هل حبُّ السفر مسألة جينية، طبيعة، فطرة، عدوى، أم ماذا؟ لماذا أعشق السفر، وأختي التي تربينا سويًا في نفس البيت لا تحبه؟ أبي وأمي يحبان السفر. أمي وهي في الثمانين من عمرها لا تُمانع أن تسافر عدة مرات في السنة، وأبي جاب العالم وهو مدرب حرَّاس المنتخب، وكنت ألحظ سعادته حين يسافر.
بالمقابل، ولدي الذي كان يسافر معي حتى بلغ الخامسـة عشرة، ثم أعلن بالفم الملآن أنه لن يسافر معي أبدًا للسياحة بعد اليوم، لا يحب السفر، بالرغم من أن والديه يعشقانه.
والسؤال هو: لماذا نحب السفر؟ لماذا نترك بيوتنا التي نحب والتي وضعنا فيها كل ما يجلب الراحة ويجعلنا سعداء مطمئنين كي نجرب قطعة من العذاب، ونفعل ذلك بشكل متكرر وكأنه قدر لا نستطيع الهرب منه؟
هيلين كيلر تقول إن الحياة مغامرة كبرى أو لا شيء على الإطلاق، ربَّما لذلك نسافر، كي نشعر أننا أحياء. إنها مغامرة محسوبة إلى حد ما، حيث لا نغامر بكل شيء. لكن نغامر، نجرب أرضًا جديدة، نرى ناسًا جددًا، نستمع إلى أشياء مختلفة، نتجدد، نغامر، التعامل مع الآخر الذي لا نعرفه مغامرة، نكسب منها ماذا، الشعور بالحياة؛ لأنه كما تقول كيلر، المقابل أن نشعر بالموت، أو الطمأنينة بمعنى مرادف.
أو ربَّما نسافر؛ لأننا نريد أن نتعرّف على أنفسنا كما يقول الروائي ديفيد ميتشل، إذا سافرت بعيدًا بما يكفي فستقابل نفسك.
أولئك الذين لا يعرفون أنفسهم، ربَّما السفر بعيدًا عن كل شيء، عن كل ما يعرفون ويألفون، عن الروتين الذي تسير به حياتهم، عن الوجوه التي يتحدثون معها يوميًا ويعرفون كيف هي ردود أفعالهم تجاه ما نتفوّه به، أو ربَّما نعرف ردود أفعالنا تجاه ما يتفوهون به. في مكاننا، كل شيء متوقع، لكن إذا سافرنا، فنحن لا نعرف كيف ستكون ردود أفعالنا تجاه أمور لم نصادفها من قبل. نحن في المجهول، نقابل المجهول الذي لم نتعرف عليه من قبل، أنفسنا.
أجمل ما في العالم، هو العالم نفسه، هذه مقولة الشاعر الأمريكي والاس ستيفنس. والذين يسافرون دائمًا يعرفون ذلك تمامًا، ربَّما ذلك ما يجعلنا نعشق السفر. إننا لا نريد أن نفقد الدهشة، الشعور بالدهشة إدمان، يعرفه المدمنون عليه. أن نظل في هذا العالم أطفالًا نرى الأشياء طازجة وجديدة. وإذا كنا تعوَّدنا العالم الذي نعيش فيه، فعلينا أن نذهب بعيدًا؛ كي نرى عالمًا جديدًا، طازجًا، ونُدهش.
من الأشياء المهمة التي يُعلِّمك إيَّاها السفر، التواضع، هذا رأي جوستاف فلوبير، الذي يرى أنك تتعلم التواضع من السفر؛ لأنك ترى كم هي ضئيلة المساحة التي تحتلها في الكون. المساحة، الأفكار، العادات، كل شيء، كل شيء مختلف، يمنحك ذلك نظرة جديدة للأمور، ليس فقط في كيف يتناول الناس طعامهم سواء بالشوكة أو الأعواد أو باليد، لكنك تتعلم ألا تنظر إلى عيون الناس؛ لأنها تُعتبر وقاحة في اليابان. الطريقة التي ترتدي بها النساء ثيابهن، ليست دليلًا على الأخلاق، هذا أيضًا تتعلمه. ليس فقط إذا ذهبت إلى الغرب، لكن في قرى إفريقيا كذلك.
الكون فسيح، الكون واسع، عليك فقط أن تشاهده بعيون مفتوحة ومتسـامحة؛ لكي تتعلم منه. وإذا واجهته بغير ذلك، فوحدَك من سيدفع الثمـن، وستعود من رحلتـك أفقر مما ذهبت ماديًا ومعنويًا.
هذا بالضبط ما قاله بروست، رحلة الاكتشاف الحقيقية لا تتطلب فقط الذهاب إلى أرض جديدة، ولكن أن تمتلك عيونًا جديدة.
أشهر رحَّالة عرفه العرب، ابن بطوطة، يقول إن السفر يجعلك عاجزًا عن الكلام، ثم يحوِّلك إلى راوية. هذه المقولة قرأتها بالإنجليزية، ومن ثَمَّ، ترجمتها. أتخيّل أن العبارة في أصلها العربي مختلفة، لكن لم أعثر عليهـا. في كل الأحوال المقولة مذهلة لشخص مثلي يعشق السفر، ويعتبر نفسه روائيًا. لم أكتب قصصًا عن رحلاتي، لكن الخبرات التي يعيشها الإنسان مع كل رحلة لا بدَّ أنها تُثري خياله وإنسانيته، وتجعله أقدر على فهم البشر والحياة، أو على الأقل تجعله أبرع في ذلك ممن لم يغادر أبدًا مكانه.
السير ريتشارد برتون يقول إن أسعد لحظات الإنسان هي اللحظة التي يغادر فيها إلى أرض مجهولة. لا أعرف لماذا قال السير برتون ذلك، ولا أعرف إذا كنت أتفق معه. لكنني أعرف مقدار السعادة التي أشعر بها حين أقرر فجأة أن الوقت قد حان لتجربة بلد جديدة. وأعتقد أن التجارب دائمًا جيدة، حتى لو كانت سيئة. في السفر كسبت أصدقاء، وخسرت أصدقاء. لكن، مما لا شك فيه، أنني كسبت خبرات لا مثيل لها. السفر هو الإدمان الذي أرجو ألا أُشفى منه أبدًا.
اترك تعليقاً