مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

استخدام طاقة الثقوب السوداء

للسفر بين الكواكب والنجوم

حسن الخاطر

ظهرت فكرة استخدام طاقة الثقوب السوداء في الخيال العلمي أوَّل مرَّة عام 1975م، في رواية “الأرض الإمبريالية” لكاتب الخيال العلمي آرثر سي كلارك، حيث أطلق العنان لمخيلته حول مركبة فضائية قادرة على السفر بين النجوم باستخدام الثقب الأسود بوصفه مصدرًا للطاقة.

في عام 1978م، قدّم عالم الرياضيات والفيزياء وكاتب الخيال العلمي الإنجليزي تشارلز شفيلد، فكرة مماثلة في قصته القصيرة “كيلينج فاكتور”. لقد تخيّل كلاهما فكرة وجود حضارات فضائية متقدمة تستخدم مركبة فضائية تُسخّر طاقة الثقوب السوداء الدوّارة لتلبية احتياجاتها من الطاقة.

أدبيات الخيال

اكتسبت السفن الفضائية التي تعمل بالثقب الأسود زخمًا كبيرًا في أدبيات الخيال العلمي، وظهرت تصاميم عدة لها. ففي عام 2009م، نُوقشت الفكرة من قِبل عالم الرياضيات الأمريكي الدكتور لويس كرين وطالب الدراسات العليا في الفيزياء شون لاند، من جامعة كانساس، في ورقة بحثية بعنوان “هل السفن الفضائية ذات الثقب الأسود ممكنة؟”. وركَّز البحث على فكرة استخدام ثقوب سوداء صناعية صغيرة لدفع مركبة فضائية إلى سرعات عالية بين النجوم، كما جاء في موقع “سانتوري دريم” في 17 أكتوبر 2019م.

ووفقًا لخيال هؤلاء، ستُجهَّز المركبة الفضائية بمحرك يعمل بثقب أسود صغير في مركزه، وهو ما يمنحها قوة دفع قوية تصل إلى %10 من سرعة الضوء. لكن، لن يستمر كل ثقب أسود فترة طويلة، نظرًا لصغر حجمه واضمحلاله السريع؛ لذلك ستُجهّز السفينة النجمية بأشعة ليزر جاما لإنتاج ثقوب سوداء جديدة. وهكذا، فإن سفينة الفضاء المُفترضة التي تعمل بالثقب الأسود ليست خارج نطاق الاحتمال، بل هي ممكنة من الناحية العلمية، وقد تكون هي الحل للسفر بين النجوم في المستقبل.

كيفية استخراج الطاقة

خضع استخراج الطاقة من الثقوب السوداء الدوّارة لبحوث معمّقة. ففي دراسة حديثة موّلتها مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية، ونُشرت في مجلة “فيزيكال ريفيو دي” في يناير عام 2021م، وجد الفيزيائيان لوكا كوميسو من جامعة كولومبيا، وفيليبي أسينجو من جامعة أدولفو إيبانيز في تشيلي، آلية جديدة لاستخراج الطاقة من الثقوب السوداء الدوّارة.

تعمل هذه الآلية الجديدة على حقيقة أن الثقوب السوداء الدوّارة تخزّن الطاقة الناتجة عن دورانها، وهو ما يُتيح للعلماء استخراجها.

الثقوب السوداء أجسام كونية تتميز بكثافتها العالية وجاذبيتها القوية. وتنقسم بحسب كتلتها إلى ثلاثة أنواع رئيسة: فائقة الكتلة، ومتوسطة الكتلة، وذات الكتلة النجمية. وتكوَّنت الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية من انهيار نجم ضخم كتلته أكبر عشرين مرة على الأقل من كتلة الشمس. وهناك أيضًا فئة رابعة تُسمَّى الثقوب السوداء البدائية، التي ما زلنا لا نعرف شيئًا عن وجودها. ومن المحتمل أنها تكوّنت في اللحظات الأولى لبداية الكون بعد الانفجار الكبير، نتيجة الكثافة الزائدة للبلازما البدائية في الكون. ومع توسع الكون وانخفاض درجة حرارته، فإن الظروف اللازمة لتشكّل هذا النوع من الثقوب السوداء قد اختفت تمامًا. وهذا يعني أن الثقوب السوداء البدائية صغيرة جدًّا مقارنة بالأنواع الثلاثة الأخرى.

ومن الممكن أن تكون الثقوب السوداء البدائية قد تبخرت بمرور الوقت بسبب صغرها من خلال عملية كمومية تُعرف باسم “إشعاع هوكينج”. وهذا الإشعاع هو الكتلة المفقودة من الثقب الأسود، التي تنتج من تفاعل أفق حدث الثقب الأسود مع الحقول الكمومية المحيطة به مباشرة. ويعتقد العلماء أن فقدان الكتلة يتسارع في الثقوب السوداء الصغيرة بفعل إشعاع هوكينج. ومع ذلك، ربَّما لا تزال الثقوب السوداء البدائية الأكبر حجمًا موجودة في مكان ما من الكون، وربَّما تكون قابلة للاستخدام لإنتاج الطاقة، كما جاء في نشرة “BBVA” في نوفمبر 2023م.

توصل باحثون صينيون في دراسة حديثة إلى أنه من الممكن نظريًا استخدام قوة الجاذبية للثقوب السوداء البدائية بوصفها مفاعلات نووية يمكن استخلاص الكهرباء منها. وتتضمن الطريقة التي اقترحها الباحثون استخدام ثقوب سوداء صغيرة بحجم الذرة. إذ يمكن إعادة شحن ثقب أسود صغير عن طريق تغذيته بجسيمات ألفا، التي تتكون من اتحاد بروتونين ونيوترونين، تشبه نواة الهيليوم 4، وتعدُّ أشد نَوَيات العناصر قوة وتماسكًا. ويُنتج هذا الجسيم من خلال التحلل الإشعاعي وتحويله إلى بوزيترونات، وهي الجسيمات المضادة للإلكترونات.

هذا عن الإمكانية العلمية لاستخراج الطاقة من الثقوب السوداء؛ لكن هذه الأبحاث قائمة على افتراضات لا تزال في عالم الخيال العلمي. أمَّا الخطوة التنفيذية الأولى في هذا المشروع، فستكون اكتشاف هذه الثقوب السوداء الصغيرة، التي تفترض نظرية النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات وجودها. بعد ذلك، هناك سلسلة من التحديات التي يبدو أنه لا يمكن تحقيقها بالتكنولوجيا المتوفرة حاليًا.

لكن، إذا كانت التكنولوجيا الحالية، التي توصلت إليها حضارتنا، لا تستطيع اكتشاف واستغلال ثقب أسود على مستوى ذرة واحدة، فمتى نستطيع استغلال ثقب أسود على مستوى نجم؟ هذا يحتاج إلى النوع الثالث من الحضارات على “مقياس كارداشيف”.

مقياس كارداشيف

هي طريقة لقياس مستوى التقدم التكنولوجي لحضارة ما من حضارات الكون المفترضة، بناءً على كمية الطاقة القادرة على تسخيرها واستخدامها. واُقترِح هذا الإجراء من قِبل عالم الفلك الروسي نيكولاي كارداشيف، في عام 1964م. ويصنّف هذه الحضارات إلى ثلاثة أنواع:

النوع الأول: هو عندما تستطيع أي حضارة الوصول إلى كل الطاقة المتوفرة على الكوكب الذي تعيش عليه وتخزينها للاستهلاك. وتكون أيضًا قادرة على التحكم في الأحداث الطبيعية مثل الزلازل والانفجارات البركانية، والمشكلات البيئية، والانفجارات النووية؛ لتصبح قادرة على الانتقال إلى النوع الثاني.

النوع الثاني: هو عندما تستطيع هذه الحضارة تسخير كل الطاقة المتوفرة في النظام الذي تنتمي إليه والاستفادة منها، أي النظام الشمسي في حالتنا.

النوع الثالث: هو عندما تكون الحضارة قد أنجزت النوع الثاني وأصبحت قادرة على استغلال كل الطاقة المنبعثة من مجرتها وكل جسم بداخلها، مثل طاقة كل نجم وثقب أسود، وغيرها.

غلاف دايسون

من التقنيات التي اقترحها العلماء لاستغلال هذا النوع الفلكي من الطاقة في المستقبل البعيد، ما يُعرف بـ”غلاف دايسون” الذي طرحه الفيزيائي البريطاني فريمان دايسون (1923م – 2020م) في ستينيات القرن العشرين. ويتمثّل في هيكل افتراضي ضخم يحيط بنجم ويلتقط نسبة كبيرة من الطاقة الناتجة منه. ونظرًا لأن كوكبًا يدور حول نجمه لا يتلقّى سوى جزء ضئيل من طاقة ذلك النجم، فإن بناء الهياكل التي تحيط بالنجم يمكّن الحضارة من حصد مزيد من الطاقة.

وقبل سنوات قليلة توسّعت الفكرة عند بعض الباحثين، ونُوقشت فكرة بناء أغلفة دايسون حول ثقب أسود بدلًا من النجم. ونُشرت ورقة بحثية بعنوان “غلاف دايسون حول ثقب أسود” في سبتمبر 2021م، في مجلة “الإشعارات الشهرية للجمعية الفلكية الملكية”.

ذلك أن حضارة من النوع الثالث بحاجة إلى طاقة أقوى من النجوم من أجل الحفاظ على نفسها. وبحسب الدراسات النظرية، فإن الطاقة التي تجمعها أغلفة دايسون حول الثقب الأسود، تتجاوز طاقة مائة ألف نجم، كما جاء في دراسة نشرتها مجلة “ساينس” في 16 أغسطس 2021م. وتشير الدراسة إلى أن هذه الأغلفة تسمح للتلسكوبات الموجودة على الأرض باكتشاف وجود كائنات ذكية في أماكن أخرى في الكون. لذلك، يجب على العلماء تكثيف البحث عن أغلفة دايسون حول الثقوب السوداء بوصفها مؤشرًا على وجود حضارة فضائية متقدمة من النوع الثالث.

أين نحن الآن؟

يقول الفيزيائي النظري ميتشيو كاكو إننا بحاجة إلى مائة أو مائتي سنة لنصل إلى حضارة من النوع الأول. كما يقول عالم الفيزياء الفلكية نيل ديغراس تايسون: “إننا ما زلنا بدائيين جدًا في طريقة استخراج الطاقة”.

لنتخيل للحظة مقدار التقدُّم الذي أحرزناه خلال مائتي عام؛ من استخدام الحيوانات للتنقل برًا، واستخدام النار في أعالي الجبال لإيصال الرسائل المستعجلة، إلى إرسال مركبات إلى الفضاء وخارج النظام الشمسي. ألا يدفعنا هذا التقدُّم الهائل إلى الاعتقاد بإمكانية تحقيق ما نتخيله اليوم، حتى لو بعد آلاف السنين؟


مقالات ذات صلة

غالبًا ما نتصوّر أن الدماغ يؤثر في الجسد كالسائق بالسيارة، لكن الأبحاث الحديثة كشفت أن التأثر والتوجيه يحدث من الجانبين. فالجسد، من خلال نشاطاته الحسية والحركية، يؤثر بالدماغ أيضًا. 

هل بتنا على مشارف عصر زراعي يُسمّد فيه النبات نفسه بنفسه؟

تشير فرضيات عدة إلى أن السفر إلى الماضي أو المستقبل ممكن باستخدام طرق مختلفة؛ لكن جميعها واجهت ما يُعرف بـ “مفارقة الجَدِّ”؛ فإذا تمكن المرء من السفر عبر الزمن في الماضي وقتل جدَّه، فكيف سيكون موجودًا ليؤثر في الزمن الماضي؟


رد واحد على “طاقة الثقوب السوداء للسفر بين الكواكب”

  • سبحان الله العظيم
    زنة عرشه ومداد كلماته
    الذي جعل هذا الكون العظيم
    محل إعجاز وتدبر
    في مخلوقات ومكنوناته العجيبة من مختلف العلوم والنظريات والتي كلما أبحر العلماء في أبعادها وخيالاتها ودقة معطياتها.. توصلوا للقدرة الإلهية التي لا نفاذ لسلطتها.. يامن دل على ذاته بذاته وتنزه عن مجانسة مخلوقات…
    سلمت يداك وطرحك العلمي
    أستاذ حسن 👏


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *