مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2025

النحَّات العُماني أحمد الشبيبي

البقاء على صلة بالواقع ولكن بأسلوب معاصر

زكي الصدير

النحَّات والخزَّاف أحمد الشبيبي واحد من الفنانين اللامعين في سلطنة عُمان، ومن أنشطهم في الحراك الفني الدائر من حوله في السلطنة. عُرِفت عنه انطلاقته الفنية في مجال الأعمال الخزفية قبل الانتقال إلى العمل على الرخام منذ أكثر من عقد من الزمن. وبعد القراءة الأولى لمنحوتاته التجريدية، يتلمس المشاهد وجود بصمة دفينة فيها مستلهمة إمَّا من التراث العربي العام، وإمَّا من أيقونات تراثية خليجية.   

يرى أحمد الشبيبي أن “النحت من أكثر المجالات التي وثّقت حضارة الإنسان منذ أقدم نقش على الحجر حتى يومنا الراهن. فهذا فنٌّ إنساني عميق الجذور، استطاع أن يعبّر عن نفسه بأشكال مختلفة، وبأهداف متنوعة، ابتداء من التعبير عن الهوية مرورًا بأرشفة يوميات البشر وثقافاتهم ومعتقداتهم”. هكذا يتطلع الشبيبي إلى فن النحت الذي يزاوله بشغف منذ نعومة أظفاره.      

وُلِد النحَّات العُماني أحمد الشبيبي عام 1982م في ولاية المصنعة في سلطنة عُمان ونشأ فيها، حيث القلاع التاريخية، والزراعة، وصيد الأسماك، والصناعات اليدوية، إضافة إلى الساحل البحري الطويل الفاتن الذي تتناثر على رماله القرى ذات الطابع المعماري العُماني القديم. أعطته هذه المدينة مخيلة خصبة لتوظيفها في فنه، مستلهمًا مشاريعه وأعماله الفنية من يوميات الفلاحين والصيادين والذاكرة البصرية والافتتان بالجمال. 

انتقل الشبيبي لاحقًا إلى العاصمة مسقط، لدراسة التربية الفنية في جامعة السلطان قابوس. وساعده ذلك في التوجه نحو حرفة الخزف، فكان واحدًا من الخزّافين العُمانيين الأوائل الذين أسهموا في الارتقاء بالفن الخزفي من خلال المشاركات المتنوعة في الورش والمعارض في عُمان وخارجها خليجيًا وعربيًا وعالميًا. وبفعل هذه المشاركات نال جوائز عديدة، كان أهمها جائزة السلطان قابوس للإجادة الحرفية عام 2015م، والمستوى الأول في معرض الجمعية العُمانية للفنون التشكيلية عام 2013م. 

“لا يستطيع الفنان أو النحَّات العربي أن ينسلخ في أعماله عن هويته العربية، حتى وإن ذهب في مدارس التجريد والتحديث إلى أقصى ما يمكن من التجريب“. 

عندما أنهى مرحلته الجامعية في عام 2007م، عمل معلمًا لمادة الفنون التشكيلية حتى 2013م، ثم مشرفًا تربويًا، وأثناء تأديته لوظيفته راح الشبيبي يُنقّب في ذاكرة الفن العُماني والعربي، محاولًا استكشاف أسراره وخباياه. 

قاده هذا البحث العلمي إلى أن يتحصَّل على درجة الماجستير من جامعة تونس عن رسالته “المُعطى التراثي العُماني في تشكيل الخزف المدلول: تجربة ذاتية برؤية معاصرة”. ويعمل حاليًا على أطروحة الدكتوراة تحت عنوان: “التمثلات الشكلية للتراث في الخزف العربي المعاصر”. 

من الطين إلى الرخام 

في بداية رحلته الفنية، شعر الشبيبي بالألفة بينه وبين الطين. يقول: “كنت أتعاطى مع الطين دون أدنى معرفة بخصائصه الحقيقية، واشتراطاتها الحرفية، والفنية، والفيزيائية. حتى إنني كنت أستخدم الفرن المنزلي لشيِّ الطين، وهو ما كان يؤدي إلى تكسّره، وتكسّر معنوياتي أيضًا. فتوقفت عن إنتاج أعمال الطين إلى نهاية دراستي في جامعة السلطان قابوس التي تعلمت فيها النحت والنحت الخزفي”. 

كانت الطفولة وتجاربها على الطين تناديه على الدوام، لهذا وجد نفسه يعود بذاكرته إلى عشقه الفني الأول، حين وجد نفسه فاقدًا لجميع المهارات ما عدا مهارة التشكيل بالطين التي تضاعفت، وكأنها توقظ طفولته من جديد. فيقول عن هذه المرحلة: “بدأت أطبق الأفكار التي كانت تشغل بالي بحرية خاصة بعد تمكّني من تقنياتي الفنية، وبعد تراكم خبراتي بفعل المشاركات المتنوعة في الملتقيات والتحاور مع الفنانين والاقتراب من تجاربهم. في تلك اللحظة، ظننت أنني وجدت ضالتي. لكني بعد مدة اكتشفت عالمًا ومجالًا آخر ينافس مجال الطين، وهو مجال النحت على الرخام، فبدأت في العمل عليه منذ عام 2012م، ولا أزال في عوالمه العميقة حتى اليوم”. 

التجريد.. لماذا؟ وإلى أي حدّ؟ 

في جولة على مجموعة من أعماله تعبّر عن اتجاهه الفني، يلحظ المشاهد أنه أمام منحوتات ومجسّمات ذات تجريد واضح ينتصر لنقاء الخطوط وانسيابها. ولكن إن كان التجريد عند كثير من الفنانين مجرّد شكل هندسي يترك المشاهد يتكهن على مزاجه بمصدر إلهامه، فإن معظم أعمال الشبيبي تهمس بوضوح بمصدرها: التراث الثقافي العربي العام والبيئة الخليجية بشكل خاص. فالحرف والخط العربي يحضران في بعض الأعمال منصهرين ضمن جسم بيضاوي اتخذ شكله بدقة هندسية، والبحر والإبحار يظهران في منحوتة تمثل أقاصي العالم التي وصل إليها البحّارة العرب. الأمر نفسه ينطبق على ما هو مُستوحى من الأصداف البحرية، أو من التراث الشعبي القديم في السلطنة والجزيرة العربية. 

وجوابًا لسؤال عن اختيار هذا التجريد ورأيه بمدرسة الإخلاص للواقع بنقله كما هو، يقول الشبيبي: “على الرغم من قِدم مدرسة الإخلاص للواقع ونقله والالتزام به، وعلى الرغم من استمرار وجود نحَّاتين ينتمون إلى هذه المدرسة، وينقلون الواقع بدقة الصورة الفوتوغرافية، فأنا أرى أن هذا الولاء للواقع لا يعتبر حراكًا فنيًا معاصرًا، بل أصبح عملًا حرفيًا قديمًا أكثر من كونه عملًا فنيًا”. 

ويضيف: “النحت، من وجهة نظري، واكب التقدُّم المعاصر للفن، وأصبح الفنان منشغلًا بالشكل والهندسة البصرية أكثر من التفاصيل العضوية والفيسيولوجية. صحيح أن النحَّات القديم بدأ واهتم بالشكل البشري أو الحيواني العضوي، لكننا بوصفنا فنانين معاصرين انتهينا إلى الشكل الهندسي. صحيح أن العمل الفني يرتبط بالواقع، لكنه مجموعة من التقنيات، ومزيج من الصور والعوامل مقدمة بأسلوب معاصر تجعله مرتبطًا بالواقع. وهذا هو المفهوم الذي أُؤمن به، وأعمل عليه في تجربتي. إلى ذلك يمكننا أن نضيف أن متذوق النحت تجاوز مرحلة الواقعية التصويرية، إلى مرحلة أكثر رمزية. فالمصور الفوتوغرافي، ليس النحَّات، هو من يقوم بذلك الدور. على النحَّات أن يختزل ما يراه ويشاهده، ثم يعكسه في قالبه الفني الخاص عبر أدواته”. 

هوية العمل ومصدر إلهامه 

يرى أحمد الشبيبي أن “التاريخ فكرة ممتدة لا يقطعها الزمن، ولا يستطيع الفنان أو النحَّات العربي أن ينسلخ في أعماله عن هويته العربية، حتى وإن ذهب في مدارس التجريد والتحديث إلى أقصى ما يمكن من التجريب، فإنه يبقى ابنًا بارًا لثقافته ودينه ووطنه. وتحضرني هنا أعمال الدكتور علي الجابري الذي يتناول فيها الأسطرلاب والساعة الشمسية والبوصلة وابتكارات المخترعين العرب القدماء”. 

ويتابع: “تحضرني بعض تجارب النحَّاتين الذين يستقون من الزخرفة ومن العمارة العربية والإسلامية ومن القصص والحكايات موضوعاتهم التي ينقشونها على الحجر، مثل أعمال الفنان المصري سعيد بدر، الذي يشتغل في محطاته على تناول ثقافة كل بلد يزوره بما فيه من قصص شعبية وفولكلور وأساطير وشعر وتاريخ وعمارة وتراث مادي ولامادي”. وتقودنا هذه الملاحظات إلى استطلاع رأي الفنان بأحوال فن النحت على المستوى العربي. 

أسئلة النحَّات العربي 

يرى الشبيبي أن الأسئلة التي تشغل بال النحَّات العُماني والعربي هي أسئلة متعلقة بالمحلية والعالمية. فالنحّت العربي مشغول بكيفية لفت انتباه العالم إليه وإلى زملائه، وكيف يمكنهم إنتاج منحوتات كبيرة تكون دليلًا على مهاراتهم فترفع قيمتها في سوق النحت، وتلقى طلبًا عالميًا عليها واهتمامًا في الملتقيات الدولية. 

ويؤكد الشبيبي وجود تنوع كبير في أعمال الفنانين العرب وطرقهم وخبراتهم. ويقول في هذا الشأن: “بحكم خبرتي في المشاركة وتنظيم التجمعات الفنية للنحَّاتين، لاحظت أن التجمعات التي حصلت في سلطنة عُمان والسعودية وفي قطر حفّزت الفنانين على مواجهة التحديات وزادتهم إصرارًا على التنوع، وتقديم تجاربهم المختلفة، كلٌ وفق خبرته ومدى احترافه”. 

وعن التفاعل ما بين النحت العربي والعالمي في الاتجاه المعاكس يقول: “على مستوى الوطن العربي، أجد أن أكثر المواقع التي تُعتبر مقصدًا للنحَّاتين العالميين هي مصر والسعودية وعُمان. إذ أصبحت هذه البلدان محجّة للنحَّاتين العالميين، ولبيع الأعمال ولعرض منحوتاتهم بأحجام كبيرة. وهذا ما نجده في مصر على سبيل المثال، حيث يوجد تنافس في إنتاج أعمال برونزية ضخمة جدًا”. 

فأين يقع الشبيبي في هذا الحراك؟ 

من الملتقيات العالمية إلى مخيم النحَّاتين  

منذ عام 2007م، والشبيبي حاضر في كثير من الملتقيات العُمانية والعربية والعالمية الخاصة بالنحت، مثل: ملتقى مسندم والخضراء، ونفون، وسمبوزيوم النحاتين العرب في السلطنة، ومعرض الطريق إلى مكة، وسمبوزيوم الأصمخ في قطر، وبينالي بكين، وملتقى صفاقس في تونس، وملتقى الخليج للخزف في الكويت، وسمبوزيوم ديون في الأردن، ومعرض الفنون في إسبانيا، وموناكو آرت في فرنسا، وملتقى الفنون بالمغرب، وملتقى نحَّاتي الخليج بالبحرين. ونتيجةً لهذا الحضور الدائم في الحراك الفني صارت أعماله من مقتنيات كبار الهواة، وانتشرت منحوتاته في عدد كبير من الأبنية الرسمية والميادين العامة في عُمان وخارجها.

ولكن أكثر ما يطيب للشبيبي الحديث عنه هو “مخيم النحَّاتين”. ففي عام 2012م، شارك مع مجموعة فنانين ونحَّاتين عُمانيين في تدشين مؤسسة “فن صحار”، وكان من أبرز الفنانين المؤسسين علي الجابري، وعبدالعزيز المعمري، وأيمن العوفي، وأحمد العجمي، وجعفر الجابري. وتُعنى هذه المؤسسة بإدارة كثير من الفعاليات والملتقيات العُمانية الخاصة بالنحت، مثل “مخيم النحَّاتين” الذي انطلق في عام 2014م. ويُحضّر الشبيبي الآن مع فريق التنظيم النسخة الثانية عشرة التي ستنطلق قريبًا بمشاركة عشرة نحَّاتين من خارج السلطنة، إضافة إلى نحَّاتين عُمانيين. 

يقول الشبيبي عن المخيم الفني: “مخيم النحَّاتين ملتقى دولي يُعمل فيه على عدد من المنحوتات في وسط جبال الرخام. هذا الملتقى مهَّد لنا طريق اللقاء مع أطياف مختلفة من النحَّاتين العرب والعالميين، وهو ما كان مكسبًا حقيقيًا على مستوى نضج تجاربنا الفنية، وتنوّع مشاركاتنا، بفعل الاختلاط المباشر بمدارس وطاقات عالمية مختلفة من جميع القارات”. 

ويضيف: “لا يوجد ملتقى للنحت في العالم يُنظَّم في وسط جبال الرخام، حيث ينتج فيه الفنانون أعمالهم وهم بجوار خيامهم في عزلتهم التامة، بعيدًا كل البعد عن المدينة وضوضائها. فلا شيء أمام الفنان سوى الطبيعة والزملاء النحَّاتين طوال فترة التخييم التي تمتد عادةً إلى عشرة أيام، أو أربعة عشر يومًا، وأحيانًا تزيد على ذلك”. 

أثمر ملتقى “مخيم النحَّاتين” علاقات متينة بين النحَّاتين من جنسيات مختلفة. إذ حضره في دوراته السابقة عدد كبير من النحَّاتين البارزين على مستوى العالم، وتحوَّل إلى محطة مهمة لهم، فصارت الآفاق أوسع، وأصبحت العلاقات والتعاون والمشاريع المشتركة فيما بينهم تكبر يومًا بعد يوم. ومن خلاله أضحى فريق “فن صحار” الذي يؤسّس لهذا الملتقى يتلقى كثيرًا من الدعوات للمشاركة في التنظيم، أو التزويد بالفخار والمواد الخام العُمانية لبعض الملتقيات مثل: ملتقى طويق في السعودية، وملتقى الأصمخ في قطر، وفي تونس والإمارات، وفي ملتقى بغداد الذي سيُنفَّذ قريبًا. وأسهمت هذه المشاركات في توطيد العلاقات بين الفنانين، وهو ما فتح آفاقًا جديدة لمشاريعهم الفنية ولملتقياتهم المقبلة. 


مقالات ذات صلة

قليلة هي التجارب التي تنضح بالصدق والبراءة والالتحام بالحياة، كما هو حال الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة (1903م – 1947م)، فالشعر عنده لا يتغذّى من الأفكار التي يحملها الشاعر عن الأشياء، بل من حرائق الداخل واصطدام الشاعر بنفسه وبالعالم، بحيث تصبح اللغة محصلة طبيعية لهذه الحرائق وذلك الاصطدام. ولأنه ليس شاعر الأفكار المجردة والتوليد الذهني، […]

في قصيدة نُشرت عام 1903م عنوانها “اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها”، شبَّه شاعر النيل حافظ إبراهيم اللغة العربية بشخص أدرك أنه لا محالة هالك فقرَّر أن ينعى حياته. اشتهرت القصيدة وذاعت بعدما أثارت الشجن حول ما تواجهه العربية من مِحن، إلا أنه لم يبقَ حاضرًا من القصيدة الطويلة في الأذهان بعد ما يربو على […]

أثار إعلان فوز الكاتب الجزائري الأصل كمال داود، مطلع نوفمبر الماضي، بجائزة الجونكور نقاشًا محتدمًا يتجدد عادة في هذه المناسبات، يتجاوز حدود النقد الأدبي إلى اتهامات سياسية تطول الكاتب. على صعيد النقد الرصين، أسهمت الأبحاث ما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية في اشتباكها مع تحليل الأدب، في الكشف عن التحولات التي طالت الثقافة في المجتمعات التي […]


0 تعليقات على “النحَّات العُماني أحمد الشبيبي ”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *