مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس - أبريل | 2021

تسليع الثقافة.. الوجه الآخر


د. عبدالواحد الحميد
أكاديمي، نائب وزير العمل السعودي سابقاً

تظل العلاقة بين الثقافة والاقتصاد محلاً لاهتمام الباحثين من مختلف المدارس والتيارات الفكرية، وهي علاقة ملتبسة ومعقَّدة وتثير كثيراً من الاختلاف في وجهات النظر بما تنطوي عليه من عناصر متناقضة في تأثيرها على الاقتصاد وعلى الثقافة معاً.
ثَمَّة من يرى، على سبيل المثال، أن تحويل الثقافة إلى مُنتَج سِلَعي يباع ويشترى، يجعلها خاضعة لاستغلال الشركات التجارية وما تمارسه من تأثير دعائي على المستهلك من خلال الإعلان التشويقي المتكرِّر، فتتدخل في ذائقته وتحرِّفها نحو منتجات ثقافية تحقق للشركات أقصى الأرباح لكنها تهبط بالمستوى الثقافي غير المادي للسلعة، وهو ما يمثل ابتذالاً للثقافة وتسطيحاً لها، وذلك لما للثقافة من خصائص تميزها عن غيرها، وبسبب ذلك فإن “تصنيع الثقافة” وإخضاعها للمنطق الاقتصادي المجرَّد هو استغلال رأسمالي للثقافة على حساب المجتمع.
وكان كلٌ من ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر قد صاغا مصطلح “صناعة الثقافة” وذلك في كتاباتهما في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي وبخاصة كتاب جدل التنوير، وما كتباه تحت عنوان “صناعة الثقافة: التنوير وخداع الجماهير”، فهما يريان أن “ثقافة الجماهير” لا تعني أن هذه الثقافة تنبع من الجماهير وإنما هي قد تم إنتاجها وتسويقها للجماهير بهدف تحقيق الأرباح على حساب الثقافة الحقيقية، وهذا التسليع للثقافة يجعل تحقيق الأرباح، حتى بالنسبة لبعض المبدعين، أهم من الإبداع الفني. وهنا يصبح المنتَج الثقافي مثل أي سلعة أخرى من سلع الاستهلاك التي يتم إنتاجها في المصنع عبر خطوط إنتاجية نمطية تقذف بسلع متماثلة تفتقر إلى الروح الجمالية التي يبدعها الفنان. وعلى سبيل المثال، فقد حلَّت اللوحات المستنسخة بدلاً من اللوحات الأصلية، وهذه المستنسخات يتم إنتاج وطباعة ملايين النسخ منها، وتنتهي كبضاعة شعبية مطروحة في الأسواق كأي سلعة استهلاكية أخرى!
لقد تناول أدورنو وهوركهايمر، بحكم توجههما اليساري الماركسي، وانتمائهما إلى مدرسة فرانكفورت التي تنحو إلى اليسار، موضوع “تسليع” الثقافة في السياق النقدي لـ”الرأسمالية الجشعة”، فهما يريان أن الرأسمالية حوَّلت الإنسان إلى كائن جشع يلهث نحو التملك وتحويل كل شيء في الطبيعة إلى سلع تباع وتشترى. وفي هذه الظروف يصبح المبدع نفعياً يتحرك وفق بوصلة السوق وليس انطلاقاً من بواعث الإبداع الفني.
لقد حدث في أواسط القرن العشرين ما يشبه الانفجار في ما يسمى بـ”الفن الجماهيري”، و”الثقافة الجماهيرية” وهي تقابل الثقافة العالية أو ثقافة النخبة التي تقوم على أعمال أدباء وموسيقيين ورسامين مثل شكسبير وموزارت ودافنشي وبيكاسو وجيمس جويس ممن تتذوق النخبة القليلة أعمالهم، وكان من أسباب ذلك الثورة التقنية وانتشار وسائل الإعلام الحديثة كالراديو والتلفزيون التي أقبل عليها عموم الناس. وقد اعتبر بعض المفكرين أن ذلك هو “تسليع للثقافة” وابتذالٌ لها وتحويلها إلى صناعة عادية وفق المفاهيم الرأسمالية.
إن الجدل حول تسليع الثقافة لا يمكن فصله عن الإيديولوجيات والتوجهات والتيارات الفكرية والفنية التي يعتنقها المتحاورون. وعلى الرغم من تعاقب النظريات والمذاهب الاقتصادية على مدى قرون ماضية، فإن المتخصصين في “علم الاقتصاد”، بشكل عام، ينحون إلى إبعاد الأيديولوجيا عند تحليل ظاهرة أو علاقة اقتصادية معيَّنة باستخدام أدوات التحليل الاقتصادي المجرد والخروج باستنتاجات “علمية”، ثم في مرحلة لاحقة قد تدخل الأيديولوجيا بشكل رأي أو سياسة لـ”ما يجب أن تكون” عليه الأمور المتعلقة بالظاهرة أو العلاقة التي تم تحليلها منهجياً وفق أدوات التحليل الاقتصادي.
وفي علم الاقتصاد تُقاس الظواهر والعلاقات بشكل كمي، فيتم قياس قيمة السلع والخدمات باستخدام النقود التي حلَّت إشكالية المقايضة، وهذا ينطبق على السلع والخدمات الثقافية، ولكن دون أن يسلب منها أيضاً قيمتها الثقافية التي يتصدى لها المتخصصون في الشأن الثقافي المجرد وليس الاقتصاديون. فالمنتجات الثقافية لا يمكن شطبها من النشاط الإنتاجي لأي بلد وهي تدخل ضمن الناتج المحلي الإجمالي، وما من وسيلة لقياس قيمتها الاقتصادية سوى النقود ولا يمكن أن يقال إنها بلا قيمة اقتصادية.
وفي الوقت الحاضر، أصبحت الصناعات الثقافية والإبداعية جزءاً كبيراً ومتزايداً من اقتصادات الدول الكبرى، وهي مصدر توظيف ودخل لملايين الناس الذين يعملون في القطاع الثقافي وخارجه. ونستطيع أن نرى بوضوح كيف أدَّى تصنيع المنتجات الثقافية إلى توليد قيم مضافة لاقتصادات دول العالم، مع ما صاحب ويصاحب ذلك من سلبيات أيضاً.
وفي واقع الأمر، فإن الثقافة والفنون تتأثر بظروف عصرها، وهي تتأثر مثل غيرها من النشاطات بالتطورات التقنية التي لا تتوقف سواء في إبداع الثقافة والفنون (تأليفها) أو إنتاجها (تصنيعها) أو توزيعها (تسويقها) أو تَلَقِّيها (استهلاكها)، وقد رأينا كيف أثرت التقنية على صناعة الكتاب بعد اختراع الطباعة، فصار من السهل طباعة آلاف النسخ من الكتاب الواحد في زمنٍ وجيز، فكان لهذا التطوُّر التقني أبلغ الأثر في انتشار الكتب ووصولها إلى أيدي القرَّاء بأثمان ما كان يمكن لكثير منهم تَحَمُّلُها لو لم تُخفّض التقنية تكلفة إنتاجها وتوزيعها، وهذا مكسب لا يمكن تجاهله بحجة أن تصنيع الثقافة هو تسليع وابتذال لها.
وقد انتبه بعض المبدعين، منذ زمن بعيد، إلى أهمية تأمين معيشتهم من بيع منتجاتهم الإبداعية. ومن هؤلاء، على سبيل المثال، الرسام الهولندي رامبرانت الذي عاش في القرن السابع عشر والرسام البلجيكي روبينز الذي عاش في القرن السادس عشر والسابع عشر، وغيرهما.
وكثيراً ما يُستشهد بما حدث من تشويه للمعالم الطبيعية والأماكن الأثرية والعادات والتقاليد والفلكلور في بعض الأماكن من العالم كدليل على جناية التسليع على الثقافة بعد أن تحوّلت تلك الأماكن إلى وجهات سياحية. ومع التسليم بضرورة وضع سياسات للحد من السلبيات التي قد تترتب على النشاط السياحي غير المنضبط، من الضروري أيضاً الاستفادة من المنافع الاقتصادية والثقافية للسياحة. فالسياحة هي أحد المصادر المهمة للدخل القومي في عديد من البلدان، كما أنها تخلق وظائف لملايين الناس، وهي فوق ذلك تحقق للبلدان التي تتميَّز بمواقعها السياحية حضوراً ثقافياً في العالم. فالمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، هي وريثة حضارات شهدتها الجزيرة العربية منذ أقدم العصور في عديد من أنحائها مثل مدائن صالح ودومة الجندل ونجران وغيرها، وهي موطن الشعر العربي والشعراء العرب مثل امرئ القيس والأعشى وعنترة بن شداد، ويمكن تحويل المواقع التي عاش أو تَجَوَّل فيها الشعراء إلى مواقع تجتذب السيَّاح المهتمين بالثقافة وإقامة المهرجانات والفعاليات الثقافية، الأمر الذي يثري الثقافة ويعزِّز الحضور الثقافي السعودي عربياً وعالمياً ويحقِّق ما يسمى بـ”القوة الناعمة” التي أصبحت أحد مصادر القوة بين الأمم، فما الذي يمنع من استثمار المزايا الثقافية التي تتمتع بها المملكة من خلال منتجات تجارية ثقافية يستفيد من إنتاجها وتصنيعها وتسويقها الحرفيون السعوديون؟ وفي تاريخ الجزيرة العربية ما يدل على الارتباط الإيجابي بين التجارة والثقافة، حيث كانت الأسواق في الجزيرة العربية ملتقى للشعراء مثلما هي ملتقى للتبادل التجاري، مثل سوق عكاظ وغيره.
إن النقد الماركسي لتصنيع وتسليع الثقافة ينطوي على عديد من التناقضات والمفارقات. فهذا الفكر ينحاز نظرياً للطبقات الفقيرة المحرومة، لكنه من الناحية العملية ينتهي إلى حرمانها من الوصول إلى منتجات ثقافية تتناسب وإمكاناتها المالية وذائقتها الفنية، وينحاز إلى ثقافة النخبة والطبقات المقتدرة. فإذا كانت أسعار اللوحات الفنية الأصلية باهظة ولا يستطيع اقتناءها إلا الأغنياء، فما الذي يمنع من “نسخ” اللوحات لكي يستمتع الفقراء باقتنائها وتزيين بيوتهم بها كما هو ملاحظ في أوساط الشرائح الشعبية بشكل خاص؟
وفي نهاية الأمر ستكون هناك دائماً ثقافة نخبوية تستمتع بها النخبة القليلة وثقافة جماهيرية تستمتع بها أغلبية الجماهير، وسيكون هناك من النخبة مَن تُمَتِّعُه بعض جوانب الثقافة الجماهيرية مثلما أنه ستكون هناك جماهير من عامة الناس يستمتعون ببعض جوانب ثقافة النخبة.


مقالات ذات صلة

حينما وصل إلى علمي توقف مجلة “القافلة”، استشعرت أن لبنة ثقافية انهارت. فهذه المجلة أحد الأسس التي دلتني أو دفعتني إلى غواية الكتابة، كما فعلت بالكثيرين.

ثَمَّة في تاريخ الأوطان والدول والمجتمعات، محطات لا يمكن تجاوزها أو المرور عليها دون التوقف عندها والاستلهام من أمجادها والامتنان لرجالاتها الذين صنعوها. إن استحضار واستذكار أحداث تاريخية لها قيمتها وطنياً، هو من الأمور المطلوبة والمحفِّزة لمزيد من الاعتزاز والفخر والانتماء لدولة تأصل تاريخها لقرون، دولة امتدت جذورها وبُنيت قواعدها على أساس راسخ من الإيمان […]

بات تطوير سوق العمل وتغيير معادلاته أمراً حتميّاً يتعيّن دعمه من كافة صانعي القرار، وقد كشف تقرير دولي للوظائف عن أن هناك ثماني مهن تُدرِّب عليها كليات ومعاهد تقنية دون الجامعية في السعودية، دخلت في ترتيب الوظائف الأعلى دخلاً.. فما مستقبل التخصصات التقنية والمهنية في المملكة؟ وهل هناك تلبية لحاجة السوق المحلية إليها؟ وماذا عن […]


0 تعليقات على “تسليع الثقافة.. الوجه الآخر”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *