مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2024

الفلتر

رحلة الصورة من محاكاة الواقع إلى إلغائه


شيرين أبو النجا

مع صعود الحداثة الغربية، ظهر مفهوم الشفافية بوصفه دليلًا لامتلاك القوة، ويُعدُّ سجن البانوبتيكان هو أصل الفكرة ونتيجة لها. ففي عام 1785م، صمم المنظِّر الإنجليزي جيريمي بنثام، صاحب مذهب البراجماتية، هذا السجن الذي يسمح لحارس واحد بمراقبة جميع السجناء من دون أن يكون المسجونون قادرين على معرفة ما إذا كانوا مراقبين أم لا. وأكد في مقدمة كتابه “بانوبتيكان” أنه “طريقة جديدة لتحقيق سلطة العقل على العقل”. وانسحب مفهوم الشفافية على العلاقات الاجتماعية، وخاصة في نهاية القرن التاسع عشر، عندما أسّس المفكر الفرنسي جان جاك روسو نظرية فلسفية وسياسية عن الشفافية، فألصق كل القيم السلبية بالمخفي والغامض، وطوّر نظرية كاملة عن جوهر الحقيقة. الحقيقة التي تمكَّنت الكاميرا التي اخترعها الفرنسي لويس دايجر، عام 1829م، من تصويرها. ومن هنا، أصبحت الحداثة تعني، من بين ما تعنيه، المعرفة الكاملة التي لا تقبل وجود أي مناطق معتمة.

في القرن العشرين، أصبح بناء الصورة الذهنية في الواقع ممكنًا؛ إذ تتحول الصورة إلى مشهد للفُرجة، فتحلُّ محل الواقع، وتتحوَّل إلى واقع آخر مأمول. ففي عصرنا، يطغى المشهد على الحدث الفعلي ويأتي كأولوية على أي شيء آخر. عندها يُفرّغ الشكل من المضمون، ويتحوّل إلى صورة تحَمِل هوية صاحبها وتُعرّف عنه. إنها حالة يلخصها الكاتب والسينمائي الفرنسي ديبور في مصطلح “الصورة للصورة”. فهو يرى أن “الصور التي تنفصل عن كل مجال من مجالات الحياة، تندمج ضمن تيار مشترك، لا يعود ممكنًا فيه استعادة وحدة هذه الحياة من جديد”.

وانتقد الفرنسي الآخر جان ببودريار الصورة ودورها في التسليع والاستهلاك. وفي عام 1981م، قدّم مصطلح “السيمولاكر”؛ أي النسخة المطابقة، وهو مصطلح إغريقي قديم كان يُستخدم للتعبير عن المحاكاة. وفي ظل صعود تيار ما بعد الحداثة وازدياد وتيرة الإعلانات التجارية، التي تعمد إلى تزييف الصورة والوعي معًا لتحقيق أكبر ربح ممكن؛ لم يعد هناك أي مدخل ملائم لفهم ما يحدث سوى مفهوم “السيمولاكر”. تتوالد الصور وتتكاثر بشكل لا نهائي، وتحل محل الواقع تدريجيًا حتى يختفي الواقع نفسه، ولا تعود هذه الصور مجرد إشارات أو دلالات على الواقع، بل إشارات ذات مرجعية ذاتية. وتلعب وسائط الاتصال والبرامج الإلكترونية القادرة على “خلق” صور دورًا كبيرًا في اختفاء الواقع المباشر.

لاحقًا، ظهرت البرامج التي “تُفلتر” الصورة لتقدّم عالمًا لا صلة له بالواقع الحقيقي، إلا أن عرض هذه الصور على الإنترنت بشكل كثيف ومتواتر ومستمر، حوّلها إلى واقع بديل حقيقي أكثر من الواقع المباشر، أو ما يُسميه بودريار “الواقع الفائق”. لا تهدف فلترة الصورة إلى جعلها مشابهة للواقع ولما تمثله، بل الهدف هو تغيير الواقع وتقديمه بشكل مغاير. وإذا كانت الصور المفلترة تُعدُّ دليلًا على عدم الرضا عن الواقع، فإن الجسم يكون له النصيب الأكبر من عدم الرضا.

غير أن فلترة الصور تدل أيضًا على الكيفية التي تسيطر بها التكنولوجيا على رؤيتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا. فعندما نرى العالم من خلال عدسة التيك توك أو الإنستغرام، ننسى أن نستمتع باللحظة الحاضرة، وتتحول كل أفعالنا إلى وسيلة غايتها النشر على الصفحات والمنصات الإلكترونية.

 لا تهدف “فلترة” الصورة إلى جعلها مشابهة للواقع ولما تمثله، بل الهدف هو تغيير الواقع وتقديمه بشكل مغاير، أقرب إلى الأمنية أو المأمول.

في هذا التوالد الذاتي اللانهائي يختفي جوهر الواقع، الذي حاربت الحداثة من أجل كشفه، وتتحوّل كل دلالات الأشياء وقيمتها إلى مرجع ذاتي (ما بعد الحداثة)، وبدلًا من التوحّد على ما يُسمى مواقع التواصل الاجتماعي (افتراضيًّا)، يزداد التشرذم خارج الواقع الافتراضي. ففي هذا التواصل الافتراضي، تنشأ علاقات وخصومات وتحالفات، وترتحل أفكار، وتُغتال أسماء، ويحصل هذا العالم بكل ملحقاته على استقلالية كاملة؛ لتصبح السيطرة عليه من دون جدوى.

وعلى الرغم من اختفاء الواقع، يبقى هناك دائمًا الحُلم بامتلاك عالم ديزني لاند، وهو عالم ساحر وخالٍ من التجاعيد والسمنة المفرطة، وعالم محكوم بالجمال. وهذا الجمال، بتعدد مرجعياته الذاتية، تبقى له معايير شمولية واضحة. وكلما التزمت الصورة بهذه المعايير وحققتها، زاد عدد المتابعين، واتسعت الشهرة، وانهالت التعليقات الإيجابية التي تُكثر من المدح أو السلبية التي تُدين الصورة. وفي الحالتين، التعليق الإيجابي أو السلبي، يتحقق للصورة الاهتمام المنشود. وبتعاظم أهمية الصورة، وتراجع أهمية الكلمة، حاول رأسماليون السيطرة على الواقع البديل. ففي عام 2010م، أُنشِئت منصة “إنستغرام”، التي تُتيح رفع صور وفيديوهات قصيرة. وفي عام 2012م، انتقلت ملكيتها لمنصة “فيسبوك”. وفي العام نفسه، أُنشِئت منصة “سناب تشات” الأمريكي أيضًا، المخصص لعرض الصور. وفي عام 2016م، لم ترضَ الصين أن تبقى خارج المنظومة، فأنشأت منصة “تيك توك”.

بالنظر إلى الأعداد الضخمة التي تتابع هذه المواقع، يُمكن فهم دلالة الصورة. أنتجت هذه المواقع ظاهرة الشخص المؤثر (الإنفلوينسر)، (سابقًا كان هناك البلوجر)، التي تضم رجالًا ونساء، تُعقد لهم في دبي منتديات سنوية.

ما يلفت النظر، هو توظيف النساء للصور المُفلترة التي تقدّم وجهًا خاليًا من أي شوائب، وجسمًا متناسقًا، وفرحة تلمع في النظرة، وإقبالًا كبيرًا على الحياة (في انفصال كامل عن الواقع). تعلم صاحبة الصورة جيدًا أنها تنظر ومنظور إليها. إذا كانت البداية في هذا المشهد قد انطلقت من عدم الرضا عن الواقع، فإن المفارقة تكمن في كون هذه الصور المُفلترة تحوّلت إلى دعاية رأسمالية. فقد انتبهت الشركات التجارية، وخاصة شركات التجميل، إلى الإمكانات التي تقدّمها الصور المفلترة، فبدأت تتعاقد مع هؤلاء النساء للإعلان عن المنتجات. صورة جميلة تحمل وهمًا نبتاعه أملًا في الحصول على حقيقة الصورة التي راوغت الواقع منذ البداية!

لكن الأمر يخرج أحيانًا عن هذا المسار الربحي؛ لتصبح الصورة غاية في ذاتها. وإلَّا فما معنى أن يسرع الناس بالتقاط السيلفي في كل مكان وزمان، ثم يهرعون لنشره مصحوبًا بأغنية تمنح إحساسًا للصورة؟ تُعدُّ صور السيلفي أحد أمثلة الواقع الفائق، خاصة عندما يجري التعامل معها بتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ أي الفلترة. عندها لا تكون هذه الصورة معبّرة عن الواقع، ولكنها تخلق واقعًا جديدًا عبر التحكم في الإضاءة والمؤثرات التجميلية، التي تعدِّل لون البشرة وشكل الفك والأنف ولون العينين. ليست صورة السيلفي إلا “سيمولاكر” محسوبة بدقة متناهية، تأخذ في الاعتبار طبيعة المتفرج والمشاهد والمتابع. وعلى ذلك، فالسيلفي الناتج عن الذكاء الاصطناعي هو المجتمع الجديد.

اشتبكت الأدبيات النسوية بشكل ملحوظ مع مسألة الصورة والإعلانات التجارية، التي تعمل على تسليع النساء عبر تحويلهن إلى شيء منظور إليه. وبتصاعد الصور المفلترة، وما تقدمه من شكل تسعى النساء إلى الحصول عليه، ازدادت الأبحاث في مجال علم النفس النسوي، في محاولة لفهم تأثير هذه الصور على النساء، ومدى رفضهن لواقعهن ولأجسادهن.

في مواجهة هذه الأبحاث، التي تُنشر في مجلات علمية دولية محكمة، ظهر تيار “ما بعد النسوية”، الذي راح يؤكد أن الجسد وشكله ليسا جزءًا من الذات، بل هما الذات، وذلك في تعظيم لجسدية الجسد. وهو أمر مشابه لفكرة اختفاء الواقع، وتحوّل الصورة إلى واقع له مرجعية ذاتية. على الجانب الآخر، وفي محاولة للاستناد إلى هذه الأبحاث، ظهرت في أمريكا، أخيرًا، حركة إيجابية الجسد، التي تنادي بعدم اللجوء إلى فلترة الصور أو عمليات التجميل، وضرورة قبول الجسد كما هو. ومرة أخرى، تمكّنت العلامات التجارية الكبرى من تحقيق أرباح ضخمة، عبر إنشاء قسم “المقاسات الكبيرة”.

جوليا روبرتس.

مؤخرًا، انتشرت صرعة بين ممثلات هوليوود، تدفعهن إلى نشر صورهن من دون أي تعديل. الصورة الأصلية التي دومًا ما اختبأت خلف مستحضرات التجميل والفلتر. وكانت الممثلة الأمريكية الشهيرة جوليا روبرتس، هي من بدأت ذلك عام 2015م، على حسابها بالإنستغرام، وأعادت النشر بعد ذلك مرتين تقريبًا.

ما يلفت النظر، هو تعليق روبرتس المصاحب للصورة: “أريد أن أشارككم بصورة خالية من الماكياج، أعلم أن لديَّ تجاعيد على وجهي، ولكني أريدكم أن تروا ما هو أبعد من ذلك. أنا أريد أن أقبل وأتصالح مع نفسي الحقيقية، وأريدكم أيضًا أن تتصالحوا مع أنفسكم كما هي، وأحبوا أنفسكم فقط كما هي”. في هذا الكشف، الذي يُعلي من شأن الشفافية الحداثية ويتخلص من أعباء الفردانية ما بعد الحداثية، تُعيد روبرتس الذات إلى الصدارة، وتحاول إزاحة “السيمولاكر” لتمنح مكانًا للواقع الذي اختفى تحت طبقات الماكياج. لكنها تبقى محاولة تطرحها ممثلة شهيرة لديها الكثير من رأس المال الرمزي المساند.

وبشكل مفارق، وسواء أكان العقل يدعو لتمثيل الواقع كما هو من خلال صورة تعبِّر عنه، أم تغيير الواقع عبر استبداله بصور، يبقى الرابح الوحيد هو ذلك الذي يجني أرباحًا مستمرة، وهو على وعي بذلك. وإلَّا فلماذا دفع مارك زوكربرغ، في منافسة شرسة، 4 مليارات دولار لشراء منصة “الإنستغرام”؟


مقالات ذات صلة

بدأت الفكرة عام 2012م، عندما كانت الصديقتان جينيفير دي لا ماري ولورا جلوهانيتش، جالستين في أحد المقاهي في مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية، تقرأ كل واحدة منهما كتابًا مختلفًا؛ إذ كانت عادتهما التنقل بين مقاهي المدينة ومطاعمها بحثًا عن ملاذ خارج البيت ومتطلبات الأعمال المنزلية المتواصلة، للهدوء والاستمتاع بالقراءة. وبينما كانتا غارقتين في […]

تهدف الاستعارة اللغوية إلى الإقناع. وهي في ذلك أجدى من التشبيه المباشر. إذ إنها تؤدي دورًا عاطفيًا يمسّ وجدان الأفراد وتصوّراتهم، وهو ما يمكّن اللغة التصويرية من أن تكون مقنعة جدًا. وهذا ما يجعل الاستعارة آلية أساسية من آليات التواصل.  وبعدما كانت الاستعارة شأنًا أدبيًا لعدة قرون من الزمن، أصبحت دراستها أقرب إلى أن تكون […]

في البيرو، وعلى ارتفاع يبلغ 2430 مترًا فوق سطح البحر، تشمخ مدينة ماتشو بيتشو شاهدةً نادرةً على التاريخ غير المحكي لإمبراطورية الإنكا. تلك الإمبراطورية العريقة الضاربة بجذورها في عمق تاريخ الساحل الغربي من قارة أمريكا الجنوبية، والتي كانت من أكبر الإمبراطوريات الأصيلة عند اكتشاف القارة الجديدة في أواخر القرن الخامس عشر. إذ تميزت حضارة الإنكا […]


0 تعليقات على “الفلتر.. صورة بلا واقع؟”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *