مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2025

تعدُّد الأصوات في النص الأدبي


محمد الحميدي

مصطلح تعدد الأصوات يُقصد به “اللاتجانس الخطابي”، الذي يُشير إلى الاختلافات بين الشخصيات على مستوى الحوار نفسه؛ إذ كلُّ شخصية تحمل فكرًا متمايزًا وأيديولوجية مختلفة، وذات اتجاه لا يتفق مع الشخصيات الأخرى.

مقومات الخطاب متعدد الأصوات

يمكن أن يوجد تعدد الأصوات في جميع الأجناس الأدبية، طالما اكتملت فيها العناصر اللازمة؛ إذ يتحوَّل الصوت إلى خطاب يعكس أيديولوجية معينة، تستمر على امتداد النص، وتستفيد من عناصره في إيصال رسالة إلى المتلقي. ومقومات الخطاب تشمل:

أ- التعددية في الأطروحات الفكرية: إذ تعمل كل شخصية على تقديم أفكارها وأطروحاتها باستقلالية عن بقية الشخصيات، والكاتب أيضًا سيُعد إحدى الشخصيات التي تقدّم أفكارها وأطروحاتها، مع ترك المجال للمتلقي كي يختار من بينها.

ب- تعدد الشخصيات أو تعدد الأشخاص: تعدُّ من أهم العناصر في السرد التعبيري؛ لقدرتها على حمل الأفكار والأطروحات وسلوك اتجاه أيديولوجي معين ينتقل عبر تسلسل السرد إلى المتلقي، الذي تنكشف أمامه جميع الاختلافات بين الأنماط والاتجاهات، ويختلف حضور الشخصيات بدرجة انتمائها لخطاب النص الأدبي وقدرتها على محاورته مع بيان أطروحاتها.

ج- تعدد أنماط الوعي: وهي تندرج ضمن حدود الشخصيات وما تمتلكه من قدرة على اختيار اتجاهاتها وطريقة مقاربتها للحياة؛ إذ لكل شخص وعي مختلف يُملي عليه ماذا يفعل، وكيف يفعل، وماذا يقول، وكيف يقول! وهذا الأمر ينعكسُ على حواراته مع بقية الشخصيات، ومهمة إبراز هذا الوعي منوطة بقدرة الكاتب على رسم شخصياته بشكل جيد، بعيدًا عن التحيزات الفكرية والأيديولوجية التي يحملها.

د- التعدد اللغوي والأسلوبي: يُقصد بالتعدد اللغوي تنوُّع الضمائر المستخدمة في الحوار ضمن النص الأدبي: الغائب (ذهبَ – أخذَتْ)، والمتكلم (ذهبتُ – أخذنا)، أو بمزج الضمائر بالمونولوج الداخلي، حين يتحدَّث الأشخاص إلى أنفسهم، فلا يسمعهم أحد باستثناء المتلقي. وهذا التنوُّع يبرز أوجه الصراع، ويحدد اتجاه الحوار، ويوضِّح تباين المواقف والآراء. أمَّا التعدد الأسلوبي، فيُقصد به المراوحة بين الصيغ الذكورية والأنثوية في التخاطب؛ إذ لكل جنسٍ صيغ خاصة لا يجوز استعمالها لمخاطبة الجنس الآخر، ومنه توظيف الأساليب النحوية المناسبة، مثل: النداء والاستفهام والشرط والتحذير والإغراء.

ه- التَّهجِين: ويحصل بمزج لغة الأنثى بكل ما تحمله من دلالات أنثوية بلغة الراوي العليم الذكر، أو بالعكس مزج لغة الذكر بكل ما تحمله من دلالات ذكورية بلغة الراوي العليم الأنثى. فينبغي للكاتب مراعاة لغة الجنس الآخر المختلف عنه، واستعمال الأساليب المناسبة، مع التركيز على الجمل الفعلية التي تهيمن على النص، وتعبِّر عن الحدث تعبيرًا دقيقًا؛ إذ هي التي توصل إلى العقدة وتقود إلى الحل.

و- الأسلوب: ويُقصد به الإشارة الضمنية إلى معنًى لا يهدف إليه الشخص المتحدِّث، فهي تقوم على تقليد أساليب الآخرين. وهذا النوع من الكتابة ينتمي إلى الرسائل داخل الخطاب، التي يعمد الكاتب إلى توجيهها للمتلقي؛ إذ لا يخبره بها مباشرة، إنما عبر وسيط لغوي يتمثَّل في الشخص الذي يتحاور أو يتحدَّث.

ز- المحاكاة الساخرة (الباروديا): تعني نقل أفكار الآخرين وآرائهم بأسلوب ساخر يحمل معنى التهكم، الذي يظهر عبر الحوارات أو ضمن المواقف التي تتعرَّض لها الشخصيات، فبعضها يُتهكَّم على طعامه ولباسه، وبعضها يُتهكَّم على عاداته وسلوكياته، وبعضها يُتهكَّم على انتماءاته وأفكاره، والهدف من التهكم يتمثَّل في رسم صورة مُناقِضة لما في رأس المتلقي.

ح- الفضاء الكرونوتوبي: يعني الزمان والمكان، وهو مأخوذ من كلمتي “كرونو” بمعنى الزمان، و “توب” بمعنى المكان، وهما الحيِّزان اللذان تدور فيهما فضاءات النصوص الأدبية؛ إذ يستطيعُ الكاتب عبرهما الانتقالَ بسلاسة بين الأحداث، وإجراء الحوارات وطرح وجهات النظر وكشف الأقنعة وإيجاد الحلول، وهي الأمور المتعاقبة في البنية السردية، التي نشأ تعدد الأصوات على أساسها مستمدًّا منها عناصرها ومقوماتها.

ختامًا

مصطلح تعدد الأصوات وُضِع في البداية ليُشير إلى تعدُّد الشخصيات والأصوات ووجهات النظر في الأعمال الروائية والقصصية، ثم توسَّع استخدامه ليشمل كل نصٍّ احتوى خطابًا أدبيًّا تضمن طابعًا سرديًّا، تدور بين شخصياته حوارات متبادلة تكشف توجهاتها وانتماءاتها، وبهذا يبتعد عن الصوت الأحادي المهيمن على العمل الأدبي، بهدف تقليصِ سلطة المؤلف وإعطاء حرية أكبر للمتلقي.


مقالات ذات صلة

التقنية هي الصوت الأعلى ضجيجًا واليد الأشد بطشًا في عالمنا اليوم؛ ونحن نرى وجهها الرقمي الأبرز، الذكاء الاصطناعي، حاضرًا فاعلًا ومهيمنًا في أغلب منصات النقاش العالمية، من السياسة إلى الإعلام، مرورًا بالاقتصاد والطاقة والثقافة والرياضة وما سواهما من مجالات تستعصي على الحصر. وليس عجيبًا مع ذلك أن ينصب قسطٌ وافر من التركيز في المنتدى السعودي […]

قرأت في العدد 708 (يناير – فبراير 2025م) من مجلة القافلة مقال الكاتبة والمترجمة يارا المصري تحت عنوان “جسر حرير جديد بين العربية والصينية” يستكشف العلاقات الثقافية بين الصين والدول العربية بمناسبة انطلاق الدورة الأولى لجائزة الأمير محمد بن سلمان.  يستكشف المقال هذه العلاقات من العصور القديمة إلى الحاضر، من منظور “حركة الترجمة بين الصين […]

تؤدي أنظمة المواصلات العامة دورًا محوريًا في حياة المدن الكبرى، فهي تُسهم في تحسين جودة الحياة، وتقليل الازدحام المروري، وخفض الانبعاثات الكربونية، فضلًا عن تعزيز كفاءة التنقل اليومي للسكان. ومع التزايد المستمر في أعداد السكان في المناطق الحضرية، أصبحت وسائل النقل الجماعي الحديثة، مثل: القطارات والحافلات ووسائل النقل الذكية، عنصرًا أساسًا في تخطيط المدن المستقبلية. […]


0 تعليقات على “تعدُّد الأصوات في النص الأدبي”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *