى أمواج الفيض الإعلامي المضلّل عاتية، مع تشوّش متزايد لدى المتلقّين، ومعيدي النشر. لذا، نشأت روابط وتجمّعات متناثرة، من الإعلاميين والاجتماعيين والمبرمجين على مستوى العالم، تحاول تضييق الخناق، ما أمكنها، على الانفلات الحاصل.
الفوضى والحروب والتهديدات المتنوعة، بيئة خصبة ينمو فيها التَّضليل من خلال وسائل التواصل الاجتماعي باستخدام الذكاء الاصطناعي.
تنادت هذه البؤر الإعلامية والتكنولوجية في عام 2015م لتأسيس “الشبكة العالمية لتدقيق الحقائق” لمكافحة التضليل في وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بالذكاء الاصطناعي نفسه، مع بقاء عامل الوعي البشري الرُّكن الأساس فيما لم يصل إليه الذكاء الاصطناعي حتى اليوم من إجابات حاسمة، وهو: الذكاء الإنساني، والملاحظة الدقيقة، والانتباه.
عربيًا، عملت جائحة كوفيد-19 على تسريع قيام أكثر من 40 منصة عربية لتفنيد الأخبار المضلّلة التي تتطاير في الهواء عن هذه الجائحة، ثم انثنت إلى السياسة بمكايداتها، وذبابها الإلكتروني، وصولًا إلى الفنون والرياضة وكلِّ ما من شأنه لفت أنظار الجمهور، حتى جمعتهم الشَّبكة العربية لمدققي المعلومات (AFCN) في محاولة جادَّة لنشر الوعي بين الجمهور العربي، وإعلان موت مقولة: “نحن نصدّق نِصف ما نرى، فما بالك بما نسمع”، لتعود إلى الواجهة تلك الحكمة العربية القديمة القائلة: “سوء الظَّن من حُسن الفطن”، لمحاولة تمكين الجمهور من أدوات ومهارات كشف الصحيح من المزوَّر، ومحاولة وقف التضليل والخداع العميق؛ ليُقبر بذلك عصر الطَّمأنينة والبراءة والظنون الحسنة؛ إذ لم تُبقِ الممارسات المنحرفة للذكاء الاصطناعي في التواصل الاجتماعي لها مكانًا.
اترك تعليقاً