عدد مارس-أبريل 1972م (شوال 1392هـ)
على بعد عشرين كيلو مترًا إلى الشمال الغربي من حي البطحاء في قلب الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، تقع مدينة سجل لها التاريخ صفحات رائعة. فمنها جلجلت صيحة الحق، وفي أرضها نَمَت وترعرعت بذور توحيد الجزيرة العربية، بعد أن كانت نهبًا للمحن والأهواء، ومسرحًا لعواصف الجهل والضلال، إلى أن قيَّض الله رجالًا انطلقوا من هذه المدينة ليبددوا ظلام الجهل، ويعيدوا إلى الدين الإسلامي الحنيف تعاليمه الصحيحة… تلك هي مدينة الدرعية.

ما إن هبطت بنا الطائرة في مطار الرياض حتى استقبلتنا نسائم صبا نجد الباردة المنعشة، المضمخة بشذى الخزامى والأقحوان، تبعث فينا النشاط، فالوقت ربيع مشرق. ولما أعربنا عن رغبتنا في زيارة مدينة الدرعية، قال لنا سائق السيارة: “إذن أنتم إما أن تكونوا طلاب متعة أو عشاق آثار”. ولما استزدناه إيضاحًا، قال: “الدرعية بلد يجد فيه الزائر بساتين النخيل الوارفة الظلال، والهواء العليل، والماء النمير، وما لذ وطاب من الثمار، وفيها يجد الزائر من ناحية أخرى الأطلال التي تقف شاهدًا على ما بلغته هذه المدينة من رفعة وازدهار”. عندها قلنا له: “نحن طلاب الأمرين معًا”. وسلك بنا السائق “شارع الدرعية” ذا الاتجاهين، وهو من أجمل شوارع الرياض، ويفضي إلى طريق معبّد يخترق هضبة نجد الشمالية مارًا بمدن وقرى عديدة منها صلبوخ وبنْبان والمجمعة والزلفي إلى أن ينتهي بمدينة بريدة. وما هي إلا دقائق معدودة حتى لمحنا لوحة على يمين الطريق كتب عليها “إلى الدرعية”، فانحرفت بنا السيارة إلى اليسار على طريق فرعي وأخذت تنحدر تدريجيًا حتى وجدنا أنفسنا في قلب الدرعية في أقل من خمس دقائق.
واسطة العقد في وادي حنيفة
يُعتبر وادي حنيفة، الذي يحتضن الدرعية بين ضفتيه، من أهم أودية جزيرة العرب وأخصبها. وقد كان في الماضي من أكثر الأودية سكانًا وعمرانًا. تنتشر فيه القرى والمزارع كالعقد المنظوم، وتكاد تكون الدرعية التي نحن بصددها واسطة هذا العقد. وكان هذا الوادي يُعرف قديمًا بوادي “العِرْض” أو عِرْض بني حنيفة، شأن كل وادٍ فيه قرى ومياه يطلق عليه العربُ مثل هذا الاسم. وقد استوطنت هذا الوادي قبيلة حنيفة، وهي من أقوى القبائل العربية شوكة وأبعدها صيتًا وأكثرها عددًا، اتخذت من جبل العارِض (طُوَيْق) حصنًا منيعًا يقيها غارات القبائل الأخرى. فهذا شاعرهم موسى بن جابرَ الحنفي يدلل على ما بلغه قومه من شجاعة وقوَّة ومحافظة على الديار، فيقول:
وجدنا أبانا كان حَلَّ ببلدة … سُوى بين قَيْسٍ قيسِ عيْلان والفِزْر
فما نأت عنّا العشيرةُ كُلها … أقمنا وحالفنا السيوفَ على الدهر
فما اسْلمتْنا بعدُ في يومِ وقفةٍ … ولا نحن أغمدنا السيوفَ على وتْر
تتدفق مياه وادي حنيفة من مرتفعات جبال “الخُمْرة” في سلسلة جبال طويق، وينحدر مجراه نحو الجهة الجنوبية الشرقية إلى أن يفيض في روضة السهباء القريبة من “حرض” في أسفل منطقة الخرج، حيث يقوم مشروع الفيصل النموذجي لتوطين البادية. ويقال إن هذا الوادي كان يصب قديمًا في الخليج العربي، إلا أن الجفاف ورمال الدهناء المتحركة حالت مع الزمن دون ذلك. وعندما تهطل الأمطار، تجتاحه سيول عارمة يصل ارتفاعها في بعض السنين إلى عشرة أمتار، فتقتلع الأشجار وتقوض المنازل وتتلف المزروعات. ولهذا الوادي الممرع روافد عديدة تغذيه بالمياه وتلقي فيه ما تجرفه في طريقها من طمي، لذا كان من أخصب البقاع وأعمرها في قلب الجزيرة العربية. فهذا الأعشى ميمون بن قيس بن جندل من بلدة منفوحة بإحدى قرى الوادي يقول:
ألم ترَ أن العِرْض أصبح بطنه … نخيلًا وزرعًا نابتًا، وفُصافِصا
وذا شُرفاتٍ يقصِرُ الطيرُ دونه … ترى للحمامِ الورق فيه قرامِصا1
وهذا يحيى بن طالب الحنفي، شاعرٌ آخر أنجبه هذا الوادي، شاءت الظروف أن تبعده عن الرياضِ الغناء وملاعِبِ الصبا، فيحنُّ إليها حنين المدنف إلى هواه فيقول:
يهيج عليَّ الشوق من كان مصعدًا … ويرتاحُ قلبي أن تهب جنوبُ
فيا ربُّ سلِّ الهم عنِّي فإنني … مع الهم محزونُ الفؤادِ غريبُ
ولست أرى عيشًا يطيبُ مع النوى … ولكنَّه بالعِرْضِ كان يطيبُ
وإذا كان وادي العِرْضِ قد طَبقت شهرته الآفاق فيما مضى، وتغنى به فحول الشعراءٍ أمثال الأعشى، وذو الرمَّة، والفرزدقِ وغيرهم، نجده اليوم بفضل المشاريع الحيوية من إقامة سدودٍ إلى حفرِ آبارٍ عميقة يعودُ أشدّ مما كان عليه حركة وعمرانًا وازدهارًا. وهي مظاهرُ من التقدُّم السريع الذي يجتاح الوادي من أعلاه إلى أسفله، وتنعكس في آثار ابن الدرعية الشاعر المبدع والباحِث المدقِّقُ الشيخ عبدالله بن خميس.
تسميتها وظهورها

لا شك في أن الطبيعة قد أغدقت على موقع الدرعية بسخاء، فمن وادٍ فسيح تنتشر على شفيريه المرابع الخضر والمزارع اليانعة تتخللها ربوات صخرية تطل على الوادي ببساتينه الممرعة وقراه المتصلة ومياهه الموسمية المتدفقة، الى هضاب مستوية تحف بالوادي لا تفتاً أن تلبس حلة سندسية إذا ما جادها الغيث فتأخذ زُخرفها من أزهار الأُقحوان والشيح والقيصوم، وفيها تسرح الانعام وتمرح. فلا غرو إذن أن تجتذب هذه البقعة الخصبة الكثيرين يعمرونها وينعمون بخيراتها، سيما وأن ربوعها غنية بالماء والخضراء، ويصور الشاعر عبد الله بن خميس ذاك البهاء أجمل تصوير عندما يقول:
سقتها الغوادي كم بِها من مرابعٍ … يعطر أنفاس النعامى عبيرُها
من الشيحِ والقيصوم والبان نشرها … وما حاكه ودَق السماء غميرُها
إذا داعبتها السحب أو جسها الصِّبا … تأرج مغناها وراق غديرها
تعيث بحباتِ القلوب ظِباؤُها … وتفعلُ ما لا يفعل السحرُ حُورُها
ويصف أحد الشعراء الشعبيين القدامى موقع الدرعية الجميل بقوله:
يا ديرة بالعرض ماها قَراح … يا ما بها من مدمج الساق ميَّاح
قِبْليها (خاشِر) وذيك الليَّاح … وشرْقيِّها بالوصف (رجم ابن طِلْفاح)2
وعن نشوء الدرعية يحدثنا بعض من أرخوا لنجد وسجَلوا أحداثها في القرون الأربعةِ الأخيرة، أمثالُ الشيخ محمد بن عمر الفاخري، والشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى، والشيخ عثمان بن بشر وغيرهم: “في عام ٨٥٠ ه قدم مانع بن ربيعة المريدي، الجد الثاني عشر للمغفور له الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، من بلدته القديمة المعروفة بالدرعية، من نواحي القطيف، ومعه ولده ربيعة، على “ابن درع”، رئيس الدروع أهل وادي حنيفة وصاحب حَجْر والجِزْعة (الرياض الآن)، وكانت بينهم صلة قرابة، لأن كلا منهما ينتسب الى حنيفة، فأعطاه “ابن درع” الملَيْبيد وغُصَيْبة، القريتين الواقعتين في أعلى الدرعية، فعمر ذلك المكان هو وذريته، وأطلق عليه اسم “الدرعية”، تيمنا باسم بلدته القديمة التي تقع على بعد نحو ثلاثين كيلو مترًا إلى الجنوب الغربي من بقيق، إحدى مناطق العمل الرئيسية التابعة لشركة أرامكو، وقد كان فيها شجيراتُ نخيلٍ وبئرُ ماءٍ يرتادها البدو القاطنون في تلك الناحية”.
أما الشاعر المؤرخ محمد الفهد العيسى، فيرى أن بلدة الدرعية ترجع إلى عهود أقدم بكثير منذ ذلك. فبعد التحليل المقارن والدراسة العميقة، تبين أن بلدة الدرعية كان يُطلق عليها قديمًا اسم “غَبْراء”، التي عُرفت فيما بعد باسم “العودة”، ثم “عودة الدرعية” ثم “الدرعية”. و”الغبراء” تُعرف اليوم باسم “غُبَيْراء” بالتصغير، وهي شعب يرفد وادي حنيفة على بُعد حوالي ثلاثة كيلو مترات إلى الجنوب الغربي من قلب الدرعية الحديثة.
وجاء في “معجم البلدان”، لياقوت الحموي: أن “الغبراء” هي الأرض الحمراء، وهي أيضًا من قرى اليمامة بها بنو الحارثة ابن مسلمة بن عبيد، ولم تدخل في صلح خالد بن الوليد، رضي الله عنه أيام مسيلمة الكذاب.
وقال أبو محمد الأسود: الغبراءُ أرضٌ لبني امرئ القيس من أرضِ اليمامة، واستشهد بقول قيسِ بن يزيد السعدي:
ألا أبلغ بني الحران إن قد حويتم … بغبراء نهبًا فيه صماء مؤيد
ألم يك بالسكن الذي صفت ضلة … وفي الحي عنهم بالزعيقاء مقعد
ولا يُستبعد أبدًا أن تكون الدرعية من قرى وادي حنيفة الدارسة خلافًا لاسمها المستحدث، بدليل أن هذه المنطقة بالذات كانت في عصور ما قبل الإسلام، تزهو بقصورها وحصونها، كذات النُّسوع وبتيل حَجْر3، وشَموس، ومُعْتِق (وفي بعض الروايات مُعْنِق). وفي ذلك يقول الشاعر:
أبت شرفات من شموس ومعنق … لدى القصر منا أن تضام وتضْهَدا
فذلكة تاريخية

لا بد لنا ونحن نستعرض تاريخ مدينة الدرعية والأحداث التي مرَّت بها من أن نعود إلى عهود سحيقة لنلم بالأقوام التي قطنت في هذه المنطقة، والتي عُرفت منذ القدم باسم “اليمامة”، نسبةً إلى اليمامة بنت سهم بن طسم، المشهورة بـ “زرقاء اليمامة”، لزرقة عينيها، وكانت على درجة كبيرة من حدة البصر حتى غدت مضرب المثل. ويشمل إقليم اليمامة في الوقت الحاضر العارِض، وسدير، والمِحْمَل، والشَّعيب، والوشم، والخرج، والحوطة، والحريق، والأفلاج. وكان هذا الإقليم يضيق ويتسع تبعًا لمقتضيات إدارية تفرضها الدول المتعاقبة.
تشير المصادر التاريخية إلى أن قبيلتي طسم وجديس، وهما من القبائل العربية البائدة، عاشتا متجاورتين على ضفاف وادي العِرْض ووادي الوُتْر4 من إقليم اليمامة. وكانت السيادة لطسم التي اشتهر عنها أنها أمة متحضرة فجرت العيون وشيدت الحصون والقصور. وتورد تلك المصادر، على علاتها، عن سبب فناء تينك القبيلتين شيئًا هو أقرب إلى الأساطير منه إلى الحقائق التاريخية المجردة. فقد آل حكم طسم إلى الملك “عمليق”، الذي فرض سيطرته على جديس، ثم طغى وتجبر، وبلغ به التمادي في الظلم والطغيان أن أمر ألا تُزَف بكر من جديس إلى بعلها حتى تدخل عليه. فكان أن أخذت الأسود بن غفار، سيد جديس، الحمية إثر زواج أخته غفيرة، التي حملت إلى “عمليق” ليلة عرسها فافترعها، وخرجت من عنده شاقة ثوبها وهي ترتجز:
لا أحد أذلُ من جديس … أهكذا يفعل بالعروس؟
ثم مضت تحرض قومها على عمليق فتقول:
أيَجمل تمشي في الدماء فتاتكم … صبيحة زُفَّت في العشاء إلى بعل
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه … فكونوا نساءً لا تغِبُّ من الكحل
فلو أننا كنا رجالًا وكنتم … نساءً لكنا لا نُقر على الذل
فموتوا كرامًا أو أميتوا عدوكم … بحرب تُلظَّى كالضرام من الجزل
ولما كان أهل جديس أضعف من أهل طسم، وأقل عددًا، عمد زعيمهم إلى الحيلة بأن صنع طعامًا دعا إليه “عمليق” وحاشيته بعد أن أمر رجاله بأن يدفنوا سيوفهم في الرمال مشهورة فلما التأم شمل “عمليق” حول الوليمة، وثب “الأسود بن غفار” عليه فقتله، ثم أعمل رجاله السيوف في رقاب رجال “طسم” حتى أبادوهم، إلا واحدًا منهم فرَّ إلى “حسان بن أسعد أبي كرب”، أحد ملوك اليمن، واستنجد به، فاغتنمها هذا فرصة سانحة لبسط نفوذه على هذا الإقليم. ورغم أن “زرقاء اليمامة” أنذرت قومها بقدوم تُبَّع اليمن، إلا أنهم كذَّبوها، فصبحهم حسان وقضى على طسم وجديس قضاءً مبرمًا، وخرَّب بلادهم وهدم قصورهم وحصونهم في بداية القرن الخامس الميلادي، كما تثبت الكتابات الحميرية التي عثر عليها “عبدالله فيلبي” في جبل “ماسل الجمح” في العِرْض، وفي شرح وقائع هذه القصة يقول “أعشى قيس” في قصيدة طويلة مطلعها:
بانت سعاد وأمسى حبلها اِنقطعا … واحتلت الغَمْر فالجدَّين فالفَرَعا
إلى أن يقول:
كوني كَمِثلِ الَّتي إِذ غابَ وافِدُها … أَهدَت لَهُ مِن بَعيدٍ نَظرَةً جَزَعا
وَقَلَّبَت مُقلَةً لَيسَت بِمُقرِفَةٍ … إِنسانَ عَينِ وَمُؤقاً لَم يَكُن قَمعا
قالَت أَرى رَجُلاً في كَفِّهِ كَتِفٌ … أَو يَخصِفُ النَعلَ لَهفي أَيَّةً صَنَعا
فَكَذَّبوها بِما قالَت فَصَبَّحَهُم … ذو آلِ حَسّانَ يُزجي المَوتَ وَالشِرَعا
فَاِستَنزَلوا أَهلَ جَوٍّ مِن مَساكِنِهِم … وَهَدَّموا شاخِصَ البُنيانِ فَاِتَّضَعا
وعند تفرق القبائل العدنانية على نحو ما هو معروف في كتب التاريخ، خرجت قبيلة عنزة بن أسد بن ربيعة تتبع مواقع القطر يتقدمها “عبد العزى بن عمرو العنزي”، حتى بلغ اليمامة، فرأى بلادًا واسعة ومخيلاً وقصورًا، فطاب له المكان. وفيما بعد، جاء بنو عمومتهم من بني حنيفة بزعامة “عبيد بن ثعلبة بن يربوع الحنفي”، وجاوروهم، ولم يلبثوا أن تغلبوا عليهم، وأصبحت لهم السيادة، وسُمي وادي العِرْض باسمهم حتى الآن. ويرجح بعض المؤرخين أن بني حنيفة استوطنوا هذه المنطقة حوالي القرن الرابع الميلادي، كما نزلتها قبائل عربية أخرى كقبيلة تميم، وقشير، وباهلة، وعقيل، إلى أن ظهر الإسلام. وقد كانت زعامة اليمامة آنذاك لهوذة بن علي السحيمي الحنفي، وهو أول معدِّي لبس التاج وخُوطب بعبارة “أبيت اللعن”. فأرسل إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، سليط بن عمرو العامري يدعوه إلى الإسلام. فألف هوذة5 وفدًا أرسله إلى النبي، فيهم مجَّاعة بن مرارة والرجَّال بن عنفوة، يقول له: “إن جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصره، وإلا قصد حربه”. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “لا ولا كرامة اللهم اكفنيه”، فمات بعد قليل.
ومن الذين يحمل لهم التاريخ ذكرى عطرة “ثمامة بن أثال”6، سيد بني حنيفة الذي تذكر الروايات عنه أنه قصد مكة معتمرًا وأهلها حينذاك مشركون، فوافته خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأسرته، ثم جيء به إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال له: “ما عندك يا ثمامة؟”، قال: “عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكِر”. ولما تكرر من ثمامة هذا الجواب أطلقه النبي، فأعلن اسلامه وذهب إلى مكة معتمرًا، فقال له قائل من قريش: “أصبأت يا ثمامة؟” قال: “لا، ولكن أسلمت مع محمد، صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي، صلى الله عليه وسلم، ولما عاد إلى اليمامة منع أهلها أن يحملوا إلى مكة شيئًا، فكتب أهل مكة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا، قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع”. فكتب إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يعيد المياه إلى مجاريها. واليمامة مشهورة بحنطتها وكانت تحمل إلى الخلفاء ويطلق عليها بيضاء اليمامة. ويفخر أهل اليمامة بقولهم: “غلبنا أهل الأرض شرقها وغربها بخمس خصال: ليس في الدنيا أحسن ألوانًا من نسائنا، ولا أطيب طعامًا من حنطتنا، ولا أشد حلاوة من تمرنا، ولا أطيب مضغة من لحمنا، ولا أعذب من مائنا”.
لما توفي النبي، صلى الله عليه وسلم، انقاد بنو حنيفة لمسيلمة بن حبيب الكذاب، لأن الإسلام لم يتمكن من نفوسهم. وكان مسيلمة قد وفد على النبي، صلى الله عليه وسلم، وادعى النبوة عقب عودته، فقويت شوكته. والجدير بالذكر أن “ثمامة بن أثال” ثبت على إسلامه، وخرج من اليمامة وانضم إلى “العلاء بن الحضرمي” لقتال المرتدين من أهل البحرين. ولما بلغ أبا بكر، رضي الله عنه، ما آلت إليه الأمور في اليمامة، سيَّر لها جيشًا بقيادة “عكرمة بن أبي جهل”، فلم يحالفه الحظ، وكان قد أرسله له أبو بكر مددًا مع “شرحبيل بن حسنة”، فلقي هذا ما لاقاه عكرمة. فما كان من أبي بكر إلا أن أرسل “خالد بن الوليد”، الذي قدم إلى اليمامة في السنة الحادية عشرة للهجرة، بعد أن فرغ من القضاء على “طليحة الأسدي” في معركة “بزاخة”. ولما بلغ خالد بجيشه “ثنية الأحيسي”7 في أعلى الوادي، خرج مسيلمة لبني حنيفة، ونزل في عقرباء، بجوار قرية الجبيلة، على بعد 12 كيلو مترًا إلى الشمال الغربي من الدرعية. وفي عقرباء وقعت معركة “حديقة الموت”، وهي من أعنف المعارك، وقد لجأ إليها مسيلمة، فقُتل فيها، وسُمِّيت بذلك لكثرة من قتل فيها. وقد استشهد في وقعة “عقرباء” مئتا شهيد، منهم زيد بن الخطاب، أخو الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وفي ذلك قال ضرار بن الأزور:
وَلَـوْ سـُئِلَتْ عَنَّـا جَنُوبُ لَأَخْبَرَتْ … عَشـِيَّةَ سـالَتْ عَقْرِبـاءُ وَمُلْهِـمُ
وَسالَ بِفَرْعِ الْوادِ حَتَّى تَرَقْرَقَتْ … حِجارَتُهُ فِيها مِنَ الْقَوْمِ بِالدَّمِ
عَشـِيَّةَ لا تُغْنِي الرِّماحَ مَكانَها … وَلا النَّبْلَ إِلَّا الْمَشْرَفِيُّ الْمُصَمَّمُ
فَـإِنْ تَبْتَغِ الْكُفَّارَ غَيْرَ مُلِيمَةٍ … جَنُـوبُ فَإِنِّي تابِعُ الدِّينِ مُسْلِمُ
أُجاهِـدُ إِذْ كانَ الْجِهادُ غَنِيمَةً … وَلَلَّـهُ بِـالْمَرْءِ الْمُجاهِدِ أَعْلَمُ
وتم أخيرًا الصلح، ورجع خالد بن الوليد من اليمامة بعد أن ولى عليها “سمرة بن عمرو العنبري” من تميم. ثم قدم وفد من بني حنيفة إلى الخليفة أبي بكر، رضي الله عنه، لتقديم الولاء والطاعة، وبذلك انضوت اليمامة تحت لواء الإسلام، تذود عنه بقوة وإيمان، وأبلى أبناؤها بلاءً حسنًا في الفتوحات الإسلامية فيما بعد.
عاصمة ومنطلق دعوة
في حين كانت الجزيرة العربية تغط في سبات عميق وفي حالة يُرثى لها من التدهور والانحطاط، برزت الدرعية في حوالي منتصف القرن الثاني عشر الهجري، لتتبوأ مركزًا مرموقًا وكأنها على موعد مع التاريخ. ففي عام 1139هـ، استقل الإمام “محمد بن سعود بن مقرن بن مرخان” بولاية الدرعية8، ومعها “غصيبة”، واتخذ منها عاصمة لحكمه، فازدهرت بالعمران ونشطت فيها الحركة التجارية. وقد نعمت الدرعية بأسباب العزة والمجد عندما التجأ إليها المصلح الكبير والداعية المجدد الشيخ “محمد بن عبد الوهاب” قادمًا من العيينة، فاستقبله أميرها “محمد بن سعود”، وعاهده على نصرته ومؤازرته ونشر دعوته، التي ترمي إلى العودة إلى الإسلام نقيًا من البدع والترهات والضلالات. ومع أن الدعوة لاقت في بادئ الأمر مناوأة شديدة، إلا أنها لم تلبث أن انتشرت وامتد شعاعها خارج حدود الجزيرة العربية.

والجدير بالذكر أن الدرعية أصبحت آنذاك منارة للعلم والدين، عندما راح الشيخ “محمد بن عبد الوهاب” ينظم حلقات الدرس في المسجد الجامع وفي منزله بحي البجيري، فكثر تلاميذه ومريدوه من أبناء الدرعية والقرى المجاورة وحتى من المناطق الأخرى البعيدة. وبذلك غدت الدرعية أول مركز ثقافي إسلامي، لا في نجد وحدها، بل في شبه جزيرة العرب. كما بلغت شأوًا ملحوظًا في طريق التقدم والازدهار إبان حكم أمراء آل سعود، وعمّها الخير والرفاه.
مثل أعلى في الصمود
إن النجاح الذي حققته الدرعية لم يحظَ برضى الدول المجاورة، بل قابلته بعين السخط والغضب، وخاصة الدولة العثمانية التي رأت في الدرعية درعًا يحول دون تحقيق مطامعها وبسط نفوذها، فأخذت تسعى جاهدة لوقفها عند حدها، وأمرت وُلاتها في كل من البصرة وبغداد ومكة ومصر وسورية لمحاربتها والقضاء عليها. ولعل والي مصر “محمد علي باشا”، أخذ على عاتقه العبء الأكبر لتنفيذ مخططاتها الرامية إلى الإبقاء على نفوذها في قلب الجزيرة العربية. فأوفد أولًا ولده “أحمد طوسون” بجيوش جرارة، ولكن هذا لم يفلح في القضاء على رسالة الحق التي انبثقت من الدرعية. لذلك، ندب ولده الثاني “إبراهيم باشا” لتلك المهمة، وأمده بقوات كبيرة وعتاد ثقيل. فزحف هذا عام 1233هـ حتى وصل إلى مشارف الدرعية، وركز مدافعه حولها، وأخذ يمطرها بوابل القذائف، ويدك حصونها وأبراجها وأسوارها. وصمد أمراء آل سعود في الذود عن عرينهم، واستبسل أهل الدرعية في الدفاع عن مدينتهم، حتى نفدت ذخيرتهم وشحت مؤونتهم، واستسلمت الدرعية بعد كفاح مرير وقتال عنيف. وقام “إبراهيم باشا” بتدمير الدرعية، وتشتيت أهلها، وإحالتها إلى خرائب وأطلال. ويصور الشاعر الشعبي “أبو نهية” ما آلت إليه الدرعية عام 1233هـ أصدق تصوير في قصيدة نبطية طويلة، نقتطف منها الأبيات التالية:
سهرت وكل العالمين هجيع … بتغريد ورق بالغصون سجيع
ناديتهم بالورق بسِّك من الغنا … لعلك تبكي يا حمام فجيع
تبكي وليف لك وتلقى سواتـه … ما نُتب يا حمام سواتي وجيع
بعيد عن الأوطان في دار غربة … أمسي وأصبح ما أشوف ربيع
ما أدري أبكي هم بالي أو ما جرى … أو أبكي دهر لدي خديع
أو أبكي على ربع عفاف وأهل نقا … ذبحوا بليا شافع وشفيع
أبكي معازيبي بمصر تشتتوا … فهد وسعد والعيال جميع
وأبكي العوجا9 ربينا بربعها … صغار كبار نشتري فيها ونبيع
غدت مأوى جن تطارد بسوقها … ما غير جدران كذا وسفيع
ما كن صار فيها للحكم منصى … لا قصر بم الطريف رفيع
ولا شدت الركبان منها لغيرها … ولا بركت فيها الطروش قطيع
ولا أسس فيها للعلم مدارس … ولا مسجد من شمالها وسيع
ولا داج بأسواقها خرد المها … من كل عذراء كالغزال تليع
هي ذي اليوم، بعد نحو قرن ونصف من الزمان، تعود إلى سابق عهدها من ازدهار زراعي وعمراني وعلمي واجتماعي. ولن يطول الوقت حتى تصبح الدرعية جزءًا عزيزًا من الرياض، عاصمة البلاد، التي أخذت يد العمران فيها تمتد إلى الدرعية بشكل سريع. والجدير بالذكر أن مباني جامعة الرياض قد خصصت لها أرض واسعة على بعد أربعة كيلو مترات شرقي الدرعية. كما جرى مسح جميع الأراضي الواقعة بين مدينة الرياض والدرعية، لتصبح في المستقبل القريب بقعة سكنية هادئة جميلة.
جولة في الدرعية وأطلالها

رغم الأرزاء والنكبات التي حلت بالدرعية في عهدها الماضي، نجد أن أهلها يتمتعون بروح عالية من العزم والتصميم. فقد عادوا إليها بعد طول تشتت، وراحوا يبنون ويزرعون حتى عاد للدرعية رونقها وبهاؤها، وبدأت الحياة تدب فيها من جديد.
وتضم الدرعية أحياءً قديمة وجديدة. فمن الأحياء القديمة: الطريف، والبجيري، وبريكة، والمريّـح، وسمحان، والسريحة، ومَلْوي، والطوالع، والظويهرة. ومن الأحياء الجديدة: الظهرة، والروقية. ولعل حي “الظهرة”، الذي يطل على الوادي من الجهة الشمالية، أكثر الأحياء حركةً ونشاطًا، لوجود السوق فيه من ناحية، ووجود مركز التنمية ومركز التدريب والبحوث التطبيقية على ربوة في الجهة الشمالية منه، من ناحية أخرى.
تتبع الدرعية عدة قرى زراعية تقع في الوادي وشِعابه، منها: العِلْب، والعودة، والعمَّارية، وأبا الكْباش، والمغَيْدر، والوَصيل، والملْقى. وفي جولتنا بين أطلال الدرعية، رافقنا أميرها، سعادة الشيخ “محمد بن عبد الرحمن الباهلي”، وهو من الملمين بتاريخ هذه المنطقة وأحداثها الغابرة. وبدأنا جولتنا في حي البجيري المحاذي لمجرى وادي حنيفة من الجهة الشمالية، وفيه شاهدنا المسجد الجامع الحديث، الذي أُقيم على أنقاض مسجد إمام الدعوة الشيخ “محمد بن عبد الوهاب”، الذي بناه على مقربة من بيته. ثم قطعنا الوادي من المكان الذي سيُجرى عليه إنشاء جسر يربط بين البجيري والطريف، سيما وأن السيول العارمة في مواسم الأمطار، التي تحول دون الانتقال من حي إلى آخر. واتجهنا نحو حي “الطريف”، المتاخم للوادي من الجهة الجنوبية، والذي كان فيما مضى مقرًّا لسكنى أمراء آل سعود. ويقوم حي الطريف على مرتفعات صخرية شديدة الانحدار في بعض المواقع، تمتد أمامها بساتين النخيل النضرة في الوادي. وأول ما يصافح أنظار الزائر في هذا الحي، أطلال قصر الإمام “عبد الله بن سعود” بمحلة “سلوى”، ولا تزال جدرانه قائمة رغم عاديات الزمن. ويبلغ سمك الجدار الواحد حوالي متر ونصف المتر، وقد شُيدت أساساته من الحجارة المقصبة المقطوعة من جبال الدرعية إلى علو مترين تقريبًا، أما بقية أجزاء البناء فقد جرى بناؤها من اللبن والطين.
ويقوم في الركن الجنوبي من القصر برجٌ سامق للمراقبة يبلغ ارتفاعه نحو ثلاثين مترًا. ويمتد من القصر طريق مدرّج من الحجارة المطابقة، يُطلق عليه “درب فيصل”، يفضي إلى “الدريشة”، وهي قلعة جاثمة على ربوة عالية تُشرف على الوادي والهضاب المحيطة به. وحول “الدريشة”، منبسط من الأرض يُسمى “كوع الخيل”، كانت تُربط فيه الخيول. ومن هذه القلعة، يستطيع الزائر أن يرى عددًا كبيرًا من الأبراج القائمة على ضفتي الوادي. وعلى مقربة من قصر “سلوى”، يقوم قصر آخر يُدعى قصر “بيت المال”، وهو دائري الشكل ترتفع على أسواره بعض الشناذر (الأبراج). وفي الجهة الغربية من القصر الكبير، يشاهد المرء بقايا مسجد الطريف القديم.
الزراعة في الدرعية

يمتاز وادي حنيفة عامةً بتربة رسوبية صالحة لزراعة أشجار الفاكهة والخضراوات على اختلاف أنواعها، نظرًا لما تلقيه روافده من مواد غرينية تزيد من خصوبته. ومن الأودية والشعاب التي تغذي هذا الوادي بالطمي في منطقة الدرعية: صُغار، وبُليْدة، وشعيب الروم (قرى قصير)، والحَريقة، والخَسيف، والعمَّارية، والملقى. وقد كانت الزراعة السائدة في الوادي في الماضي تقتصر على النخيل والبرسيم والدخن، والقمح والشعير، بيد أن الأهالي سرعان ما أخذوا يتجهون إلى زراعة أشجار الفاكهة والخضراوات والبقول. فمن أشجار الفاكهة التي تكثر زراعتها في منطقة الدرعية: العنب، والرمان، والخوخ، والجوافا، والبشملة (الأكيدينيا)، والتين، والمشمش، والتفاح، والموالح. أما الخضراوات، فقد أصبحت تُزرع على نطاق واسع لرواجها، ومنها: الباذنجان، والملفوف، والقرنبيط، والطماطم، والحبْحُر (الفلفل)، والخس، والملوخية، والباميا، والقرع، والكوسا وغيرها. وتعتمد الزراعة في الري، على الآبار الارتوازية التي تُحفر إلى عمق يتراوح بين 70 و100 متر.
وفي حديث مع المرشد الزراعي “محمد توفيق بدر”، حول النشاط الزراعي في المنطقة، ذكر أن التوسع الزراعي يجري رأسيًا، نظرًا لمحدودية الأراضي الصالحة للزراعة. لذا، يُلجأ إلى تحسين المحاصيل التي تنتجها المنطقة باتباع الطرق الحديثة واستخدام الوسائل الفنية الكفيلة بزيادة الإنتاج. ونظرًا لأهمية هذه المنطقة في ظل التوسع العمراني في الرياض وزيادة السكان بشكل مضطرد، فقد أولتها وزارة الزراعة عناية خاصة، فأنشأت ثلاثة سدود بتكلفة بلغت زهاء عشرة ملايين ريال، بغية المحافظة على منسوب المياه الجوفية. وهذه السدود هي: سد وادي صُغار، وسد غُبيْره، وسد الحَريقة. وتقوم الوزارة حاليًا بمسح كامل لتقدير مخزون المياه الجوفية، كما تقوم في الوقت الحاضر بدراسة مشروع يهدف إلى بناء سد قرب “الثُليْمة” تدرس مشروعًا لبناء سد قرب “التليمة، وحفر ثلاث آبار ارتوازية عميقة. وتجد محاصيل الدرعية سوقًا استهلاكية كبيرة في الرياض وحتى في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، ولهذا يقبل المزارعون على استغلال أراضيهم استغلالًا حسنًا. ويسهم القسم الزراعي في مركز التنمية الاجتماعية بالدرعية اسهامًا فعَّالًا بارشاد المزارعين إلى أفضل الأساليب الزراعية، عن طريق إقامة الحقول الإرشادية والمزارع النموذجية، وتقديم المساعدات الفنية للمزارعين وما يحتاجونه من أشتال وآليات ومبيدات الحشرية وأسمدة كيماوية.

وتُموّن الدرعية مناطق كثيرة بتمورها الممتازة، وخاصة العاصمة الرياض. ومن أهم أنواع التمور المعروفة في الدرعية: “نبت السيف”، وهي من أجود أنواع التمور في المملكة، و”المنيف”، و”السلَّجة”، و”نبوت الحمر” وأصلها من المدينة المنورة، و”الخَصَاب”، و”الذاوي”، و”الخُضْري”، و”المِسْكاني”، و”الصُّقْعي”، و”المكتومي”، و”المقْفَزِي” وغيرها. والجدير بالذكر أن المزارعين بالدرعية يخرفون (يجنون) الرطب في جرادل زنة الواحد منها حوالي 3 كيلوغرامات تُباع بأسعار مختلفة تبعًا لنوع الرطب. و ما يقلق المزارعين حاليًا عدم توفر الماء لبعض بساتين النخيل بسبب موجة الجفاف التي أصابت المنطقة. ويعبر عن ذلك ابن الدرعية البار الشاعر “عبد الله بن خميس” في قصيدة شعبية يقول فيها:
سلام يا دار تربع في مفيض الوصيل … نخوة بني مقرن هل العادات تعزالها
يا دار قولي وين صاف الماء وهدْب النخيل … اللي تعطَّف شرَّد الغزلان بظلالها
وين الحدايق ناعمات والمصيف الجميل … وين الحمايم ساجعات طيب فالها
حلفت بالله يا بلادي ما نبي بك بديل … لو كان دار يجتني الياقوت بسهالها
يالله ياللي لا عطى مهوب مده قليل … طالبك يا منزل بلاها تلطُف بحالها
عساك يا وادي حنيفة كل يوم تسيل … تحيي بلاد جدد الإسلام بقذالها
وقد بادرت وزارة الزراعة، كما سبق وأشرنا إلى ذلك، لعمل كل ما في وسعها لتوفير المياه لهذه المنطقة، لتبقى دائمًا المصيف الجميل والروضة النضرة التي يقصدها أهالي الرياض في مواسم العطل والأعياد، لينعموا بظلالها الوارفة، ومياهها العذبة، ورطبها الجنية، وهوائها العليل.
التعليم والحركة الأدبية

مدينة الدرعية، التي شع منها ضياء النهضة الإسلامية، كانت في القرن الثاني عشر الهجري موئِلًا للعلم، وينبوعًا ثرًّا ينهل منه طلاب العلم، الفقه والحديث والتفسير وعلوم اللغة على يد الإمام المجدد الشيخ “محمد بن عبد الوهاب”. الذي خلف من بعده مؤلفاتٍ قيّمة، منها: “كتاب التوحيد”، و”كتاب الكبائر”، و”مختصر الإنصاف في الفقه”، و”السيرة المطولة”، وكثير غيرها. والجدير بالذكر أنه في عهد الإمام “عبدالعزيز بن محمد بن سعود”، الذي تسلَّم مقاليد الحكم في الدرعية عام 1179هـ، نشطت حركة التعليم بفضل تشجيعه للدراسة، مما جعل الدرعية تكتظ بالوافدين إليها من مختلف أنحاء الجزيرة العربية طلبًا للعلم. وفي الدرعية وقراها اليوم مدارِسُ ابتدائية عديدة للبنين والبنات، وأخرى متوسطة. يواصل خريجو المدرسة المتوسطة تعليمهم في مدارس الرياض وكلياتها ومعاهدها، بحكم قرب الدرعية منها. وبها أيضًا مدرستان لتعليم الفتيات والسيدات اللواتي فاتتهن فرصة التعليم في صغرهن، حيث يدرسن مبادئ القراءة والكتابة والتدبير المنزلي، بغية رفع مستوى الأسرة اجتماعيًّا وثقافيًّا.
ويتجلى نشاط الحركة التعليمية في الدرعية وشغف أهلها بالعلم في كثرة المثقفين من أبنائها، الذين يشغلون مناصب مرموقة في وظائف الدولة. كما أن من بينهم من يحملون لواء النهضة الأدبية في المملكة عاليًا، ولهم في هذا المضمار أعمال أدبية قيمة. منهم الشاعر والمؤرخ الشيخ “عبد الله بن خميس”، صاحب المؤلفات العديدة، الذي كان ابن الطبيعة، كلما دلف إليها وجد في كنفها غذاء الروح والعقل، فيجود بأعذب الألحان:
من لصبٍّ ضاعف النأي هيامه … مدنفٍ حنّ إلى حَجْر اليمامة
كلما رقَّ له ريح الصبا … عاج توَّا علَّه يروي أوامه
وإذا ما أنجدت سارية … حمل البرق مناه وسلامه
تلك الطبيعة المعطاء أنجبت عددًا من الشعراء الشعبيين، من بينهم، على سبيل المثال لا الحصر: ناصر العريني، وأبو نهية، وعبد الرحمن الصفيان، وسليمان بن صالح العثيم، ومبارك بن سليمان بن بريك، وغيرهم. كما أننا نجد بين شباب الدرعية من يتمتعون بمواهب فنية رفيعة تبشر بمستقبل لامع أمثال: إبراهيم ناصر الفصام، وبيشان حمد بيشان، وغيرهما ممن لهم لوحات زيتية رائعة، استمدوا موضوعاتها من البيئة وتاريخ الدرعية المشرق وآثارها الجليلة.
مركز التنمية الاجتماعية

على ربوة تطل على مدينة الدرعية بواديها الممرع، يرتفع صرح يعتبر من أبرز معالمها الحديثة، وهو “مركز التنمية الاجتماعية”، الذي أنشأته وزارة العمل والشؤون الاجتماعية عام 1380هـ، كأول مركز للتنمية في المملكة العربية السعودية. يشتمل المركز على أربعة قطاعات رئيسية، هي: القطاع الاجتماعي، والقطاع الزراعي، والقطاع الثقافي، والقطاع الصحي. وتمتد خدماته، علاوة على الدرعية، إلى قرى “العلب”، و”العودة”، و”عرقة”، و”العمَّارية”، و”الملقى”، و”المغيدر”، و”الوصيل”. وتتضافر جهود هذه القطاعات الأربع في سبيل النهوض بتلك القرى ورفع المستوى الاجتماعي والثقافي لسكانها.
ومن بين المشاريع التي يتبناها المركز في القطاع الاجتماعي: مشروع تحسين مستوى الأسرة الاقتصادي، والأمومة والطفولة، وفرحة اليتيم، وتحسين المساكن، والمعسكر الصيفي. وفي القطاع الزراعي، يقوم الأخصائيون الزراعيون بعقد اجتماعات إرشادية، يحضرها أصحاب المزارع لتدريبهم على مختلف العمليات الزراعية، وحثهم على تبني الأساليب الحديثة لتحسين نوعية محاصيلهم من الخضراوات والفواكه.
كما يشرفون على عمليات رش المزارع بالمبيدات الحشرية، وتوزيع الأسمدة الكيماوية والأشتال على المزارعين. ويقوم القسم الصحي في المركز بالبحوث الصحية، مكافحة الحشرات الناقلة للأمراض، والإرشاد الصحي، وتنظيم الزيارات للمنازل والمدارس لاتخاذ الإجراءات الوقائية ضد الأمراض. كما يصدر النشرات التثقيفية الصحية، ويلقي المحاضرات. وفي المجال الثقافي، يقوم المختصون لدى المركز بنشاطات تستهدف محو الأمية عن طريق الدراسة الليلية لمن فاتهم ركب التعلم، وتيسير كل ما من شأنه أن يساعد الدارس على مواصلة دراسته. ويشرف القسم الثقافي على مكتبة المركز، التي تضم عددًا كبيرًا من الكتب في شتى المواضيع، وتعمل على تزويد المدارس الواقعة ضمن نطاق خدمات المركز ببعض الكتب المختارة التي تتناسب ومستوى الطلاب الفكري.
مركز التدريب والبحوث التطبيقية في التنمية الاجتماعية
تأسس هذا المركز منذ عامين تقريبًا بالتعاون بين حكومة المملكة العربية السعودية والصندوق الخاص التابع لهيئة الأمم المتحدة ضمن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، بموجب اتفاقية مدتها أربع سنوات. والغرض الأساسي من هذا المشروع الضخم هو تدريب الأخصائيين العاملين في التنمية الاجتماعية، وإجراء البحوث حول الطرق والأساليب الفعالة للنهوض بالمجتمع المحلي، وتشجيعه على العمل في هذا الاتجاه، والعمل على تطوير المجتمع والانماءِ الاقتصادي في إطار المفاهيم الإسلامية والتقاليد العربية الأصيلة. والجدير بالذكر أنه يوجد في المملكة الآن أحد عشر مركزًا للتنمية الاجتماعية وستة مراكز للخدمة الاجتماعية. وفي حديث خاص مع الدكتور “فاروق عبد الرحمن مراد”، مدير عام مركز التدريب والبحوث التطبيقية، قال: “يتوقف إنشاء مراكز جديدة للتنمية في أنحاء المملكة إلى حد كبير على توفر الكفاءات المطلوبة لإدارتها والاشراف عليها، وهذا ما نسعى إلى تحقيقه في السنوات القليلة القادمة. ويهمنا في الوقت الحاضر أن نعمل بجد على تطوير مركز التنمية الاجتماعية بالدرعية ورفع مستواه الحالي ليعمل كمعهدٍ للتدريب في التنمية الاجتماعية للموظفين على مستوى المسؤولين ولموظفي الميدان الأخصائيين والفنيين والمسؤولين المحليين. وسيقوم المركز بتقديم المشورة والمساهدة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية والوزارات الأخرى من خلال الدراسات والبحوث التي يجريها”.
وتستدعي خطة العمل على استقدام خبراء ومستشارين دوليين في مجالات متعددة، منها: التدريب، والأعمال الميدانية، والتقييم، والبحوث التطبيقية، والإرشاد الزراعي، والاقتصاد، والإسكان الريفي، والصناعات الريفية، والحرف اليدوية. كما يتم اختيار نظراء سعوديين للخبراء الأجانب من ذوي الكفاءات العالية يجري تدريبهم ليتسنى لهم القيام بدور الخبراء في المجالات المذكورة آنفًا. هذا وتُعقد دورات تدريبية خاصة لإعداد الأخصائيين الاجتماعيين والفنيين، تمتد لتسعة شهور، يتم اختيار الملتحقين بها من حملة الشهادات التوجيهية أو ما يعادلها من العاملية في حقل التنمية الاجتماعية أو من الموظفين في أي وزارة من الوزارات المعنية بالتنمية الاجتماعية. و تُعقد دورات تدريبية قصيرة متخصصة ذات برامج مُركّزة وسريعة يلتحق بها أشخاصٌ يقع على كاهلهم الاشراف المباشر على مراكز التنمية. ومن المقرر أن تعقد خمس دوراتٍ قصيرة خلال هذا العام مدة كل منها 25 يومًا، وسيشترك في كلٍ منها عشرون ملتحقًا. هذا، ويعتبر مركز التدريب والبحوث التطبيقية في التنمية الاجتماعية الأول من نوعه في الشرق الأوسط.
الحياة الاجتماعية في الدرعية
يتصف أبناء الدرعية بالجد والمثابرة والتعلق بالأرض حتى لنجد أن الأسر التي نزحت إلى بعض مدن المملكة وقراها بحكم ما أصاب الدرعية من كوارث أو بحكم أعمالهم ووظائفهم، يعاودها الحنين إلى مرابعها الخضر ورياضها النضرة. ومن المظاهر الملموسة التي تنم عن حبهم لأرضهم الخيرة أنهم في أيام العطل والمناسبات ينتشرون زرافات في البساتين النضرة في جلسات لطيفة ومؤنسة، يرتشفون خلالها القهوة العربية ويتناشدون الأشعار الشعبية التي لهم بها ولع شديد. هذا وينتهي عدد كبير من شباب الدرعية إلى “نادي الدرعية الريفي”، الذي أسهم في تأسيسه عام 1389هـ القسم الاجتماعي التابع لمركز التنمية. ويشارك أعضاء النادي بإقامة حفلات السمر، والرقصات الشعبية، والندوات الأدبية والفنية. ومن عادات أبناء الدرعية وتقاليدهم الطيبة أنهم في أيام المناسبات يبسطون الموائد في الأسواق، ليجد القريب والبعيد ما لذ وطاب من ألوان الطعام. ومن أشهر الأكلات المعروفة عندهم “القرصان”، و”المطازيز”، و”الحنيني”، الذي يتكون من دقيق البر والتمر والذوب (السمن البقري)، و”الجريش”، وهو البر المكسر الذي يمزج بالسمن واللبن.
ويشتهر أبناء الدرعية بشكل خاص برقصة العرضة النجدية، فلهم فيها باعٌ طويل حتى أصبح لهم في المهرجانات الشعبية التي تقام في الرياض مكان مرموق، فإذا ما شتد الحماس على دقات الطبول ونقرات الدفوف، يرددون:
شيخنا سير بنا لا تونّي … من سعى بالحرب حنا ذهابه
يا صليب الراس زبن المجنّا … من سلايل وايل يلتجى به
حنا هل العوجا نسابق دخنا … فعلنا بيِّن وكل درى به
وبعد، تلك هي الدرعية، التي تستمد من ماضيها العريق ما يدفعها إلى السير حثيثة على درب التقدم.
- جمع قرموص وهو العُش. ↩︎
- يطلق عليه الآن “برج سعود” ويبعد نحو 4 كيلو مترات عن الدرعية من الناحية الشمالية الغربية. ↩︎
- بتيل وجمعها بتل، هن مربع من طين مثل الصومعة، مستطيل في السماء، منها ما يبلغ طوله خمسمائة ذراع. ↩︎
- يعرف الآن باسم البطحاء ويخترق مدينة الرياض ويصبًّ في وادي حنيفة. ↩︎
- الجزء الأول من “تاريخ الكامل” لابن الأثير. ↩︎
- الجزء الخامس من “البداية والنهاية في التاريخ” لابن كثير ↩︎
- تعرف الآن باسم “الحيَّسيَّة”. ↩︎
- “عنوان المجد في تاريخ نجد” لابن بشر. ↩︎
- هذا الاسم يطلق على الدرعية وهو شعار أهلها في الحرب والنخوة. ↩︎
اترك تعليقاً