مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2025

الربيع


مهى قمر الدين

الربيع قُل “الربيع”، فتعصف في الذهن صورة الأرض الخضراء المزهرة، والنسيم العليل. ولكن الربيع أكثر من ذلك. فهو “شباب الزمان”، كما قال عنه أحمد أمين.

وهو احتفال وتذكير بهيج بأن الحياة دورية ومتجددة باستمرار. كما أن جماله لا ينحصر فقط في الطبيعة المذهلة أو الأصوات المبهجة، ولكن أيضًا في الشعور العميق بالأمل. فعندما نشهد صحوة الطبيعة كل عام، نتذكر أنه بعد كل شتاء يأتي الربيع، وأن بعد كل ظلام هناك ضوء، وأن بعد كل ضيق لا بدَّ من أن يأتي الفرج. ولهذا الفصل من السنة أصداؤه الخاصة، تتردّد بعمق في كثير من الثقافات حول العالم، ولا سيَّما أنه يعكس في جوهره التجدد والبعث والأمل والبدايات الجديدة، فيُترجم مهرجانات وطقوسًا تُنظَّم للاحتفال به وبعودة الحياة إلى الطبيعة بعد قسوة الشتاء البارد.

في هذا الملف، تجمع مهى قمر الدين أبرز أصداء الربيع انطلاقًا من المنظورين العلمي والأسطوري، وصولًا إلى بُعده البيئي وما له من آثار عميقة في النفس، جعلته مصدر إلهام لعدد لا يُحصى من الأعمال الأدبية والفنية والموسيقية عبر التاريخ وفي مختلف الثقافات حول العالم.

 لكل فصل من فصول السنة الأربعة سحره الفريد، الذي يرسم العالم بألوانه الخاصة ويُثير مجموعة مختلفة من المشاعر. ومع ذلك، يبرز الربيع بوصفه الأجمل من بين الفصول كلها. فمع بدء تراجع قبضة الشتاء الباردة، يستيقظ العالم من سُباته، معلنًا وصول موسم غني بالألوان والأصوات والحياة، يدعونا إلى الوقوف أمام ولادة الأرض من جديد. هو الوقت الذي تزدهر فيه الطبيعة، فيشهد العالم نسيجًا نابضًا بالحياة، مُحاكًا بخيوط التجديد واليقظة والتحوُّل.

يظهر الربيع مثل همسة رقيقة، مثل رداء من الخضار والألوان والأزهار يُغلِّف الطبيعة بأبهى حُلّة، وفيه يعبق الهواء بروائح زكية، وتحيا الأجواء بسمفونية من الأصوات والتغريدات الجميلة. فيه تنبعث روح الأمل والبدايات الجديدة والاستكشاف والمغامرة والتفاؤل، فتعمل الألوان النابضة بالحياة للأزهار المتفتحة، وأصوات الطيور المغردة، ودفء الشمس، بوصفها تذكيرات بأن الحياة مليئة بالإمكانات. كما يُشجِّع الطقس اللطيف الناس على الخروج والتفاعل مع محيطهم الطبيعي، فيتردّد صدى ذلك في شعورهم بالنشاط والحيوية والاندفاع لملاحقة كل ما يتعلق بالشغف والأحلام بقوة متجددة. حتى إن مفهوم “حمى الربيع” يبدو أمرًا حقيقيًا (وجيدًا)! إذ يعتقد العلماء أن الأيام الطوال تجعل الناس أنشط وأسعد وأكثر إبداعًا.

ولادة الربيع
من الأساطير إلى العلم

قبل فهمنا العلمي لماهية الربيع، كان لهذا الفصل من السنة أصوله الأسطورية في الوثنيات التي سادت الحضارات القديمة، من اليونانية والرومانية إلى بلاد ما بين النهرين، والتي غالبًا ما ربطت الربيع بموضوعات إعادة الميلاد والخصوبة والتجديد، التي يُجسّدها مجموعة من الأبطال الأسطوريين الذين يرمزون إلى عودة الحياة بعد خمول الشتاء.

بيرسيفوني وديميتر، وسيبيل وأتيس، وعشتار، وأسماء كثيرة غيرها، حاكت حولها مخيلات الشعوب أساطير فيها حبٌّ وموت، وغالبًا العودة إلى الحياة، ودائمًا ما تكون هذه العودة خلال فصل الربيع.

متى وكيف يولد الربيع؟

بعد ما قدَّمته وجهات النظر الأسطورية من سرديات غنية تشرح أهمية ولادة الربيع عبر الثقافات المختلفة، فهمت الحضارات الأحدث حقيقة الربيع وولادته، بالنظر إلى مجموعة من الأحداث الفلكية والعمليات البيئية المُعقدة.

تُشكِّل الفصول الأربعة قوة فعّالة في حياتنا، فهي تؤثر في الأنشطة التي نمارسها، والأطعمة التي نتناولها، والملابس التي نرتديها؛ وفي كثير من الأحيان، على الحالة المزاجية التي نكون عليها. ولكن من الناحية العلمية، ما الذي يسبب تغيُّر الفصول؟

كانت القدرة على التنبؤ بالفصول، من خلال تتبع مواقع شروق الشمس وغروبها على مدار العام، مفتاحًا للبقاء في العصور القديمة. فقد طوَّر البابليون وشعوب المايا، وغيرهما من الثقافات، أنظمة معقدة لمراقبة التحوّلات الموسمية. ولكن الأمر تطلب قرونًا لاحقة ليكتشف العلم الحقائق الكامنة وراء تغيُّر الفصول. فكان نيكولاي كوبرنيكوس (1473م – 1543م) هو من غيَّر فهمنا لعِلم الفلك بشكل جذري، عندما اقترح أن الشمس وليست الأرض، هي مركز النظام الشمسي. وقد أدى ذلك إلى فهمنا الحديث للعلاقة بين الشمس والأرض، فبدأنا ندرك التفسيرات الفلكية لتغيُّر الفصول.

فيما يتعلق بالأساس الفلكي، يُشكِّل مَيل محور الأرض بمقدار 23.5 درجة تقريبًا، أمرًا بالغ الأهمية في تحديد الفصول. ونظرًا لدوران الأرض حول الشمس في مسار بيضاوي، فإن مناطق مختلفة تتلقى كميات متفاوتة من ضوء الشمس على مدار العام. وأثناء الاعتدال الربيعي، يكون مَيل الأرض بحيث تضرب أشعة الشمس خط الاستواء مباشرة، وهو ما يؤدي إلى إضاءة متساوية لنصفي الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي. فينتج عن تلك المحاذاة تساوي الليل والنهار تقريبًا (حوالي 12 ساعة لكل منهما) في معظم أنحاء العالم.

ولا يُشير الاعتدال الربيعي إلى تحوُّل في ضوء النهار فحسب، بل يُشير أيضًا إلى تغيُّر في توزيع الطاقة الشمسية، فيؤثر في أنماط الطقس والعمليات البيئية. وعلى العكس من ذلك، في نصف الكرة الجنوبي، يبدأ الربيع بالاعتدال الخريفي حوالي 22 أو 23 سبتمبر، وهو ما يؤدي إلى تقصير الأيام بالاقتراب من فصل الخريف.

بيئيًا.. انتعاش الحياة النباتية
والتنوع البيولوجي وتغيُّر سلوكيات الحيوانات

عند تناول الأبعاد البيئية والطبيعية لفصل الربيع، يجب لفت النظر إلى أن كل ما سيأتي لاحقًا ينطبق على النصف الشمالي من الكرة الأرضية. لأنه بينما يكون هذا النصف متجهًا إلى الدفء بعد البرد، يكون النصف الجنوبي متجهًا من الدفء إلى البرد. وإضافة إلى ذلك، ليس كل النصف الشمالي من الكرة الأرضية يشهد أمطارًا وانتعاشًا في الحياة الفطرية. ففي بعض المناطق المدارية الشمالية، مثل جنوب شرق آسيا، يمثّل الربيع، وبخاصة أيامه الأخيرة، فصلًا جافًا ومتعبًا على نحوٍ خاص؛ لأن جفافه يكون استمرارًا لجفاف بدأ في خريف العام السابق، واستمر طوال فصل الشتاء، فينتشر اليباس في أعشاب الغابات، وتنحسر الزراعات عن الحقول باستثناء البعلية منها. ولا يشهد الربيع أمطارًا إلا في أواخر أيامه في شهر يونيو، وهو الموعد السنوي مع الأمطار الموسمية. ولكن، لنعد إلى بلادنا وغيرها من البلدان التي تعرف ربيعًا مشابهًا لربيعنا، وهي ليست قليلة.

على المستوى البيئي، أول ما يظهر من ملامح الربيع عندنا هو انتعاش الحياة النباتية الذي يُعدُّ أحد أكثر التأثيرات وضوحًا لهذا الفصل. فالأشجار والنباتات التي كانت خاملة خلال فصل الشتاء تبدأ في إنبات أوراق وأزهار جديدة، فتظهر البراعم على أغصان الأشجار العارية، وتكشف عن أوراق رقيقة تتلألأ بظلال من اللون الأخضر. وتخترق الأزهار الأولى التربة حتى وإن كانت مغطاة بالصقيع، فتنبت زهرة الثلج والزعفران مثل نذير شجاع للربيع. أمَّا ألوانها النابضة بالحياة (الأبيض والأرجواني والأصفر)، فتنتشر في رحاب الطبيعة، وتتناقض بشكل جميل مع بقايا اللون الرمادي الشتائي.

توفر هذه الأنواع المزهرة المبكرة رحيقًا أساسًا للملقّحات مثل النحل والفراشات، التي تظهر مع ارتفاع درجات الحرارة. ومع تقدم شهر مارس إلى أبريل، تتفتح أزهار أخرى مثل النرجس بأزهارها الصفراء المشمسة، تليها زهور التوليب التي تضيف بقعًا من اللون الأحمر والوردي إلى الحدائق والمتنزهات.

ظاهرة أخرى لفصل الربيع هي التنوُّع البيولوجي. إذ تتعزَّز مجموعة متنوعة من مظاهر الحياة البرية بفعل ازدياد مصادر الغذاء المتاحة والنباتات المزهرة. فتعود الطيور المهاجرة من مواطنها الشتوية، بينما تهاجر البرمائيات مثل الضفادع والعلاجيم إلى البرك للتكاثر. ويؤدي هذا النشاط الموسمي إلى زيادة كبيرة في أعداد الحيوانات التي يمكن ملاحظتها من خلال سلوكيات معيّنة مثل “جوقة الفجر” للطيور المغردة. ويُسلِّط الترابط المتبادل بين النباتات المزهرة والملقّحات الضوء على العلاقات المُعقدة داخل النظم البيئية؛ لأن توقيت الأحداث البيولوجية أمر بالغ الأهمية للبقاء.

من ناحية أخرى، تُظهر الحيوانات تغيّرات سلوكية مختلفة في الربيع أثناء استعدادها للتكاثر. فعلى سبيل المثال، تخصّص عديد من الطيور مناطق محددة لتقطن فيها، وتبحث عن شركاء للتزاوج، بينما تخرج الثدييات مثل الدببة من السبات. فيضمن هذا التزامن مع التغيرات الموسمية ولادة النسل الجديد خلال فترات توفّر الغذاء. ويُعدُّ توقيت هذه الأنشطة الإنجابية أمرًا حيويًا؛ إذ يمكن أن يؤدي عدم التوافق بين توقيت تربية الحيوانات وتوافر الغذاء إلى انخفاض معدلات البقاء للحيوانات الصغيرة. وعلى الرغم من أن الطيور الصغيرة تولد وهي قادرة على الغناء، فإنها لا تتعلم الغناء عادةً إلا عندما تسمع طيورًا أخرى تُغرّد أثناء البحث عن شريك لها في فصل الربيع.

وبفعل كل هذه الحيوية البيولوجية، كان من الطبيعي أن يصبح الربيع مصدرًا لرموز عديدة منها ما له علاقة بصحوة الطبيعة، ومنها ما يرتبط بالعناصر الطبيعية نفسها، ولكنها جميعها تُبشّر بالتفاؤل والفرح والمشاعر الإيجابية.

حقائق مثيرة عن الاعتدال الربيعي
• الاعتدال الربيعي هو إحدى مناسبتين سنويتين (المناسبة الأخرى هي الاعتدال الخريفي)، حيث تطلع الشمس من الشرق الجغرافي تمامًا، وتغيب في الغرب المحدد بدقة.
• إذا وقف المرء على خط الاستواء أثناء الاعتدال الربيعي أو الخريفي، فسيرى الشمس تمر مباشرة فوق رأسه.
•  في القطب الشمالي، يُشير الاعتدال الربيعي إلى بداية ستة أشهر من ضوء النهار المتواصل. أمَّا في القطب الجنوبي، فيُشير الاعتدال الربيعي إلى بداية ستة أشهر من الظلام.
•  على الرغم من أن الاعتدال الربيعي لا يحدث عادةً قبل 20 أو 21 مارس، فإن بعض الأمريكيين يعدُّون الأول من مارس هو البداية غير الرسمية للربيع.
• في اليابان، يعتقد الناس أن الربيع يبدأ بمجرد أن تبدأ زهرة الكرز الوطنية في التفتح.
•  منذ سنوات، ترسَّخ اعتقاد شعبي أنه بالإمكان موازنة بيضة على رأسها أثناء الاعتدال الربيعي. ومع ذلك، فهي مجرد أسطورة.

مقالات ذات صلة

إذا ما أخذنا درسًا من أسلافنا، فلا ينبغي لنا أن نعدَّ قدوم الربيع أمرًا حتميًا، بل ربَّما علينا إعادة النظر في أفعالنا التي تؤثر في التغيُّر المناخي، وتعطِّل إيقاع المواسم والتناوب الطبيعي للفصول، وذلك لتجنب وقوع ظاهرتين اثنتين باتتا من معالم فصل الربيع في مواقع عديدة من العالم. منذ مدة ليست ببعيدة برز مفهومان حديثان […]

يقول الفيلسوف الأمريكي، رالف والدو إيمرسون، إن “الأرض تضحك في الزهور”. وبالفعل فإن أكثر ما تظهر هذه الضحكة من خلال الزهور المتفتحة في الربيع. ولذلك نجد أن الزهور هي الرموز الأكثر تمثيلًا لهذا الفصل الواعد. فلكل زهرة رمزيتها الفريدة في كل ثقافة على حِدة، وهو ما يُسهم في السَّرد العام للتجدّد في فصل الربيع.  تشمل […]

للربيع وقع على نفوس البشر يجعلهم ينشرون الفرح والإيجابية في محيطهم. فمنذ آلاف السنين، تطلعت شعوب عديدة إلى فصل الربيع لتختار يومًا من أيامه ليكون “عيدًا”، أو مناسبة للاحتفال بكذا أو كذا. ومن هذه “الأعياد” ما كان على أساس ديني وثني، ومنها ما هو ذو جانب فلكي أو تاريخي أو أسطوري. فلماذا وكيف يرتبط الربيع […]


0 تعليقات على “الربيع”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *