مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2024

كلمة القافلة

بين وهم الاستحقاق وعرفان الجميل


فريق القافلة

لو أردنا تناول الجوانب النظرية لـ “الفردية”، لربما تشعب الحديث في أودية يصعب عبورها. وإن حصرنا النقاش في جانبه القريب منا، فيمكننا أن نقول، بتبسيط ينقصه الكمال، إنها نزعة تدعونا عمليًا إلى الإعلاء من قيمة الذات في مقابل الآخر، تحقيقًا وتجسيدًا لها حتى تشفي غليلها من مناهل الإبداع، بعيدًا عن حسابات الأنماط الحياتية والتقاليد والأعراف السائدة، مع تحرر قليل أو كثير من الضغوطات الأسرية أو المجتمعية.

بهذا الفهم، وفي إطار واقعنا اليومي المعاش، هل يمكن أن نجد غربالًا نحجب به حقيقة تنامي تلك النزعة، بمختلف أشكالها التي ننحاز إليها أو نخشى منها؟! كيف ذلك، و “الفردية” تبسط ذراعيها في عالم المال والأعمال حولنا، وتسري من جسد المجتمع إلى روحه.

الحكم على السلوكيات العملية التي تنطلق بنزعة “فردية” موضع نقاش طويل أيضًا، وسنختلف في تصنيفها بين الأبيض والأسود والرمادي. لكن بعض الإنصاف قد يدفعنا إلى استنكار الظواهر السلبية التي تغذّيها تلك النزعة، ومن أبرزها الشعور المُتضخّم بالاستحقاق لدى الأفراد، الذي يبدو أقبح ما يبدو حينما ينشأ عن وهم لا أصل له في الواقع. هذا الشعور يتراءى لنا صورًا يوميةً “قارونيَّة”، نسبةً إلى “قارون” الذي قال ذاتَ فورة كبرياء ابتلعتها الأرض: “إنما أوتيته على علم عندي”.

يبرز الشعور بالاستحقاق أحيانًا في صورة مطالبة الفرد غيرَه بمنحه ما يتوهمه حقًا له، أو في انتزاع الفرد من آخرين ما هو لهم بحجة أنه أحق وأولى به. وتذكر مجلة “سايكولوجي توداي” على موقعها الإلكتروني أن هذا الشعور هو إحدى السمات المميّزة للشخصية النرجسية، أما منصة “ويب إم دي” فتذكر أن استبداده يرتبط بآثار سلبية تشمل: إفساد العلاقات، والتعاسة، وخيبة الأمل، والاكتئاب.

على الضفة المقابلة من ذلك يُوجد شعور “عرفان الجميل”، أو استشعار الفرد للفضل عليه؛ ففي دراسة نشرتها مجلة “الهوية الشخصية والنفس الاجتماعية” في 2023م، خلص عالما النفس، روبرت إمونز ومايكل ماكولو، إلى أن التركيز الواعي للفرد على استشعار النِعَم يمكن أن يعود عليه بالنفع عاطفيًا، ويحسّن من علاقاته بالأشخاص أيضًا.

إمونز، في محاضرة له على “يوتيوب”، يقول إن شعور “عرفان الجميل” (Gratitude) يتألف من أمرين رئيسين: الاعتراف بوجود الخير أو النِعم في حياتنا، والاعتراف بالمُنعم المستحق للشكر خارج أنفسنا، سواء أكان ذلك أفرادًا أم قوى روحية نعتقد بها. كما يذكر أن لهذا الشعور القدرة على شفاء النفس وتجديد الطاقة وتحفيز التغيير. وهو يميِّز أيضًا بين مراحل متسامية من “عرفان الجميل”، تتراوح بين الشعور العابر اللحظي، عندما نتلقّى هدية مثلًا، وبين الشعور الراسخ الذي يمثّل عدسة نرى من خلالها العالم، أو منهجًا نختطّه للسير في حياتنا؛ والوصول إلى هذا المستوى الأخير يضاعف الأثر الإيجابي.

أليس ما توصَّل إليه إمونز من أهمية عرفان الجميل هو من صميم مقاصد الصيام في الشهر الكريم الذي تعمرنا بركاته هذه الأيام؟ ربما كان لباب الطمأنينة أكثر من مفتاح!

كتب ميخائيل نعيمة ذات يوم: “لكنني أقول لكم إنكم لو أنفقتم العمر في الشكر لرب الحياة والموت، لكنتم مع ذلك إلى الكفران أقرب منكم إلى عرفان الجميل”. كان ذلك وسط أجواء الحرب العالمية الثانية، وقد أحسن ناشر كتابه “البيادر”، حين أوضح في تعليقه أن الحرب التي تستثير المؤلف ليست تلك التي تشب بين الجيوش والأمم والتكتلات الدولية فحسب، بل هي أيضًا تلك التي تحتدم بين العلوي والسفلي في الذات البشرية، فتنتهي بالإنسان من الحرب في نفسه أولًا إلى حربه مع أخيه الإنسان.

ربما شاب لهجة نعيمة شيء من قسوة الخطاب وهو يقرع الضمائر الناعسة. لكن الجوهر هو تأكيده على عرفان الجميل، وهو جديرٌ بالتأمل بما يتجاوز الظرف الذي عايشه. فما أحوجنا حقًا إلى استشعار النعم التي نحظى بها، ونبذ التعامل معها بوصفها حقوقًا أو مسلَّمات لا سبيل إلى زوالها، لا سيما ونحن نرى الحرمان منها نصيبَ بعض إخوتنا الذين نشترك معهم في وجودنا البشري. والأحسن هو أن يكون هذا الشعور بابًا واسعًا ندخل منه جميعًا إلى جنّة الإحسان إلى الآخرين؛ كي نقول إن في الحياة ما يستحق أن نعيش من أجله.

قد تقرأ هذا العدد، عزيزي القارئ، وأنت تعيش أجواء عيد الفطر المبارك، الذي نبتهل إلى الله أن يغشِّينا فيه جميعًا بأنوار الطمأنينة قاشعًا عنا سُحب الكروب. ومع تهنئة العيد، ندعوك أن تُجيل طرفك في هذا العدد. تتناول القضية موضوعًا مهمًا هو الكتابة لليافعين؛ فالنتاج الذي يستهدف هذه الفئة كثيرًا ما يكون عُرضة للتهميش أو الاستغلال الجشع. أما الملف فهو عن البقر، الكائن الذي أسمى الله به أطول سورة في قرآنه الكريم. وهناك طائفة متنوعة من الموضوعات ندعوك إليها دعوة مشفوعة بعرفاننا الكبير لجميل القارئ في رحلة القافلة.


مقالات ذات صلة

عماد الصياد يكتب عن الجدل الذي كثيرًا ما يُثار حول التحديد المكاني لبداية استئناس الخيول في العالم القديم، تعقيبًا على مقالة نُشرت في عددٍ سابق لمجلة القافلة

الثقافة تعارفٌ وتثاقف، وحوار وتواصل وتآلف؛ إنها نوافذ مشرعة وأبواب مفتوحة، وطرق تُمهّد وجسور تُبنى. بتلك النية بدأت القافلة..

سيدخل النقل العام في عاصمة المملكة مرحلة جديدة من تاريخه، بافتتاح أحد أضخم مشاريع النقل العام في العالم التي تُنفذ على دفعة واحدة، ألا وهو “مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام بمدينة الرياض”.


0 تعليقات على “بين وهم الاستحقاق وعرفان الجميل”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *