في عصر الجزر المنعزلة نتيجة التطور التكنولوجي وانتشار الأجهزة الإلكترونية، وربَّما الروبوتات الذكية في القريب العاجل، تتعرض فكرة “الجماعة” للخطر. وقد فاقمت أزمة “كوفيد – 19 المستجد” من هذه العزلة، وكان من نتائجها اختفاء الجمهور من قاعات المسرح والسينما والموسيقى وملاعب كرة القدم، وغيرها من نشاطات لها صلة بصناعة وجدان الجماعة. وانتشرت المنصات الإلكترونية للأفلام واكتسبت حضورًا طاغيًا، واعتاد الناس الفرجة والاستماع بمفردهم. وعندما ولّت الأزمة استمر الحال أشهرًا عدة، حتى بدا أن العالم تغير إلى الأبد، ولكن ذلك لم يحصل.
في الآونة الأخيرة، بدأ الجمهور يظهر من جديد على أبواب المسارح ودور العرض السينمائي، والأمر يستحق التفكير في الفرق بين مشاهدة عرض المسرحية الحي ومشاهدتها على شاشة التلفزيون، وبين مشاهدة الفيلم وسط عشرات الناس على الشاشة الكبيرة، ومشاهدته وحيدًا على شاشة في حجم الكف. فهناك، بالتأكيد، الأثر النفسي لطقس الخروج والتأهل للمشاهدة والحضور بين الآخرين ومشاركتهم ردود فعلهم. لكن السؤال الذي قد يسبق هذا كله: ما أهمية هذا الكيان المُسمَّى بـ “الجمهور”؟ وهل يخسر العالم شيئًا إذا اختفى الجمهور في يوم ما؟
مولد الجمهور
ارتبطت فكرة الجماعة دومًا بوجود طقوس وشعائر ونشاطات مشتركة يعبِّر من خلالها أفراد الجماعة عن انتمائهم وخصوصيتهم، ويستمتعون بقضاء وقت من الترفيه والتآلف معًا. ولربَّما كان أقدمها هو التجمُّع داخل الكهوف ليلًا للاستماع إلى راوي القبيلة ليحكي، حتى بات الاستماع إلى القصص ليلًا أقدم عادة فنية وثقافية عرفها الإنسان. وبمرور الزمن، تطوَّرت الطقوس وتنوَّعت، بداية بطقوس الميلاد، مرورًا بشعائر “العبور” أو “البلوغ” التي يتحول من خلالها الطفل إلى كائن اجتماعي، وانتهاء بشعائر الموت.
وتطوَّر الأمر عند المصريين القدماء، ثم الإغريق من خلال تأسيس “المسرح” وحلبات القتال ودورات الألعاب الأولمبية، حيث ظهر تقليد “الجمهور” للمرة الأولى. هذا الجمهور الذي يكتفي غالبًا بالمشاهدة والمعايشة المعنوية والنفسية للتمثيليات والمباريات من دون أن يشارك فيها فعليًا.
استُخدم تعبير “الجمهور” (audience) للمرة الأولى في روما القديمة، وهو يعني حرفيًا “المستمعون”، اشتقاقًا من كلمة صوت (audio) وقاعة الاستماع (auditorium). وكان مسرح “ديونيزوس” في مجمع الأكروبوليس الإغريقي يتسع لسبعة عشر ألف فرد (من إجمالي 300 ألف تقريبًا كانوا يسكنون أثينا) يأتون للاستماع إلى الشعر، ثم المسرح الشعري لاحقًا. وقد حرص اليونانيون، ثم الرومان من بعدهم، على بناء مسرح في كل مدينة جديدة يقيمونها. وتطوَّرت أشكال “الجمهور” على مدار القرون التالية، من السيرك والاحتفالات الشعبية والمسرح، إلى أن جاءت السينما في القرن العشرين لتصبح الفن الجماهيري الأول. وبعد أن كانت تشير إلى “المستمعين”، أصبحت الكلمة اللاتينية تشير إلى “المشاهدين”!
في العربية تُرجمت كلمة “audience” إلى “جمهور”، المشتقة من جَمْهَرَ؛ أي جمع وحشد. و “جَمْهرُ” أو “جَمْهرةُ” تعني معظم أو أغلب، والمعنى في العربية أدق في تعبيره عن المجموع والكثرة.
في عصر الصورة
مع ظهور السينما، تراجع المسرح والفنون الشعبية، وأُفسِح المجال لحضور “صورة” العمل الفني، لا أصله. ومع ذلك، فإن هذه الصور المتحركة بالغة الضخامة، داخل دُور العرض المظلمة الشبيهة بالكهف القديم، بنجومها الذين يقارنهم إدجار موران في كتابه “نجوم السينما” بأبطال الأساطير الإغريقية، اكتسبت حياة أكبر من الحياة. وعلى الرغم من أن هؤلاء النجوم كانوا مجرد أطياف على الشاشات، فإنهم تميّزوا أيضًا بأنهم أحياء، مثل ممثلي المسرح؛ إذ يمكن للمعجبين أن يتواصلوا معهم، ويلتقوهم وجهًا لوجه، ولا سيَّما مع نشأة تقليد العروض الأولى الخاصة، ثم المهرجانات السينمائية.
وتتجانس كلمتا “جمهور” و “مهرجان” بشكل يوحي بالارتباط العضوي بين الاثنين (وإن كانت كلمة “مهرجان” ليست عربية في أصلها لكنها نُقِلت حتى استقر استخدامها لمعناها الذي نعرفه اليوم). وقد أسهمت المهرجانات السينمائية الدولية والمحلية بشكل كبير في تشكيل ما يُعرف بـ “الثقافة السينمائية العالمية” التي تتجاوز اختلاف اللغات والعقائد والأجناس، بل أسهمت في تشكيل ما يمكن أن نُطلق عليه “الجمهور العالمي” الذي يتشكل من محبي السينما في مختلف القارات والبلاد، وهو أمر لم يحظَ بمثله أي فن آخر سابق.
ولم تمر أزمة “كوفيد – 19” سهلة على المهرجانات، التي وجدت نفسها مضطرة إلى التأقلم مع الوضع الجديد، وسمعنا للمرة الأولى تعبير “مهرجان افتراضي”. وحتى بعد انتهاء فترة “العزل الكوروني” بدأت المهرجانات تُفكر جديًا في تعبيرات مثل “التحوُّل الرقمي” والعروض “أون لاين”، وأصبحت هناك فعاليات سينمائية ومسرحية تُنظَّم بالكامل على الإنترنت.
وهنا نشأ السؤال: هل تُضحّي المهرجانات المسرحية والسينمائية، التي يتجسَّد فيها مفهوم الجمهور، بفكرتها الأساسية من أجل مواكبة العصر؟ وهل يمكن أن يفقد المسرح والسينما، بوصفهما طقسًا جماعيًا، حضورهما المادي تمامًا خلال السنوات المقبلة، أم سيظلان (ربَّما مع مباريات كرة القدم وبعض النشاطات المماثلة) الحصن الأخير لمفهوم الجمهور؟
هناك شعور بأن متضاربَيْن كانا ينتابان المسؤولين عن الفعاليات السينمائية والمسرحية خلال السنوات الماضية: الرغبة في التكيف مع التطورات الكبيرة في الاعتماد على الإنترنت والأجهزة الإلكترونية واستخدام التطبيقات الرقمية؛ أي دخول العصر الرقمي من ناحية. ومن ناحية أخرى، الرغبة في التصدي لسلبيات هذا التغير السريع، الذي قد يتسبب في مشكلات اجتماعية ونفسية عدة، أو ربَّما يتسبب في انقراض أشياء مهمة وجميلة، مثل المسرح والسينما. ومن ثَمَّ، هناك يد تستخدم التقنيات الرقمية، والثانية لم تزل تستخدم الوسائل “المادية” التقليدية.
صحيح أن الاعتماد على البث الرقمي يُفقد المسرح والسينما إحدى أهم خصائصهما؛ أي الجمهور، ولكن البعض يرى أن الجمهور موجود بالفعل من خلال مشاهدة الأعمال على المنصات والشاشات الصغيرة. وهي مسألة تحتاج إلى مناقشة. فهل جمهور الشاشات الصغيرة المنعزلة هو الجمهور التقليدي نفسه، أم أنهما كيانان مختلفان؟
الجمهور ليس مجرد جمع أفراد
هل الجمهور هو مجرد حاصل جمع أفراد، أم أن الأفراد يتحولون إلى شيء آخر عندما يجتمعون في مكان وزمان معينين، مُحاطين بطقوس وتقاليد مشاهدة؟
هل للجمهور شخصية مستقلة عن مجموع شخصيات أفراده؟ وهل مشاهدة عمل فني ما وسط الجمهور تجعل استقباله مختلفًا عن مشاهدته وحيدًا؟
للجمع شخصية مثل الفرد، وقد كان لعالم النفس، كارل يونج، فضل الكشف عن الوعي الباطن (أو اللاوعي أو الخافية كما تُترجم أحيانًا) الجمعي، مثلما اكتشف فرويد الوعي والوعي الباطن الفردي. ويُشير علماء الاجتماع إلى أن هناك خصائص للفرد لا تظهر إلا وسط الجماعة، مثلما يحدث في الكيمياء حين تظهر بعض الخصائص في المادة لا تتكشف إلا باتحادها مع مادة أو مواد أخرى. والذين اعتادوا مشاهدة الأفلام والمسلسلات بمفردهم في غرفهم المغلقة على الشاشة الصغيرة، لن يتمكنوا من تذوُّق هذه التجربة أو فهمها، والعكس صحيح؛ إذ لا يستطيع الذين اعتادوا مشاهدة المسرحيات حيةً الشعور بالاكتفاء من مشاهدة المسرحيات المصورة.
الجمهور والقطيع
يُشير روبرت فياجاس في كتابه “تاريخ الجمهور” (A History of the Audience)، الصادر عن دار نشر “أبلوز” (Applause) عام 2023م، إلى أن حضور العروض الفنية مع الآخرين يُضاعف من حجم المتعة والإثارة والمشاعر التي تنتاب الفرد، كما هو الحال في مباريات كرة القدم مثلًا. إذ يعيش الجمهور معًا “مباراته” الخاصة في المدرجات. وعلى الرغم من أن القاعة في المسرح والسينما يُفترض أن تكون “صامتة”، فإن هناك انفعالات وردود فعل جمعية تحدث، قد تتمثَّل في ضحكة أو صرخة رعب أو تصفيق أو مغادرة جماعية للقاعة.
يرى “فياجاس” أن جمهور المسرح والسينما لا يختلف كثيرًا عن جمهور “القطيع” الذي يخرج في مظاهرة ما، أو يستمع إلى خطاب حماسي. صحيح أن جمهور اليوم قد يكون أكثر تهذيبًا وعقلانية، ولكن جزءًا منه يظل ينفعل ويشعر مثل القطيع، ولا سيما في الأفلام الشعبية والمغامرات والأكشن والرعب، أو تجارب المشاهدة المتطورة مثل الأفلام ثلاثية ورباعية الأبعاد، والـ “آيماكس”، والمقاعد التي تتحرك إلكترونيًا مثل عربات الملاهي.
حتى السلوكيات “غير المهذبة” التي يمارسها بعض أفراد الجمهور أحيانًا، مثل الحديث بصوت مرتفع خاصة في الهاتف الجوال، أو التعليق على المسرحية والفيلم بشكل مبالغ فيه، أو تناول الطعام والشراب، أو الحركة الزائدة في المكان، يراها “فياجاس” جزءًا من “طبيعة” الجمهور، ويجب ألا نبالغ في إدانتها أو محاولة منعها إلا إذا أدَّت بالطبع إلى إفساد المشاهدة على الآخرين.
في فيلم “سينما باراديسو”، لجوزيبي تورناتوري (1988م)، يعود المخرج إلى قريته القديمة، حيث يزور دار العرض التي قضى فيها طفولته. ويرصد الفيلم مظاهر الحياة في هذه السينما الشعبية، وسلوكيات جمهورها، التي قد تبدو صادمة لمن لم يتردد على مثلها، من انفعالات وضجيج وتعليقات وسباب وتدخين وأكل وشرب، ولكنها جزء من هذا الحضور الكثيف للجمهور وللأعمال الفنية التي يشاهدونها بكل جوارحهم.
وصحيح أن مدمني الهاتف الجوال يتسببون في تشويه العروض السينمائية والمسرحية، ويشوشون المشاهدة على بقية الحاضرين، ولكن منذ نصف قرن من الزمن كان بعض المتفرجين يجلبون أجهزة الراديو الترانزستور معهم إلى دُور العرض ليستمعوا إلى مباريات كرة القدم أثناء مشاهدتهم للفيلم!
باختصار، يحتاج “الجمهور” (بوصفه قطيعًا إن جازت العبارة) إلى أن يُعبِّر عن غرائزه ورغباته وشخصيته، وتوفر العروض الفنية والرياضية فرصة آمنة وصحية للتعبير عن هذه الطاقات والمشاعر المكبوتة في إطار نظام اجتماعي مقبول ومعترف به، بل يُنصح به غالبًا لاستخدام الجماعة.
فنٌّ من دون جمهور؟
لا يؤثر الجمهور في تلقي العمل فحسب، بل يؤثر في الفنان نفسه. ويعرف ممثلو المسرح أن أداءهم يتوقف إلى حدٍّ بعيد على رد فعل الجمهور الجالس في القاعة ونوعه، بل هناك تفاعل مباشر بين الجمهور والممثلين يُراوح بين الانفعال ضحكًا أو بكاءً، والهتاف والتصفيق استحسانًا أو الصفير استهجانًا، وقد يصل أحيانًا إلى كسر ما يُعرَف بالحائط الرابع؛ أي ذوبان المسافة بين العمل الفني والجمهور. وعلى الرغم من أن السينما مختلفة؛ إذ يصعُب وجود صنَّاع الفيلم في كل عرض، فإنهم يختبرون الأمر في العروض الخاصة والمهرجانات؛ وحتى إن لم يحضروا بأنفسهم يمكنهم معرفة ردود فعل الناس من الآخرين.
عندما سُئل صانع الأفلام كوينتين تارانتينو في مهرجان “كان” منذ سنوات عديدة عن رأيه في احتمال اختفاء دُور العرض السينمائي لصالح المنصات والبث الرقمي، أجاب أنه إن حدث ذلك فسيترك السينما ويتجه إلى المسرح!
يحتاج المؤدِّي، سواء أكان فنانًا أم رياضيًا أم لاعب سيرك، إلى جمهور يستمد منه طاقته، ويحظى منه بالإعجاب، خاصة إذا كان مباشرًا وحيًّا. أمَّا انتظار رأي الجمهور الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي، فأمر مربك ومصطنع، ويبدو زائفًا إلى حدٍّ بعيد، وبخاصة حين نضع في اعتبارنا أن كثيرًا منه مدفوع الأجر أو مغرض أو لأناس لم يشاهدوا أو يستمعوا إلى ما يتحدثون عنه!
مستقبل الجمهور
بوجه عام، لا يمكن رفض التطور الرقمي، وليس من مصلحة المهرجانات أن تفعل ذلك، فالرقمي له فوائد عدة منها تسهيل الأمر على الجمهور حتى يحضر ويتابع. ومن الأشياء المهمة التي حدثت خلال السنوات الأخيرة توفير إمكانية حجز التذاكر أونلاين، وهو ما قضى على ظاهرة الطوابير الطويلة أو الذهاب إلى دار عرض وعدم العثور على تذاكر، ولا سيَّما في المهرجانات السينمائية والمسرحية التي يُعرض فيها الفيلم أو المسرحية مرةً أو مرتين فقط.
كذلك من الأفكار، التي لجأت إليها كثير من المهرجانات في السنوات الأخيرة لتشجيع الجمهور والرعاة، إنشاء جوائز يختارها المشاهدون عبر التصويت، سواء من خلال ورقة استبانة تُوزَّع على الحضور أو التصويت “أون لاين”. وأيضًا، لم تعد جوائز الجمهور تقتصر على التصويت المعتاد. فهناك، مثلًا، تجربة مهرجان “تالين”، أكبر مهرجان في إستونيا وأوروبا الشمالية، التي تعتمد على قياس انفعالات المشاهدين ومدى تأثرهم بكل فيلم، وليس فقط التصويت العادي بوضع درجات للإعجاب.
إشراك الجمهور في المهرجان قد لا يقتصر على اختيار أفضل فيلم، وإنما يمتد إلى المشاركة في المحاضرات والورش والحوار مع صنَّاع الأفلام. وكل ذلك يمكن أن يكون عبر الإنترنت من خلال تطبيقات حديثة؛ أي دمج المشاهدة الفعلية للأفلام مع استخدام الإنترنت أيضًا.
إن تشجيع المشاهدين على المشاركة والتصويت قد يحتاج إلى فريق متخصص، وإلى منح جوائز أو هدايا للجمهور أيضًا، ويمكن للرعاة أداء دور أساس في ذلك، سواء بدعم العملية أو توفير هذه الهدايا من منتجاتهم.
الخلاصة هي أن على صناعة السينما والمسرح أن تستفيد من التطور الرقمي، ليس بوصفه بديلًا، بل أداة من أجل الحفاظ على هويتها ووظيفتها بوصفها نشاطًا اجتماعيًا يحمي الأجيال الجديدة من الانعزال كليًا داخل جزرهم الرقمية على الإنترنت.
اترك تعليقاً