تأليف: جوزويه باجيو
ترجمة: عبدالفتاح عبدالله
الناشر: هنداوي، 2024م
اللُّغويات العصبية، كما نقرأ في مقدمة هذا الكتاب، هي “دراسة الأساسات العصبية للغات البشرية”، وهي ترتبط بشبكات الخلايا العصبية في المخ، والطرائق التي تتفاعَلُ بها، بما يسمح للبشر بالتعلُّم والتمكُّن من لغة أو أخرى. وهي نتيجة لتلاقي علم الأعصاب وعلم اللغة، لكن يدخل في نِطاق عملها أيضًا عدةُ مجالات معرفية أخرى، ويتمثَّل هدفها الأساس في السعي نحو معرفة ماذا يجري في دماغ الإنسان حين يكتسب ويستخدم مهارةً لُغويةً جديدة أو حتى حين يفقدها.
الكتاب من تأليف أستاذ علم اللُّغويات النفسية في قسم اللغات والأدب بالجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا، جوزويه باجيو، وقد جاء في لغة مُوجَزة مفهومة نسبيًّا بالنظر إلى طبيعة مجاله المُتخصِّص، وبأسلوب يناسب القارئ العادي.
ينقسم الكتاب إلى اثني عشر موضوعًا، يبدؤها المؤلف بمقدمة تاريخية يسرد فيها مراحل مما عدَّه تاريخًا طويلًا وثريًّا للغويات العصبية، لافتًا إلى أنه لم يُعنَ أحدٌ بعدُ بكتابة تاريخ شامل لها، فأصول المصطلح نفسه يعوزها التوثيق الدقيق. وبحسب جوزويه باجيو، ثمة ثلاث طفرات رئيسة في تغيُّر فهم العلاقة بين اللغة والمخ، أولها اكتشاف الطبيب الفرنسي بول بروكا، نحو عام 1860م، أن الضرر الذي ينال مناطق بعينها من قشرة الفص الجبهي في الدماغ المسؤولة عن المعالجات المعرفية يحتمل أن يرافِقَه إعاقةٌ في مخارج الكلام. ثم بعد ذلك التاريخ بنحو مائة عام، افتراض الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي وآخرون عام 1960م تقريبًا القائل إن اللغة “نظام حوسبي” يتحدَّد بمجموعة من المفردات وتؤطِّرُه قواعد بعينها يجري الركون إليها لإنتاج عدد لا نهائي من الجُمل. أمَّا الطفرة الثالثة، نحو عام 1980م، فكانت ذات طبيعة تكنولوجية، وفيها صار ممكنًا قياسُ النشاط العصبي البشري بطريقة لحظية، ومن ثَمَّ، القدرة على تحليل البيانات الخاصة به ومحاكاتها. ثم يستعرض المؤلِّف في موضوعات أخرى من كتابه، ما سمَّاه “مغامرة اللغويات العصبية المعاصرة” التي صارت ساحة لاندماج علومٍ شديدة التعقيد مثل المعلومات والرياضيات والأحياء، ولا ينفصل فيها التنظير والتطبيق، وتشهد عديدًا من وجهات النظر التي قد تصل إلى حد التناقض، ويكون التجريب الوسيلة الوحيدة للتحقق من صِحَّتها.
وسيتعرَّف القارئ خلال موضوعات الكتاب على “زمن الدماغ” أو الطريقة التي ينتج بها الكلام ويُفهَم بصورة آنية. فليس ثمة زمن يُذْكَرُ بين النية في القول وقوله فعليًّا، أو بين سماع ما يقوله لنا أحدٌ وفهم معناه. وفي هذا الصدد، يوضِّح المؤلف أن أهم ما يميز المخ البشري هو بنيته والكيفية التي تتداخل بها عملياتُ التعامل مع المعلومات داخله، سواء جرت بالتَّتابُع أو بالتوازي، وهي عمليات تتسم بالكفاءة ويمكن نقلها أو ترجمتها بسهولة.
ويناقش المؤلف ضمن موضوعات الكتاب الأخرى مهارات “التعـلُّم الصوتي”؛ أي القدرة على اكتساب الأصوات الفردية أو أنماط الأصوات عن طريق المحاكاة، وطرائق اكتساب اللغة الثانية، وهل هناك “عمر تحصيل مُحدَّد” بوسعنا أن نتعرض فيه للغات جديدة، وإن فاتنا فلن يكون ثمة مجال لاكتساب لغة أخرى غير لغتنا الأم؟ ويحرص جوزويه باجيو على إنهاء كتابه بالحديث عن مستقبل اللغويات العصبية، كاشفًا عن الاتجاهات الحديثة التي يشهدها هذا المجال من أجل فَكِّ شفرة عمل “الأدمغة والعقول”.
اترك تعليقاً