مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2025

تايلاند

سُرَّ من رأى

ياسر سبعاوي - تصوير: عبدالله البّطاح

منذ اللحظة التي تطأ فيها قدماك أرض تايلاند، تشعر وكأنك دخلت عالمًا مختلفًا، تتشابك فيه الطبيعة الخلابة مع التاريخ العميق والثقافة الغنية. فهذا البلد الذي يقع جنوب شرق آسيا، هو من أبرز الوجهات السياحية في العالم، يتميز بتنوعه الجغرافي الذي يشمل الشواطئ الرملية البيضاء، والغابات الكثيفة، والجبال الشاهقة، والجزر الحالمة، إضافة إلى المباني والمنشآت العريقة التي تعكس روعة العمارة التايلاندية وتاريخها الغني. وهناك، ما بين الأسواق العائمة ومراكز التسوق الراقية حيث تتعانق الحداثة مع التقاليد، يمكن لكل زائر الاستمتاع بتجارب لا تُنسى وتذوّق المأكولات الشهية المميزة التي تجمع بين النكهات الحارة والحلوة، وتختلط في تكوينها ما بين الهندي والصيني. ووسط كل هذه التجارب تبرز سرديات ثقافية خاصة.  

في قلب تايلاند، تقع جزر وشواطئ تُعدُّ من عجائب الطبيعة، ولعلَّ من أبرزها خليج “كو في في” الذي هو إحدى أجمل الوجهات السياحية في البلاد؛ إذ يجمع بين جمال الطبيعة الخلابة والتاريخ الثقافي الغني. يقع هذا الخليج في بحر أندامان، ويضم جزيرتين رئيستين: “كو في في لي” و”كو في في دون”، وكلتاهما تتميزان بالمياه الفيروزية الصافية، والشواطئ الرملية، والصخور الجيرية الشاهقة التي ترسم مناظر طبيعية ساحرة تأسر القلوب. ومما يزيدهما جمالًا تنوع مناظرهما الطبيعية؛ إذ تحيط بهما الجبال المكسوة بالغابات الكثيفة، وهو ما يُضفي عليهما طابعًا استوائيًا رائعًا. ومن أهم نقاط الجذب في خليج “كو في في” الشاطئ الرئيس على جزيرة “كو في في دون” الذي يوفر مكانًا مثاليًا للاسترخاء والاستمتاع بأشعة الشمس. بينما تُعدُّ جزيرة “كو في في لي” وجهة مفضلة للغوص واستكشاف الشعاب المرجانية، والسباحة بين الأسماك الملونة المدهشة.  

تصميم العمران في البلدة القديمة في “بوكيت” يعبر عن تأثير العوامل التاريخية والثقافية التي شكلت المنطقة على مر العصور. بوكيت تأثرت بتأثيرات متعددة من ثقافات مختلفة، مثل الثقافة الصينية والبرتغالية والهندية والماليزية.

أمَّا الأمر المثير للاهتمام فهو أن خليج “كو في في” أصبح رمزًا عالميًا للجمال الطبيعي، وتشكّلت حوله هالة سياحية بعد تصوير فيلم “الشاطئ” (2000م) من إخراج داني بويل، الذي منحه شهرةً من نوع خاص. وبطل الفيلم الشاب ريتشارد، الذي كان يسعى للعثور على مكان هادئ بعيد عن صخب الحياة اليومية، يُعبِّر عن جمال الشاطئ في هذا الخليج الساحر، بقوله: “لقد كان هو الشاطئ. أتفهم؟ لقد كان جميلًا جدًا، تتخلله إحساساتٌ، الكثير منها، حاولت أن أبقي الأمر تحت سيطرتي لكنه بقي خارجها، ويخرج ويخرج…. إنها على جزيرة، تلك الجزيرة مثالية! أعني الكمال الحقيقي! أنا لا أتحدث عن شيء يُقال عنه، أوه هذا جميل، كلَّا، أنا أعني الكمال الحقيقي بذاته”. 

وثمة مفارقة لافتة متعلقة بهذا الشاطئ، وهي أن كارثة تسونامي عام 2004م، على الرغم من الدمار الهائل الذي تسبّبت فيه، أسهمت في تنظيف الشاطئ من المخلفات البشرية، وهو ما أعاد إليه نقاءه الطبيعي. ومع ذلك، أدركت الحكومة التايلاندية لاحقًا خطر التكدس السياحي على هذا الخليج المميز، فأغلقته عام 2018م لإعادة تأهيله، وزرعت أكثر من 30 ألف مجموعة من الشعب المرجانية، كما اتخذت إجراءات صارمة لحماية البيئة البحرية فيه، قبل أن تعيد فتحه عام 2021م.  

“كو تابو”.. جيمس بوند كان هنا 

لم يكن خليج “كو في في” الوجهة السينمائية الوحيدة في تايلاند، بل كان هناك عديد من المواقع الطبيعية التي ارتبطت بأفلام سينمائية عالمية شهيرة، من بينها جزيرة “كو تابو” التي تُعرف بجمالها الطبيعي المذهل وتكتلاتها الصخرية الفريدة وتضاريسها المتداخلة، وهو ما جعلها مكانًا مثاليًا لتصوير أفلام المغامرة والإثارة. ففي عام 1974م، كانت هذه الجزيرة مسرحًا لتصوير أحد أشهر أفلام سلسلة “جيمس بوند”، “الرجل ذو المسدس الذهبي” من بطولة الممثل “روجر مور” الذي كان يقوم بدور العميل 007. وصُوِّرت الأحداث الدرامية المثيرة في هذا الفيلم على جزيرة “كو تابو” التي ظهرت بوصفها خلفية خلابة، فكانت منحدراتها الحجرية الجيرية تقف شامخة مثل حارس صامت يشهد على الدراما المتكشفة. وقد اختار صنّاع الأفلام هذا المكان ليس لجماله الطبيعي فقط، بل لقدرته على استحضار شعور بالغموض والإغراء، وهو ما يكمل تمامًا موضوعات الفيلم المتعلقة بالخطر والإثارة. ومنذ عرض الفيلم ارتبطت الجزيرة الهادئة باسم الجاسوس الشهير، وهو ما أشعل موجة من الفضول والإعجاب، فتوافد السيَّاح إلى تايلاند، منجذبين إلى أحلامهم بتقليد جيمس بوند وتجربة المغامرة وسط المناظر الطبيعية الخلابة. وهكذا أصبحت جزيرة “كوه تابو” مرادفة للهرب من الواقع، ومكانًا يمكن للمرء أن يفقد نفسه وسط روعة الطبيعة ويستعيد لحظات سينمائية خالدة. 

جزيرة “كو تابو” المعروفة أيضًا باسم “جزيرة جيمس بوند” أو “جزيرة الرجل ذو البندقية الذهبية”.

أسواق تايلاند العائمة.. فينيسيا الشرق 

في قلب تايلاند، حيث الممرات المائية العديدة، تطفو الأسواق العائمة التي يُشار إليها غالبًا باسم “فينيسيا الشرق”، لتشكّل نسيجًا نابضًا بالثقافة والتجارة؛ إذ تتكشف الحياة على سطح الماء وسط الخضرة الوفيرة والنشاط التجاري الصاخب. ومن أشهر هذه الأسواق “سوق دامنوين سادواك” التي تقع على بعد حوالي 100 كيلومتر غربي بانكوك. وتُعرف هذه السوق بجوها الحيوي، الذي يتجمع فيه التجَّار في قواربهم الملونة لبيع الخضراوات والفواكه الاستوائية الطازجة، إضافة إلى مجموعة متنوعة من المنتجات المحلية. وهي سوق قديمة يعود تاريخها إلى أكثر من مائة عام، حين حفر الملك راما الرابع القناة الطويلة التي أصبحت اليوم مسرحًا للسوق الحالية، التي باتت تضم ثلاث أسواق صغيرة: تون كيم، وهيا كوي، وخون فيتاك. ويُعدُّ تون كيم الأكثر مركزية والأكبر حجمًا. فخلال النهار يعلو صوت الباعة وهم ينادون على بضائعهم بلهجة تايلاندية دافئة، وتُشاهد النساء وهن يرتدين قبعات الخيزران التقليدية، وأيديهن الماهرة تُقدِّم أطباقًا طازجة تُعدُّ أمام أعين الزوَّار، مثل المعكرونة المقلية وعصير جوز الهند. ومن التجارب المثيرة في هذه السوق أنه يمكن للزوَّار استئجار قارب للتنقل بين الأكشاك المختلفة، وهو ما يضيف لمسة من المغامرة إلى تجربة التسوق. 

أمَّا في بتايا، فإن السوق العائمة تأخذ الزائر في رحلة عبر جهات تايلاند الأربع: الشمال والجنوب والشرق والغرب، فيروي كل قسم قصة مختلفة، من خلال معروضات الحرف اليدوية والأطعمة التقليدية التي تعكس تنوع الثقافة التايلاندية. وعلى متن قارب صغير، يمكن للزائر أن يُبحر بين الأكشاك العائمة ويشمَّ عبق التاريخ ممزوجًا برائحة الزهور والأعشاب العلاجية المستخدمة في جلسات التدليك التقليدي. كما يمكن تذوق الأطباق التايلاندية الشهية مثل السمك المشوي، والأطباق المحلية الأخرى التي تُقدَّم على ورق الموز. وفي زاوية السوق، يقف جسر الحب شامخًا بوصفه رمزًا للرومانسية، حيث يُعلّق العشاق أقفالهم ويرمون المفاتيح في النهر، وكأنهم يُوثّقون حبهم برباط أبدي خالد. 

معبد “وات باجاتارا رام”
شيد بواسطة شعب رامان والشعب التايلاندي في عام 1917م. يُعرف سابقًا بـ “المعبد الحدودي” لأنه يقع بين حدود مقاطعة ساموت ساخون ومقاطعة ساموت سونغكرام. وهناك اسم آخر للمعبد وهو وات دوغ، وذلك استنادًا إلى اسم القناة القديمة التي تقع أمام المعبد، والتي تعود إلى فترة راتاناكوسين.

وهناك سوق أخرى ارتبطت بسحر الليل أكثر من ضوء النهار، وهي سوق “أمفوا” العائمة التي تتحول مع غروب الشمس إلى مشهد شاعري لا يُنسى. فعلى ضفاف القناة التي تعوم عليها هذه السوق، تُضاء الفوانيس التقليدية وتنعكس أضواؤها على المياه الهادئة، فيجتمع السكان المحليون والسيَّاح لتذوق المأكولات البحرية المشوية والاستماع إلى الموسيقى التايلاندية التقليدية التي تسافر بهم عبر الأثير كأنها دعوة للسلام الداخلي. 

مدينة أيوثايا وأصداء التاريخ  

في قلب تايلاند، تقع مدينة أيوثايا التاريخية التي تحمل في طياتها ذكريات مملكة عظيمة. أُسِّست هذه المدينة عام 1350م، وكانت عاصمة مملكة سيام، ومركزًا للتجارة والثقافة والدين. أمَّا اليوم، فتُعدُّ أيوثايا واحدة من مواقع التراث العالمي لليونسكو، تتجلى فيها روعة العمارة القديمة وجمال الطبيعة، كما تحتوي على بعض المعابد الشاهقة بأبراجها المروّسة التي تعكس الفنون التايلاندية التقليدية، والتي تروي قصص الملوك والنبلاء الذين حكموا هذه الأرض. 

أساطير حيوانات تايلاند  
النمر البنغالي والفيل 

يعتبر الفيل حيوانًا وطنيًا في تايلاند.
تُستخدم الفيلة حاليًا في الاحتفالات والطقوس الدينية. في الماضي، كانت الفيلة تستخدم في مجالات النقل وحراثة الحقول في الأعمال الزراعية، و أيضًا في تجارة الخشب لنقل الأخشاب الثقيلة. وفي عام 1989م، حظرت الأنظمة استخدام الفيل في تجارة الخشب لحماية حقوق الفيلة والحفاظ على البيئة.

تُعدُّ الحيوانات رمزًا مهمًا في الثقافة التايلاندية، وتؤدي دورًا بارزًا في التراث الشعبي والأساطير. من بين هذه الرموز، يبرز النمر البنغالي بوصفه إحدى أهم الأيقونات، وهو حيوان ضخم ينتمي إلى فصيلة السنوريات، ويعيش اليوم أوقاتًا عصيبة نتيجة تدهور موائله الطبيعية؛ إذ تُشير الإحصاءات إلى قرب انقراضه. وهو أمر مؤسف حقًا، خصوصًا أن النمور لطالما تمتعت بمكانة خاصة في الثقافة العالمية، ولا سيَّما في الثقافة التايلاندية. 

النمر البنغالي..
رمز الشجاعة والقوة 

يظهر النمر بوضوح في الفولكلور التايلاندي، وخاصة في القصص الشعبية، مثل قصص “الراماكين”، التي تُعدُّ من أبرز إنتاجات التراث الشعبي التايلاندي، وهي اقتباس تايلاندي من الملحمة الهندية “رامايانا”. وغالبًا ما تظهر النمور بوصفها مخلوقات قوية تجسد الخطر والاحترام. تُسلِّط هذه القصص الضوء على ازدواجية طبيعة النمر؛ إذ يمكن أن يكون مفترسًا مخيفًا وروحًا حارسة في الوقت نفسه. على سبيل المثال، في بعض إصدارات الحكايات، تُصوَّر النمور حاميةً للغابة، وهو ما يضمن الحفاظ على التوازن داخل نظامها البيئي؛ فيعكس هذا التبجيل للنمور فهمًا ثقافيًا أوسع للحياة البرية بوصفها جزءًا لا يتجزأ من النظام الطبيعي. كما تتضمن إحدى القصص البارزة شخصية بطولية تواجه نمرًا في الغابة، فلا يرى النمرُ البطلَ تهديدًا له، بل يصبح حليفًا له عندما يدرك نواياه النبيلة. ويؤكد هذا التحوُّل موضوعًا متكررًا في الفولكلور التايلاندي، وهو أن القوة الحقيقية لا تكمن فقط في القوة البدنية، ولكن في الفهم والانسجام مع الطبيعة. ويُعدُّ سلوك النمر الشرس تذكيرًا بأهمية الاحترام الذي يجب أن يُمنح لجميع الكائنات الحية.  

النمر البنغالي.
هو أحد أنواع النمور الكبيرة التي تنتمي إلى فصيلة السنوريات. يُعتبر أحد الحيوانات المفترسة المهددة بالانقراض ويعيش في غابات الهند وبنغلاديش ونيبال وبوتان. يتميز بجسمه القوي والمرن وفروه البني البرتقالي الزاهي مع خطوط سوداء عرضية تغطي جسمه بالكامل.

رمز آخر من رموز تراث تايلاند وحضارتها هو الفيل، الذي يعدُّ رمزًا وطنيًا يرافق التايلانديين في كل مناسباتهم الوطنية والدينية. فقد شهدت الفيلة تحولات في معاملة الإنسان لها؛ إذ استُخدمت في بادئ الأمر في أعمال شاقة مُرهقة، مثل الزراعة ونقل الأخشاب الثقيلة وغيرها. لكن الأمور تغيرت منذ أن أصدرت الحكومة التايلاندية عام 1989م، قرارًا يحظر استخدام الفيلة في هذه الأعمال، معلنةً بذلك تقاعدها بعد سنوات طويلة من العمل المُضني في خدمة الإنسان. وللفيل، كما للنمر، دور مهمٌّ في الفولكلور التايلاندي وقصصها الشعبية؛ إذ يُنظر إليه دائمًا بوصفه رمزًا للحكمة والولاء.  

يُشهد لتايلاند بتنوُّعها وجمالها وكثرة سيَّاحها الذين يتوافدون إليها باستمرار، سيَّاحٌ لم يفارقهم سحر تايلاند الذي يظل محفورًا في ذاكرة كل من زار أرضها وتذوَّق كنوزها المتنوعة، من أكلاتها الغريبة وغاباتها المتاهية، إلى أسواقها العائمة وشواطئها الشفافة، وكل ما فيها من تفاصيل تستدعي التأمل في جمالها. إنها تجربة من نوع آخر، بل تجربة سُرَّ من رآها. 


مقالات ذات صلة

في كل بيت نال بعض أفراده نصيبًا من العلم توجد مكتبة. وكل مكتبة تستحق الاحترام ولو كانت مجرد رف خشبي عليه عشرة كتب؛ لأن الكتاب الواحد شيء يستحق الاحترام. وكما تختلف المكتبات المنزلية في أحجامها ومحتوياتها، تختلف أيضًا في الأدوار المتوخاة منها. ولكن غالبًا ما يُنظر إليها على أنها سند لصاحبها في عمله، خاصة إذا […]

مثل المد الجارف اجتاحت الموجة الثقافية الكورية آفاقًا عالمية، وحوّلت كوريا الجنوبية من مشهد ما بعد الاستعمار و “معجزة نهر هان” (وهو التعبير الذي يُشير إلى فترة النمو الاقتصادي السريع في أعقاب الحرب الكورية 1950م – 1953م) إلى كوكبة ثقافية مضيئة. ولدت هذه الظاهرة من الأزمة المالية الآسيوية عام 1997م، وظهرت مثل سمفونية من الإبداع، […]

في عصر الجزر المنعزلة نتيجة التطور التكنولوجي وانتشار الأجهزة الإلكترونية، وربَّما الروبوتات الذكية في القريب العاجل، تتعرض فكرة “الجماعة” للخطر. وقد فاقمت أزمة “كوفيد – 19 المستجد” من هذه العزلة، وكان من نتائجها اختفاء الجمهور من قاعات المسرح والسينما والموسيقى وملاعب كرة القدم، وغيرها من نشاطات لها صلة بصناعة وجدان الجماعة. وانتشرت المنصات الإلكترونية للأفلام […]


0 تعليقات على “تايلاند.. سُرّ من رأى”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *