حتى السنوات الأخيرة من القرن الماضي، كان الاعتقاد أن الطرق الرئيسة التي خططتها، بدءًا من أواسط السبعينيات، هيئة تطوير مدينة الرياض (الهيئة الملكية لمدينة الرياض حاليًا) ستكون كافية لاستيعاب حركة النقل في العاصمة السعودية. ولكن نمو الرياض فاق كل التوقعات. وما إن أطلَّت الألفية الجديدة، حتى تأكدت الهيئة من ضرورة وضع مخطط إستراتيجي شامل لمدينة الرياض، وهو ما أنجزته في عام 2003م، واحتل قطاع النقل في العاصمة مجلدًا كاملًا من بين المجلدات الاثني عشر التي تألَّف منها المخطط، وتضمن تصورًا وخططًا لنظام نقل عام وشامل “يجب إنجازه قبل مرور عقدين من الزمن”. وفي عام 2012م، أقر مجلس الوزراء “مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام في الرياض”.
فمنذ البداية، أدركت الهيئة الملكية لمدينة الرياض الحاجة إلى نظام نقل عام متكامل وعلى مستوى عالمي؛ لكي يكون بشبكته المتطورة وهندسته المعمارية وتركيزه على السلامة والموثوقية، قادرًا على منافسة السيارات الخاصة بوصفه وسيلة مريحة واقتصادية وممتعة للتنقل في العاصمة النابضة بالحياة والمتنامية باستمرار. وسوف يوفِّر هذا الإنجاز معلمًا آخر لا يُنسى في تطوير الرياض بوصفها حاضرة عالمية نابضة بالحياة وموائمة للعيش.
للنقل العام تاريخه الخاص في الرياض
السفر بالقطار ليس جديدًا تمامًا على الرياض. فقد وضع لبنته الأولى الملك عبدالعزيز، رحمه الله، عندما تلمس الحاجة إلى ربط الرياض بميناء الدمام؛ لإمداد العاصمة بما تحتاج إليه من موارد عبر ميناء المدينة التي تقع على الخليج العربي. فتولَّت أرامكو، آنذاك، بناء سكة الحديد التي تربط المدينتين، وبلغ طولها 447 كيلومترًا، مع محطات توقف في الهفوف وحرض والخرج. وجرى تدشين هذا الخط عام 1951م، وأثبت جدوى كبيرة في نقل البضائع والركاب ما بين المدينتين منذ انطلاقه حتى اليوم.
وكما هو حال السكة الحديدية، فإن خدمات الحافلات ليست جديدة على الرياض، مع أنها كانت تعمل سابقًا على مستوى أقل تعقيدًا. فمنذ أوائل الستينيات من القرن الماضي، كانت الحافلات موجودة وناشطة، وعُرفت باسم “خط البلدة”. ولكن هذه الحافلات كانت صغيرة وعملها غير منتظم إلى حد بعيد، وتحمل كل منها بضع عشرات من الركاب. وكان معظم المستخدمين من العمال الذين يدفعون أجورًا ثابتة من دون تذاكر ومن دون محطات مميزة على طول الطرق التي كانت تتغير كثيرًا وفق الطلب.
تتكامل شبكة حافلات الرياض مع القطار، وتعمل على مسارات يبلغ طولها 1900 كيلومتر، موزعة على ثلاثة مستويات لتأمين النقل الآمن والسريع ما بين “الميل الأول والميل الأخير“.
ثم كان أن تأسست الشركة السعودية للنقل الجماعي (سابتكو) في عام 1979م، بوصفها شركة حافلات مملوكة جزئيًا للدولة؛ لتوفر شبكة أكثر تنظيمًا في الرياض. وبدأ أسطولها، الذي يضم أكثر من 150 حافلة، عملياته في العاصمة في السنة نفسها. وتوسع منذ ذلك الحين ليصبح مشغّلًا دوليًا لنقل الركَّاب والبضائع ما بين الرياض ودول الجوار.
قطار الرياض
ستة خطوط وأربع وثمانون محطة
بضخامته، يشكِّل مشروع الملك عبدالعزيز للنقل العام في الرياض منعطفًا حادًا في مسيرة تطوير المدينة يعد بنقلها من حال إلى حال. فقد عمل المهندسون ومخططو المدن في الهيئة الملكية لمدينة الرياض على تخطيط هذا المشروع وتصميمه وبنائه في العاصمة بوصفه نظام نقل حضريًا يتكوَّن من ستة خطوط للقطار تتكامل تمامًا مع شبكة حافلات متطورة تدعم احتياجات التنقل لسكان المدينة البالغ عددهم سبعة ملايين نسمة والأعداد المتزايدة من الزوار، والسياح المحليين والدوليين، وتغطي كامل مساحة منطقة الرياض الحضرية البالغة 1,550 كيلومترًا مربعًا تقريبًا.
يبلغ طول شبكة الخطوط الستة المكتملة اليوم 176 كيلومترًا وتخدمها 84 محطة. ومن إجمالي مسارات الشبكة، هناك 60 كيلومترًا تحت الأرض، عبر أنفاق من الحجر الجيري تحت المباني والطرق والبنية التحتية الحضرية الأخرى، و100 كيلومتر من خطوط القطار تمر على السطح أو على جسور مرتفعة فوق الطرق السريعة وبعض المناطق، وتوفر للركاب إطلالات رائعة على أرجاء المدينة أثناء تنقلهم بسهولة بين المحطات براحة وأمان في أجواء هادئة ومكيَّفة.
يقع نصف هذه المحطات تقريبًا تحت الأرض أو على مستوى السطح. وهناك 29 محطة علوية مرفوعة إلى ما فوق سطح الأرض. وفي ثمانٍ من هذه المحطات يتقاطع خطان من الخطوط الستة لتمكين الركَّاب من الانتقال من خط إلى آخر وفق ما تقتضيه وجهاتهم. أمَّا المحطة الواقعة في مركز الملك عبدالله المالي، فتتقاطع فيها ثلاثة خطوط يغطيها هيكل أنيق لافت للنظر بميلانه، من تصميم المعمارية المعروفة زها حديد.
حافلات الرياض شبكة على ثلاثة مستويات
تمَّ تطوير شبكة حافلات الرياض الجديدة وتنفيذها لتُقدِّم خدمة النقل وفق ثلاثة مستويات، وهي: حافلات النقل السريع (BRT)، وخطوط التغذية، وخدمات الحافلات المجتمعية.
يتميز نظام حافلات النقل السريع بأنه قائم على مسارات خاصة تسمح بالنقل السريع والمنتظم بين نحو مائة محطة خاصة به، منها أربع محطات رئيسة. ويرتبط هذا الجزء من الشبكة بخدمات القطار وخطوط حافلات التغذية والحافلات المجتمعية؛ أي تتيح الانتقال السريع للركَّاب ما بين هذه المكونات الأربعة.
لا تمضِ وحيدًا
في عام 1973م، انطلقت في بريطانيا حملة “مواصلات أفضل” للدعوة إلى تعزيز استخدام النقل العام. وعامًا بعد عام اتسعت المبادرة وازداد عدد المتطوعين فيها. وتتوزع جهود الحملة ما بين متابعة تشريعات النقل العام وقراراته، وبين توعية المستخدمين بفوائده المختلفة، والإرشادات للأشخاص الذين يشعرون بالضيق في الأماكن المزدحمة. وكذلك الدعوة إلى كل ما يقلل عدد السيارات المتحركة في الشوارع والطرقات، مثل مشاركة القيادة بين الزملاء والجيران.
وفي العام الماضي، احتفلت الحملة بمرور خمسين عامًا على انطلاقها. وبعد نجاح الاحتفال، تقرَّر أن يكون سنويًا لتجديد التذكير بأهمية النقل العام باعتباره وسيلة النقل الأسلم والأفضل بيئيًا.
وهناك 19 خطًا لحافلات المجتمع، يبلغ مجموع أطوالها 1905 كيلومتر، وتخدم عددًا مماثلًا من محطات الحافلات. وهي تربط الضواحي والمناطق التجارية، بالإضافة إلى محطات القطار وحافلات النقل السريع على طول مساراتها. كما أن بعض الحافلات التي تسير على هذه الطرق هي عبارة عن “مركبات مفصلية”؛ أي مؤلفة من جسمين كبيرين بطول 18 مترًا.
ويكتمل نظام حافلات الرياض بشبكة ثالثة من 55 خطًا مغذيًا بطول 842 كيلومتر، تخدم أحياء المدينة السكنية، وتربطها بخطوط الحافلات الرئيسة وخطوط القطار.
وتتيح روابط شبكة الحافلات بالمناطق الضواحي والمناطق التجارية والصناعية في الرياض الآن، وللمرة الأولى، للمواطنين والزوَّار الوصول المريح إلى شبكة القطار، ومن ثَمَّ، تجنّب الاختناقات المرورية اليومية على الطرق المزدحمة في المدينة. ومثل القطار، توفر شبكة الحافلات مجالًا للتوسع وتطوير المسارات بما يتوافق مع التنمية والنمو المستقبلي في الرياض.
وكما هو الحال في عربات القطار، توفر جميع الحافلات الأمان والراحة وخدمة “الواي فاي” على متنها للركَّاب. كما تتصف بمجموعة من الميّزات عالية التقنية التي تتصل بمركز التحكم في النقل لمراقبة الشبكة والتحكم فيها بالكامل.
يحتوي قطار الرياض على أنظمة النقل الذكية بوصفها جزءًا أساسًا من مكوِّناته. وتتألف هذه الأنظمة من باقتين: الأولى وهي “الإدارة الآلية للعربات”، ويرتبط كلها بمشروع الحافلات أيضًا. والثانية هي “التحصيل الآلي للرسوم”، ومهمتها تسهيل تحصيل الرسوم وجمعها وإدارة قطع التذاكر في كل من شبكتي الحافلات والقطار. والغاية الأساس من كل ذلك تسهيل استخدام العملاء لشبكة النقل العام والاستفادة من نظام رسوم مُبسَّط.
التطوير الحضري الموجَّه بالنقل
إضافة إلى ما هو متوقع من قطار الرياض وشبكة الحافلات من نتائج فورية مثل تقليل الاعتماد على السيارة، وما يستتبع ذلك من توفير في استهلاك الوقود والحد من تلوث الهواء وما شابه ذلك، فإن لشبكة النقل الجديدة هذه فائدة طويلة الأمد تكمُن في أخذها بمفهوم التطوير الموجَّه بالنقل الذي سيُحدث نقلة كبرى لمفاهيم التصميم العمراني للمدينة في القرن الحادي والعشرين.
يعرِّف “معهد سياسة النقل والتطوير” الأمريكي مفهوم التطوير الموجَّه بالنقل بأنه منطقة حضرية مصمّمة بشكل يجمع الناس والأنشطة والأبنية والفضاءات العامة معًا، بحيث يكون كل ذلك على مسافة من خدمات النقل العام يمكن اجتيازها مشيًا أو على الدراجات. ويُضيف المعهد أن التطوير الموجَّه بالنقل هو أساس ضروري لاستدامة طويلة المدى، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومشاركة الرفاهية والارتياح للعيش في المدن.
وفي الرياض، فإن محطات القطارات والحافلات تُمثِّل نقاطًا تشبه محطات توقف القوافل في الماضي التي تشكَّلت حولها نطاقات اجتماعية. فتوزُّع هذه المحطات، وخاصة عند أطراف المدينة، سيعزِّز النمو في محيطها، بحيث يجعل من محيط كلٍّ منها منطقة حضرية قائمة بذاتها، بدلًا من بقائها مرتبطة في كل ما تحتاج إليه من خدمات بقلب المدينة التاريخي أو بمناطق بعيدة عنها. وبالفعل، بدأ الناس يتكتلون حول محطات تجتمع فيها مرافق لاستخدامات مختلفة مثل: الإسكان والمكاتب وتجارة التجزئة والترفيه، وغير ذلك. وهذا ما توفِّره شبكة النقل العام في الرياض، المدمجة بشكل كامل في نسيج المدينة. ويمكننا أن نعطي مثلًا على ذلك، وهو حي ظهرة البديعة.
يقع هذا الحي على مقربة من الحدود الغربية لمدينة الرياض، وفيه واحدة من محطات القطار الرئيسة. وتكشف هذه المحطة، التي تُسمَّى بـ”المحطة الغربية”، الوقع بعيد المدى لشبكة النقل العام وفوائدها، وتُبيِّن كيف أن شبكتي القطارات والحافلات تقودان التطوير وتساعدان على إعادة تشكيل الحياة الاجتماعية والتجارية والثقافية في أرجاء العاصمة.
تتميز هذه المحطة بتصميمها المعماري الفريد وضخامتها؛ إذ إنها أُعِدَّت لتكون مركزًا رئيسًا لأنشطة عديدة. فتوفُّر الأرض بمساحة ضخمة، أتاح تخطيطها لتكون من أبرز المحطات وأكبرها على الإطلاق. وكان موقعها الإستراتيجي عاملًا آخر أكسبها مكانتها البارزة. فهي تقع على بُعد كيلومتر واحد من الطريق الدائري الغربي، وتقريبًا عند منتصف المسافة بين الوسط التاريخي للرياض والحدود الغربية للمدينة. وساعدت هذه العوامل على أن تجعل “المحطة الغربية” مثالية لأن تكون قلب مركز حضري جديد ينمو من حولها، ألا وهو: المركز الغربي للمدينة. إذ إن تصميمها خلق مركزًا للنقل متعدد الاستعمالات من خلال ميدان شاسع يحتوي على مرافق تجارية وترفيهية تخدم سكان الحي وزوَّاره.
فن العيش على الطريق
في قصيدته ذائعة الشهرة “إيثاكا” كتب الشاعر السكندري اليوناني قسطنطين كفافيس:
عندما تتهيأ للرحيل إلى إيثاكا
تمنَّ أن يكون الطريق طويلًا
حافلًا بالمغامرات، عامرًا بالمعرفة
وتنتهي القصيدة بالحكمة التي يرددها الملايين من القرَّاء، وهي أن “الطريق إلى إيثاكا أهم من الوصول إليها”. وهذا ما يجب أن نفكر فيه، عندما نخرج من بيوتنا في رحلاتنا اليومية داخل المدينة الواحدة أو في السفر الطويل: أن يكون الطريق جزءًا من متعة العيش. وهذا ما يساعد النقل العام في تحقيقه؛ لأنه يعفي مستخدمه من مسؤولية القيادة والانتباه للطريق، فضلًا عن أن الاختلاط بالآخرين يبعد شبح الوحدة والاكتئاب.
في كتاب “النقل من أجل البشر” يؤكد بيت دايسون وروري ساذرلاند، خطأ التفكير في أن وقت السفر هو وقت ضائع. ويُسمِّي المؤلفان السيارة الخاصة “غرفة الصـدى” التي لا نسمع فيها إلا صوتنا، لكننا في وسائل النقل العام نتشارك الرحلة مع الآخرين. ويجب ألا نركِّز على أشياء مثل الفخامة والبنية التحتية، بل على متعة الرحلة بوصفها رحلةً. ويدعو الكتاب إلى وضع الإنسان في الاعتبار عند تخطيط مشاريع النقل وتصميمها، من خلال تحليل السلوك البشري وأخذ احتياجات الإنسان في الاعتبار. وبدلًا من التركيز على تقليل وقت الرحلة فقط، يمكن العناية بالتفاصيل التي تجعل وقت الانتظار تجربة ممتعة ومفيدة.
وبازدهار الأحياء والمناطق بفعل التطوير الموجَّه بالنقل، سيستفيد المتنقلون يوميًا من المرافق القائمة حول نقاط النقل. وستستفيد تجارة التجزئة من ازدياد حركة المشاة في جوارها. كما أن هؤلاء يستفيدون منها بدلًا من التوجُّه إلى غيرها في أماكن أبعد، وهذا ما يخفض معدلات التلوث ويحقق احتمالات نمو أعلى.
يتغيَّر حال الرياض تمامًا مع شبكة النقل العام الجديدة. فإنجاز هذا النظام الشامل للنقل العام بعد سنوات من التخطيط، جاء ليدفع العاصمة السعودية إلى أعلى قائمة أنظمة النقل العام في العالم. فعلى مستوى الطول الكلي للشبكة وعدد محطات القطار، تنضم مدينة الرياض إلى طليعة الحواضر العالمية التي ترسَّخت فيها شبكات نقل عام. وبصفتها جزءًا لا يتجزأ من المشروع، فإن خطوط الحافلات ذات المسار المخصص تدفع بدورها الرياض إلى أعلى قائمة المدن في العالم على مستوى الطول وعدد المحطات. وعندما نضيف إليها خطوط الحافلات العادية والخطوط المغذية ونحو 3000 محطة توقف، تتضح ضخامة خدمات الحافلات والنطاق الذي تغطيه.
والرحلات عبر المدينة، التي كانت في السابق مقتصرة على السيارات المصحوبة بالتذمر من ازدحام حركة السير، ستصبح سلسة وخالية من المتاعب على خطوط تعمل تحت سطح الأرض أو عنده أو فوقه، في تناقض واضح مع ازدحام حركة المرور على الطرق في المدينة.
القابلية للتوسع والتطوير
ومن ميزات شبكة النقل العام في الرياض قابليتها للتوسع، إمَّا عبر رفع وتيرة الخدمات، وإمَّا عبر الإضافة إلى الشبكة القائمة. وفي إطار توسعة الشبكة، ثمة خطة يجري العمل عليها لإنشاء خط قطار سابع ينطلق من مطار الملك خالد الدولي إلى الدرعية التاريخية عبر وادي حنيفة، وصولًا إلى “القدية” عند سفوح جبال طويق. ومحطات التوقف على هذا الخط في الدرعية ستخدم المجمع الثقافي والتراثي في الدرعية وحي الطريف عاصمة الدولة السعودية الأولى، المُدرج على قائمة اليونسكو لمواقع التراث الثقافي العالمي. أمَّا المحطات الأخيرة على هذا الخط، فستخدم ما يُتوقع له أن يكون نقطة جذب عالمية: مشروع القدية الذي يقع على هضبة صحراوية تجمع بين المرتفع الجبلي والوادي، وتبلغ مساحتها 367 كيلومترًا مربعًا، وتحتوي على أكثر من 300 مرفق ترفيهي ورياضي وتعليمي، ويُرتقب أن تجتذب السياح محليًا وإقليميًا وعالميًا.
اترك تعليقاً