إذا ما أردنا أن نفند التأثيرات الاجتماعية للأخبار الزائفة، يمكننا الجزم أنها بدأت تُسهم في تآكل الثقة العامة بالأخبار التي تطالعنا كيفما اتفق، وبشكل خاص تلك التي تظهر على منصات التواصل الاجتماعي.
فبحسب دراسات علم اللغة الاجتماعي، يؤدي تعرض الأفراد بشكل متكرر للأخبار المضللة إلى الشك في كل ما يقرؤونه أو يسمعونه. فهل من وسائل لمكافحة الأخبار الكاذبة؟ وهل من دور للمتلقي نفسه؟
على مستوى المتلقي
من المفترض أن يتحقق المتلقي من المصدر قبل قبول وتبني أي خبر، والبحث عنه في وسائل إعلام ذات مصداقية وموثوقية. ولهذه الغاية، يمكنه اللجوء إلى عدد من البرمجيات التي تتيح التحقق من الأخبار والصور ومقاطع الفيديو إذا ما كانت صحيحة أو مفبركة، مثل: Snopes وFactCheck.org.
ومن المعروف أن “فيسبوك” تستخدم خوارزميات لتقليل ظهور الأخبار الكاذبة. وتعمل هذه الخوارزميات على “خفض مرتبة” المعلومات المضللة أو المتنازع عليها، وهو ما يقلل من انتشارها. ولكن هذا الأمر يبقى ضمن نطاق ضيّق. إذ إن منصة “إكس” ألغت بعض الخوارزميات التي تتعرف على الأخبار الكاذبة والمثيرة والمتحيزة، وهذا ما دفع منصة “ميتا” التي تمتلك شبكة “فيسبوك” إلى الحد من استخدام هذه الخوارزميات؛ لأنها بحسب ما يُقال علنًا “تحد من نسبة الولوج إلى الموقع”.
فبوجه عام، يمكن للمستخدمين الساعين إلى الحقيقة الاستفادة من الأدوات والتطبيقات المتاحة من خلال الانتباه إلى التنبيهات التي تظهر عند مشاركة محتوى مشبوه أو قراءته. وهناك شواهد إضافية يمكن أن تأخذ بأيدينا إلى اكتشاف المواد المضللة، منها درجة جودة المحتوى؛ لأن الأخبار المزيفة غالبًا ما تحتوي على أخطاء لغوية وإملائية، وتفتقر إلى العمق في التحليل، بالإضافة إلى أن اللغة المستخدمة فيها عادةً ما تحمل في مضمونها مفردات مثيرة لغويًا لا يستخدمها المهنيون. وأخيرًا، هناك محاولة البحث عن الخبر في عدة وسائل إعلام؛ لأن الأخبار المهمة تُنشر من عدة جهات إعلامية موثوقة منفصلة، تُقدِّم تقارير متقاربة عن الحدث نفسه.
ولكن علينا ألا ننسى أن هناك نوعًا آخر من المستخدمين يدعم الأخبار المزيفة عن قصد؛ لأنها تتطابق مع ما يؤمن به، ويريد أن يعيش في فقاعتها ويثبت لنفسه أنه على صواب. هذا إذا افترضنا جدلًا أن متصفح “فيسبوك” أو “إنستغرام” أو “إكس”، يملك الوقت اللازم للتحقق، ويرضى ببذل هذا الجهد.
جهود المؤسسات والحكومات
أمَّا عن المسؤوليات الجماعية، فتفترض تعزيز التعاون بين الحكومات وشركات التقنيات العالمية لتطوير تقنيات ترتكز على الذكاء الاصطناعي لكشف الأخبار الزائفة وإزالتها عن الشبكات، إضافة إلى دعم الإعلام ووسائله الموثوقة التي تلتزم بمعايير المهنة وأخلاقياتها في نقل الأخبار، وإدراج برامج تعليمية في كتب التنشئة الاجتماعية في المدارس لتعليم الأجيال الناشئة كيفية التفكير النقدي وتحليل المعلومات التي يتلقونها من وسائل الإعلام المختلفة.
ومن الضروري كذلك التوسُّع في استخدام برمجيات الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على تطبيقات حوسبة اللغة لتحليل النصوص واكتشاف الأخبار الكاذبة. وهذا ما تعمل عليه مختبرات عديدة، ومنها مختبرات في البلدان العربية تبني برمجيات تعتمد خوارزميات التعلُّم الآلي لتحليل الأخبار وتحديد مدى صحتها باستخدام تقارير إعلامية باللغة العربية.

عربيًا، عملت جائحة كوفيد-19 على تسريع قيام أكثر من 40 منصة عربية لتفنيد الأخبار المضلّلة التي تطايرت في الهواء عن هذه الجائحة.
وعلى مستوى التشريعات، تبنَّت دول كثيرة قوانين عديدة تكافح الأخبار الكاذبة والتزييف العميق. فعلى سبيل المثال لا الحصر، استحدثت ألمانيا قانونًا مضادًا لخطابات الكراهية على الإنترنت، بحيث يطلب من المواقع، التي تضم أكثر من مليوني مستخدم، حذف المحتوى “غير القانوني” الذي يدعو إلى الإرهاب أو العنصرية أو الأخبار الكاذبة في غضون 24 ساعة، وإلا تعرضت لغرامات تصل إلى 50 مليون يورو.
وفي المملكة العربية السعودية، اتخذت السلطات خطوات جديدة لمكافحة الأخبار الكاذبة والتضليل الإعلامي، من خلال قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية، الذي يعدُّ نشر الأخبار الكاذبة باستخدام تقنية المعلومات والاتصالات جريمةً إلكترونية في المملكة. وتُفرض عقوبات صارمة على نشر الأخبار الكاذبة والإشاعات التي تهدد استقرار الدولة وتزعزع الأمن العام. وفي لبنان، الذي عانى بشكل خاص خلال الأشهر القليلة الماضية من التضليل الإعلامي باستخدام الذكاء الاصطناعي، وقعت الحكومة في يناير من العام الحالي اتفاقية مع اليونسكو ومنظمة الدول الفرنكوفونية لمواجهة التضليل الإعلامي وخطاب الكراهية، تهدف إلى تعزيز التفكير النقدي لدى الجمهور واعتماد أفضل الممارسات في التربية الإعلامية والمعلوماتية، خاصة في أوقات الأزمات.
سباق التكنولوجيا والتشريع
في تقرير لمركز الأخبار والتكنولوجيا والابتكار (CNTI) حول التزييف العميق، ازداد حجم المحتوى المزيف على الإنترنت إلى عشرة أضعاف في عامي 2022م و2023م. وجاء في تقرير المركز، الذي يجري أبحاثه الخاصة وأبحاثًا تشاركية مع جهات أخرى، أن المشاركين في عينة بحثية عجزوا عن تحديد %80 من المحتوى المزيف على الرغم من تحذيرهم مسبقًا قبل عرض الفيديوهات.
والمشكلة أن التشريعات العادية حول الحق في الخصوصية وجرائم التشهير والجرائم الإلكترونية لا تشمل التزييف العميق، بالإضافة إلى وجود صعوبة أساسية أخرى تتمثل في أن القائم بالتزييف قد يكون في مكان لا تطوله يد القانون.
وفي الوقت الذي تتلاحق فيه محاولات التشريع، هناك مخاوف من أن التكنولوجيا تتطور بسرعة أكبر من التشريع، وتتضمن المقاربات الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والصين تنفيذ الإلزام بالإفصاح عن المحتوى المعد بالذكاء الاصطناعي بشكل واضح، ووضع علامات مائية لإخلاء مسؤولية القائم بالنشر. وعلى الرغم من كل الأخطار، يوصي الخبراء بالتوازن بين الحماية من أضرار التضليل والحفاظ على حرية التعبير.
مستقبل الإنترنت بوصفها مصدرًا للأخبار
إضافة إلى كل ذلك، فإن التحولات الرقمية تطرح تساؤلات تتعلق بمستقبل الإنترنت بوصفها مصدرًا للمعلومات. فهل ستتمكن الإنترنت من كسب قضية الثقة في محتواها، أم ستخسر الثقة بكل محتواها نتيجة الخداع في بعضه؟ كما يتوقع بعض الخبراء، مثل العالم “نيل دي غراس تايسون”، أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى نهاية عصر الإنترنت.
إنه عصر “المنطق” الحسابي للقيم أيضًا؛ لأن الذكاء الاصطناعي أصبح معركة أخلاقية. فبعض الأسماء الكبيرة في المجال نادت بالتوقف مؤقتًا عن تطوير هذه التكنولوجيا، خشيةً من تفوق الآلة على الإنسان، كما في الخيال العلمي! إذ يعتقد بعضهم أن الذكاء الاصطناعي سوف يدمر البشرية، إضافة إلى أنه لم يعد بإمكاننا التحكم في الأخبار المزيفة من خلال الصور الكاذبة.
من الناحية التقنية تساعد أدوات الذكاء الاصطناعي على شخصنة المحتوى بما يناسب المستخدم مع إمكانية التوليف الآلي للمواقع. إلا أن التخوف من الأخطاء في الإجابات يزداد لأسباب أهمها أن المؤسسات باتت تعاني نقصًا في بيانات التدريب، وهو ما دفعها إلى تبني حلول البيانات الاصطناعية. وكما نعلم، فإن النتائج تعاني ما يُسمَّى “الهلوسة”؛ أي وجود أخطاء في هذه البيانات تؤدي إلى نتائج غير دقيقة. هذه الشوائب التي باتت متعددة قد تدفع المستخدم إلى التوجس من المعلومات وإلى عدم الثقة بما يُنشر.
كل ذلك يُعرِّض سلامة الخطاب العام للخطر، ويمكنه أن يهدّد أمن الناس وسلامتهم ومواقفهم من القضايا المختلفة. لكن ذلك لا يعني نهاية عصر الإنترنت، بل سيستمر السباق. المضللون يجدون طرقًا جديدة للتزييف، وفي الوقت نفسه تتطور وسائل كشف التزييف؛ أي أن “الذكاء الاصطناعي سيبقى ضد الذكاء الاصطناعي”، فيه المرض والعلاج، وكأننا إزاء صوت أبي نواس: “وداوني بالتي كانت هي الداء”.
اترك تعليقاً