تؤدي أنظمة المواصلات العامة دورًا محوريًا في حياة المدن الكبرى، فهي تُسهم في تحسين جودة الحياة، وتقليل الازدحام المروري، وخفض الانبعاثات الكربونية، فضلًا عن تعزيز كفاءة التنقل اليومي للسكان. ومع التزايد المستمر في أعداد السكان في المناطق الحضرية، أصبحت وسائل النقل الجماعي الحديثة، مثل: القطارات والحافلات ووسائل النقل الذكية، عنصرًا أساسًا في تخطيط المدن المستقبلية.
وقد شهدت المملكة العربية السعودية تطورًا لافتًا في قطاع النقل العام؛ إذ اُفتتِح، مؤخرًا، قطار الرياض، الذي يُعدُّ واحدًا من أكبر مشاريع البنية التحتية في المنطقة. وفي هذا السياق، وجهنا السؤال إلى عدد من قرَّاء مجلة القافلة عن أهمية المواصلات العامة في المدن الكبرى، مع التركيز على الدور الذي يمكن أن تؤديه في تحسين جودة الحياة.

سهولة.. أمان.. حريَّة حضريَّة
شيماء عبدالله عبدالغفور – دبي
باحثة أكاديمية
تتجاوز المواصلات العامة كونها وسيلة تربط الأماكن بعضها ببعض، فهي في الوقت عينه ساحة اجتماعية تعكس طبيعة تفاعل أفراد المجتمع فيما بينهم؛ إذ إنها تمثّل أحد أوجه الهُويّة الاجتماعية والثقافية للمدينة.
ومن هنا تأتي أولويتان، من وجهة نظري، في نجاح منظومة المواصلات العامة في المدن والعواصم: الأولى هي سهولة الوصول والاتّصال بهذه الوسائل، وهو ما يتيح استعمال وسائل المواصلات العامة من قِبل جميع سكان المدينة على اختلاف أعمارهم وثقافاتهم ومستوياتهم التعليمية وأغراض تنقّلهم، وهذا يُسهم في تسهيل حياتهم اليومية ويفتح أمامهم فرصًا أكبر للتفاعل الاجتماعي، كما يعزّز من شعورهم بالانتماء إلى المدينة نفسها. والثانية هي الأمان الذي يضمن لجميع الأفراد التّحرك في فضاء المدينة دون تقيّد بالزمان أو المكان؛ فهو شعور ثابت يعزّز من فكرة الحريَّة الحضريَّة، حيث يمكن للفرد أن يتنقل في المدينة دون خوف أو قيد. والأمان هنا لا يعني فقط الحماية من الأخطار، بل يمثّل عقدًا اجتماعيًّا قائمًا على احترام متبادل للخصوصيّات النفسية والجسدية بين مستعملي المواصلات، المضمون لهم بموجب القانون.
والواقع أن السهولة والشعور بالأمان هما عاملان يجذبان الأفراد إلى استعمال وسائل المواصلات العامة عوضًا عن الخاصة في حياتهم اليومية، وعلى مدار الساعة، دون قلق يتّصل، مثلًا، بصعوبة استقلال وسائل المواصلات العامة أو عدم تغطيتها لجميع مناطق المدينة، أو بوجود أي شكل من أشكال الإزعاج الجسدي أو النفسي أو الاجتماعيّ وهذا ما يعزّز التجربة العامة للمستخدمين ويجعلها أكثر قبولًا في حياتهم اليومية.

محمَّلًا بحكايات ومشاهد
عبدالله سعد الدحيلان – الرياض
كاتب وإعلامي
في ركن الرصيف الملاصق لطريق أنس بن مالك، أحد أشهر طرق العاصمة، والذي ذاع صيته بفضل المطاعم والمقاهي الممتدة على ضفتيه، والمكتظ بالمركبات في ساعات الذروة، تقع محطة مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بحي الصحافة.
عصرًا، حين تتثاءب الشمس مودِّعة النهار، يتسرّب طوفان بشري من المباني الأسمنتية المتوارية خلف وهج الحياة وأُنسها ومتعتها، فتنساق قدماك مع جموع لا تعرفها إلى محطة المترو، قاصدًا منزلك في أقصى المدينة الآخذة بالتمدد بشكل لا يوجزه وصف.
تُسرع الخُطا، وعيناك تلتقطان مشهدًا هنا وآخر هناك: فتاتان جميلتان تلتقطان بهاتفيهما المحمولين صورًا لتوثيق هذه اللحظة بسعادة بالغة، وعلى مقربة منهما رجل ستيني يتفحص المكان ويهز رأسه إعجابًا وحسرة في الآن نفسه.
وهناك يخطو رجلٌ وامرأةٌ متشابكَي الأيدي نحو المقصورة، وتجاورهما عائلةٌ يكسو الضجر ملامحها، وتنظر في شاشة مواعيد الرحلات كأنها تترقّب خلاصًا لا موعد له. تجول بنظرك، فتبصر صديقك في العمل يتصنع الجهل بملامحك خارج حدود المبنى الذي جمعكما ساعاتٍ طويلة.
بلحظة خاطفة تُفتح الأبواب، وتخرج أفواج وتلج أخرى، في تواطؤ واضح على أهمية الالتزام بالدقة لضمان إتمام العملية بنجاح. بجوارك جميع الجنسيات، بخلفياتهم الثقافية المتنوعة، فيصل لأذنك طرفٌ من تفاصيل حياتهم، وفجأة تقع عيناك على زميلك من جديد، فتجده ينصرف عنك عامدًا بتتبع مسار الرحلة في اللوحة الإلكترونية بشكل مريب!
أخيرًا، تصل إلى وجهتك محملًا بحكايات ومشاهد تعزّز إدراكك للتحوّل الذي طرأ على المجتمع بعد استحداث وسيلة نقل جديدة.

توفير للوقت والمال
مروة محمد الإتربي – الإسكندرية
كاتبة وشاعرة ومحررة
ببساطة، تؤثر المواصلات العامة في فكرة الإتاحة، والخيارات المتعددة التي تُسهل عملية التنقل على الأفراد، ليختار كل فرد وسيلة المواصلات الأقرب مسافةً إليه، التي قد توصله إلى المنطقة التي يود الوصول إليها، أو على الأقل لأقرب نقطة منها. ففي الإسكندرية، مثلًا، عليك أن تحدد فقط: “بحر، ترام، أبو قير”، ثم تختار ما يناسبك.
في المدن الكبرى، التي هي أكثر ازدحامًا “كالقاهرة مثلًا”، سيكون “المترو” موفرًا للوقت وللمال طبعًا، خاصة أنه قد صار يغطي نسبة كبيرة منها، وهو وسيلة ربط أساسية بين القاهرة والجيزة، ولم تتراجع أهميته مع الوقت حتى مع غلاء التذكرة؛ لأن عامل سرعته لا يتوفر في أي وسيلة أخرى.
كما سيكون من المكلف الاعتماد على المواصلات الخاصة بشكل يومي، سواء للذهاب للعمل أو الدراسة.
وبوجه عام، ستكون المواصلات العامة أكثر أمانًا بالنسبة إلى الفتيات، فحوادث التحرش والخطف ستكون أقل، لكن من ناحية أخرى ستكون مجالًا أكبر للسرقة.
بالطبع، ستؤثر طبيعة المنطقة في المواصلات التي قد تنتشر فيها. مثلًا، منذ عدة أعوام رفض سكان “الزمالك” مدَّ خط للمترو، لعدِّهم إياه “شعبيًا” ولا يليق بهم. وفي بعض المناطق الشعبية الشديدة، سيصعب العثور على وسيلة مواصلات، فضلًا عن من مخاطرة التوغل داخلها، لذا قد تلجأ إلى استخدام “التوكتوك”، وهو ليس وسيلة تنقل عامة، لكنه ظاهرة فرضت نفسها، وسدت ثغرة ما.

قطار الرياض.. نقلة نوعية
محسن بادحدح – الرياض
موظف في القطاع المصرفي
أصبحت المواصلات في المدن الكبرى من الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها، والتي تواكب عجلة التسارع المطّرد في حياتنا اليومية.
تتنوع أنواع المواصلات بحسب طبيعة الحاجة إلى الانتقال. فعلى سبيل المثال، هناك السيارات الخاصة بجميع أنواعها، والدراجات الهوائية والنارية، وهناك المواصلات العامة التي بدورها تُسهم بشكل كبير في علاج الاختناقات المرورية والحد من الانبعاثات الكربونية وسهولة الوصول إلى مختلف المناطق الحيوية في المدن الكبرى.
وقد توافرت أنواع محددة من المواصلات العامة في مملكتنا الحبيبة منذ نحو 60 عامًا، وكانت تتمثّل في سيارات الأجرة، والحافلات العامة، والخطوط الحديدية، ولكن لم تكن هذه المواصلات بشتى أنواعها متاحة في جميع مدن المملكة، حيث كان وجودها يتركّز في المدن الكبرى.
أمَّا اليوم، فقد أصبح هناك توجه ملحوظ من قبل الدولة إلى أهمية توفير المواصلات العامة، وأن تكون متاحة للجميع بأحدث التجهيزات والتقنيات.
وما لمسناه اليوم من تطوّر في هذا المجال في مدينة الرياض، يُعدُّ مثالًا رائعًا للنقلة النوعية في خدمات المواصلات العامة؛ إذ أحدث توافر شبكة الحافلات والمترو طفرة في عملية الانتقال بين أحياء الرياض، وذلك من حيث تقليل عامل الوقت، والحد من الحوادث وما ينتج عنها من اختناقات مرورية، وأيضًا التقليل من تطبيق المخالفات المرورية على السائقين.
وإننا نأمل أن تشهد جميع مناطق المملكة التطور نفسه في المواصلات العامة كما هو الحال في مدينة الرياض، وأن يُسهم ذلك في رفع مستوى جودة الحياة في المدن.
اترك تعليقاً