مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو - يونيو | 2025

بدأت تُسرع الخطى

الدراما السعودية على طريق نهضتها

د. فهد توفيق الهندال

يعدُّ فن الدراما من أقدم أشكال التعبير الإنساني، لما له من جذور عميقة في التاريخ الثقافي والاجتماعي للبشرية. فهو فن يعكس الصراعات الإنسانية ويستكشف موضوعات، مثل: الهُوية والأخلاق والسلطة والوجود، من خلال تقديم الصراعات في صور مكثفة ومشحونة عاطفيًا، وهو ما يحفّز الجمهور على التعاطف والتأمل والتفكير في القضايا الإنسانية. ولطالما استقطبت الدراما الجماهير العريضة في كل الثقافات بفعل بُعدِها الترفيهي. غير أن هذا البُعد غالبًا ما ينطوي على رسائل فعّالة في التوعية والتثقيف، وهو ما مكّن هذا الفن من معالجة قضايا مجتمعية مهمة في إطار جاذب للاهتمام بهذه القضايا.

فماذا عن الدراما السعودية وما شهدته، مؤخرًا، من حراك ملحوظ على الرغم من حداثة عهدها النسبي؟

المتابع للخط الزمني للدراما السعودية، يلحظ محاولاتها الدؤوبة لحجز مراكز متقدمة لدى المُشاهد المحلي والعربي. فمنذ بداياتها في ستينيات القرن الماضي حتى التسعينيات منه، كان إنتاجها محدودًا، يقتصر سنويًا على عمل واحد أو اثنين؛ نظرًا لضعف القدرات الفنية اللازمة في تلك المرحلة (باستثناء تجربة سلسلة “طاش ما طاش “الساخرة التي بدأت عام 1993م واستمرت حتى عام 2010م ).وغالبًا ما كان عرض الدراما المُنتجة، آنذاك، ينحصر عمليًا في شهر رمضان، الموسم المهم للإنتاج والعرض. وهذا ما حدَّ من خيارات المتابع للدراما السعودية في مقابل ما كانت الدراما العربية تقدمه على مدار العام. غير أن الأمور سلكت منعطفًا مختلفًا تمامًا منذ عام 2016م، نتيجة إطلاق “رؤية المملكة 2030”.

تضمَّنت هذه الرؤية التفاتة بارزة إلى دَور الإبداع والفنون، ليس على مستوى الحفاظ على الهوية الوطنية فقط، بل أيضًا على مستوى رفد الاقتصاد الوطني بمورد جديد يعزّز تنوع موارده المُبتغاة. فاتُخذت مبادرات عديدة توفّر بيئة داعمة للمبدعين وتُسهم في إثراء المشهد الثقافي السعودي، منها تأسيس هيئات ثقافية متخصصة للمسرح والفنون الأدائية، وكان للدراما السعودية نصيبها من الدعم الذي تحتاج إليه بتعزيز الاستثمار فيها للانطلاق نحو آفاق جديدة، وتعزيز مكانتها محليًا وعالميًا .

هذه الرؤية الجديدة إلى أهمية الفنون الأدائية تجلّت أولًا في صناعة السينما كما هو معروف. إذ تدفقت عليها طاقات شابة، وخبرات سابقة جدَّدت شبابها، يدفعها إلى ذلك التشجيع والدعم اللازمان، والتفاؤل بمستقبل هذه الصناعة محليًا. فتوسّعت مساحة الإنتاج السينمائي لأفلام قصيرة وطويلة تحت رعاية مُحفّزة، وفي أجواء مشجّعة بزيادة الإمكانات وفرص الاستثمار في هذا المجال .

فمنذ عام 2018م، شهدت المملكة نموًا ملحوظًا في قطاع السينما، على مستوى الأفكار والكتابة والأداء والإخراج، وغيرها من وسائل التنفيذ التقني. وأدَّت هذه الصناعة الناهضة دورًا محوريًا في تعزيز الفن الدرامي وتطويره داخل المملكة، وأسهمت في تقديم محتوى درامي معبّر ومتميّز تقنيًا بجودة الإنتاج. كما أتاحت فرصًا واسعة لصنّاع الدراما المحليين لعرض أعمالهم على الشاشات الكبيرة كما على الشاشة الصغيرة، ليؤثر التطور السينمائي بشكل فعّال في الدراما التلفزيونية، بالاستفادة من البنية التحتية للسينما ودعم المواهب .

اتجهت الدراما السعودية إلى اقتباس بعض أعمالها من الروايات المحلية، سعيًا لتعزيز المحتوى.

فمن حيث التقنية، شهدت الدراما السعودية، مؤخرًا، توجهًا نحو الاستفادة في إنتاج المسلسلات التلفزيونية من تقنيات السينما، وهو ما أسهم في رفع جودة الصورة والصوت والإخراج في أعمال درامية قصيرة، مثل” :رشاش “و”المخطوفة “و”ثانوية النسيم “و”وساوس “الذي كان أول مسلسل سعودي يُعرض على منصة “نيتفليكس “.وفي هذا المسلسل المؤلف من ثماني حلقات وذي الحبكة الدرامية التي تحمل في طياتها عديدًا من المشكلات الاجتماعية مثل الخلافات الأسرية وصراع البقاء في عالم الأعمال، استُخدمت تقنيات تصوير متقدمة ومؤثرات بصرية وموسيقية جديدة، وهو ما جعله يُضاهي في جودته الإنتاجات السينمائية العالمية. وعكَس هذا التوجه رغبة صانعي السينما والدراما في تقديم محتوى عالي الجودة يجذب المشاهدين إلى الشاشة الصغيرة كما إلى الكبيرة، ويعزّز مكانة الدراما السعودية على الساحة الفنية، التي بدأت في مراجعة تاريخها الدرامي وإعادة النظر فيه .

التحقيب الاجتماعي

عقب إطلاق “رؤية المملكة 2030″، بدأ المنتجون السعوديون في وضع خارطة للإنتاج الدرامي، تستهدف التأريخ الاجتماعي عبر بعض الأعمال، بتأسيس نقطة انطلاق جديدة، تُضاف إلى الحقب السابقة.

فأُنتِجت المسلسلات التي استعرضت الفترة الزمنية الواقعة ما بين عامي 1960م و1990م، محاولةً لتأسيس هذا التحقيب. ومن بين الأعمال التي غطت تلك الفترة” :حارة الشيخ “و”العاصوف “و”خيوط المعازيب “و”الشرار “و”شارع الأعشى “و”ليالي الشميسي “و”الزافر “.وقد حقّقت تلك الأعمال حضورًا لافتًا على مستوى الإنتاج والمتابعة، لقُدرتها على استحضار تفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية لتلك الحقبة، وهو ما أثار حنين المشاهدين وأعاد إحياء الذكريات المرتبطة بتلك الفترة. كما أسهمت هذه الأعمال في توثيق التحولات التي شهدها المجتمع السعودي على عدة صُعُد، وهو ما أضفى عليها أبعادًا اجتماعية وتاريخية وثقافية. فباتت الدراما السعودية اليوم جزءًا مهمًا من المشهد الثقافي والفني في المملكة، تسعى إلى تقديم محتوى يلبّي ما هو مُتوخّى منها.

بعض العناوين البارزة

وفيما يأتي عرض لعدد من أبرز هذه الأعمال :

“حارة الشيخ” (إنتاج 2016م): تدور أحداث المسلسل في الحجاز، وتحديدًا مدينة جدة في أواخر العهد العثماني ما بين عامي 1876م و1918 م. والعمل مقتبس من بعض الحكايات الشعبية والقصص الاجتماعية التي كانت رائجة في تلك الفترة التي كانت شبه غائبة في السابق عن الحضور الدرامي.

“العاصوف” (من 3 أجزاء، وإنتاج 2017م، 2019م، 2022م): وتعدُّ أغنى دراما اجتماعية إنسانية؛ إذ تُسلِّط الضوء على تفاصيل المجتمع السعودي وتحولاته في الرياض خلال ثلاثة أجيال في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. والمسلسل مقتبس من رواية “بيوت من تراب “للكاتب عبدالرحمن الوابلي .

“خيوط المعازيب” (إنتاج 2024م): دراما تتناول قضايا اجتماعية في منطقة الأحساء في ستينيات القرن العشرين، فكانت حرفة صناعة البشوت المشهورة في الأحساء ميدان أحداث درامية اجتماعية متصاعدة، توضح طبقية المجتمع في تلك الفترة .

“الشرار” (إنتاج 2024م): تدور أحداث المسلسل في زمن يعود إلى أكثر من 100عام مضى، في البادية ما بين نجد والحجاز، ويتناول موضوعات مستوحاة من قصص البطولة والنخوة والفروسية .

“شارع الأعشى” (إنتاج 2025م ): تقع أحداثه في حي المنفوحة التاريخي بالرياض نهاية السبعينيات من القرن العشرين، ويتناول مجاورة أفراد المجتمع لثقافتي الحضر والبادية والمواطنين والمقيمين، ليرصد من خلالها التحولات الاجتماعية في زمن مواجهة الحداثة والتطور المدني.

“الزافر” (إنتاج 2025م ): مسلسل درامي يتناول قصصًا من منطقة عسير في الجنوب السعودي، ويركز على العلاقات الإنسانية والتحديات التي تواجه الأفراد. وتميّز بأداء قوي من قبل الممثلين وسيناريو محكم، يوازي طبيعة الحياة هناك، ويُحاكي بدقة اللهجة والعادات والتقاليد.

“ليالي الشميسي” (إنتاج 2025م ): تحكي أحداثه عن مجتمع حي الشميسي في الرياض خلال أواخر فترة السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين، وهي فترة الانتقال من بيوت الطين إلى الفلل الإسمنتية، ودخول زمن التحوّل الاجتماعي بكل تحدياته.

وقد أسهمت هذه الأعمال في تعزيز الدراما السعودية من خلال تقديم محتوى يعكس الواقع الاجتماعي والثقافي في المملكة، وتنوُّعه بتنوع الجغرافيا واللهجات والعادات، وهو ما ساعد في تقديم صور متعددة منصهرة في قالب الهوية الوطنية، وبناء جسور التواصل مع الجمهور المحلي والعربي.

ما يمكن للرواية أن تتيحه للدراما

إضافة إلى ما تقدَّم، ثمة ما يمكنه أن يشكل دفعًا للارتقاء بالدراما السعودية أكثر فأكثر، ويتمثَّل في الطفرة الروائية التي شهدتها المملكة في السنوات القليلة الماضية. إذ يمكن استغلال هذا المخزون الروائي في تطوير صناعة الدراما، لما يتضمنه من محتوًى محلي غني، وكثافة بصرية يمكن ترجمتها دراميًا عبر عدسات الدراما ومخيّلة المشاهد.

وقد اتجهت الدراما السعودية بالفعل إلى اقتباس بعض أعمالها من بعض الروايات المحلية، سعيًا إلى تعزيز محتواها وهويتها. غير أن هذه التجارب لا تزال محدودة. إذ صُوِّرت بعض روايات غازي القصيبي ومحمد المزيني في أعمال درامية، بالإضافة إلى رواية “غراميات شارع الأعشى “للروائية بدرية البشر، مسلسل هذا العام الذي حمل عنوان “شارع الأعشى “عبر ورشة كتابية تركية، ومعالجة درامية محلية للكاتبة منال العويبيل؛ ومسلسل “يوميات رجل عانس”، المقتبس من رواية بعنوان “مذكرات رجل سعودي عانس “للكاتب وليد أسامة خليل.

إن ما تقدَّم أضاف بُعدًا أدبيًا للأعمال التلفزيونية. لكن بالمقارنة مع الحاصل في دول أخرى، لا تزال نسبة الاقتباس من الروايات في الدراما السعودية بحاجة إلى تعزيز وتوسيع، ولا سيَّما أن الإنتاج الأدبي الروائي والقصصي في مختلف الموضوعات الاجتماعية، والتاريخية، والفانتازيا، والخيال، والغموض، قادر على تقديم محتوى يُثري الدراما .

وعلى الرغم من الجهود المبذولة، لا تزال هناك تحديات في تحويل الروايات إلى أعمال درامية، منها الحاجة إلى دعم مادي ومعنوي من الجهات المعنية والمنتجين، بالإضافة إلى ضرورة توافر مزيد من الخبرات المتخصصة في مجال كتابة السيناريو والإخراج. فبالمجمل، يُعدُّ استثمار الروايات السعودية في صناعة الدراما خطوة مهمة نحو تعزيز الهوية الثقافية وإثراء المحتوى الفني، وهو ما يُسهم في تقديم أعمال درامية ذات جودة عالية تعكس واقع المجتمع السعودي بكل أوجهه وتاريخه.

كواليس تصوير مسلسل شارع الأعشى.

تطوُّر صناعة الممثلين

في العقود الأولى من بدايات الدراما السعودية، كانت غالبية أدوار الشخصيات، ولا سيَّما النسائية منها، تُسند إلى ممثلين وممثلات من دول خليجية وعربية أخرى. وهذا ما كان يؤدي إلى إشكاليات تتعلق بإتقان اللهجة السعودية وتقديم صورة واقعية للشخصيات. أمَّا اليوم، وبعد عمل “رؤية المملكة 2030″على تنمية المهارات السعودية، شهدنا ظهور طاقات جديدة على الساحة الدرامية وعلى مستوى الجنسين، بفضل ورش التمثيل الناشطة في اكتشاف المواهب وتطوير القدرات. كما شهدت الدراما تحسنًا في تقديم الشخصيات المتقنة للهجات السعودية وذات ثقافة محلية أصيلة، وهو ما أضفى مصداقية أكبر على الأعمال الجديدة، وعزَّز الإقبال على مشاهدتها في المملكة، وأهّلها للمنافسة على الساحة العربية .

مقترحات تستحق التفكير فيها

وعلى ضوء ما سبق لها أن تحقِّق حتى الآن، يبقى أخيرًا ما نعتقد أنها مقترحات وتطلعات تعزّز موقع الدراما السعودية في ظل متغيرات العصر والتعبير عن تحدياته وأزماته. ومن أبرز مستلزمات استمرار الدراما في مسارها الناهض يمكننا أن نعدد ما يأتي :

زيادة الاعتماد على النصوص الأدبية المحلية، عبر تشجيع تحويل الروايات والقصص السعودية إلى أعمال درامية وسينمائية، والتوسع في إقامة مسابقات على غرار مسابقة “القلم الذهبي “التي تقيمها الهيئة العامة للترفيه.

التوسع في الاستثمار في الكوادر المحلية، ودعم المواهب السعودية في مجالات التمثيل والكتابة والإخراج والإنتاج، والاستفادة من آخر تطورات صناعة السينما العالمية.

إنشاء معاهد درامية وطنية تُقدِّم تدريبًا احترافيًا في فنون الأداء والإنتاج، ودعم نشاطي التمثيل والمسرح على المستوى المدرسي؛ لاستقطاب الموهوبين من الناشئة والمواهب القابلة للتطوير.

تلازم تعزيز الهوية المحلية والانفتاح على الثقافات الأخرى، بإنتاج أعمال تعكس تنوع المناطق السعودية وتقاليدها بواقعية. وفي الوقت نفسه، تحاكي قيمًا واهتمامات إنسانية عامة؛ لترتقي بها إلى مستوى المنافسة العالمية .

تطوير تقنيات الإنتاج، بمواصلة الاستثمار في معدات التصوير والمونتاج والمؤثرات البصرية، والتعاون مع صنّاع سينما عالميين لنقل الخبرات إلى السوق المحلي .

التوسع في المنصات الرقمية، بدعم منصات العرض السعودية لتقديم محتوى درامي ينافس المنصات الأجنبية القائمة حاليًا وغيرها من المنصات الأجنبية، بإنتاج محتوى قصير ومناسب لمنصات التواصل الاجتماعي لجذب الجمهور الشاب.

مهرجان البحر الأحمر السينمائي.

تنويع الموضوعات، وذلك بالخروج من النمط التقليدي الاجتماعي والتوجُّه نحو دراما التشويق والخيال العلمي والدراما النفسية، ومعالجة قضايا معاصرة تهم الجيل الجديد، مثل: الهوية، والتكنولوجيا، والتحولات الثقافية .

التقييم المستمر للأثر الاجتماعي للدراما، بإجراء دراسات دورية تقيس مدى تأثير المسلسلات على الوعي المجتمعي والسلوك العام، عبر استطلاعات واستبانات ودراسات علمية وإحصائية، والاستفادة من النتائج لتطوير محتوى أعمق وأكثر تأثيرًا.

وبهذا، تخطو الدراما السعودية خطوات ثابتة نحو التطور والتقدم، مستفيدة من تجارب الماضي والتقنيات الحديثة. ومع استمرار الاستثمار في المواهب المحلية وتبني قصص ذات جودة فنية عالية، يُتوقع أن تواصل الدراما السعودية تعزيز حضورها وتأثيرها في المشهد الفني العربي، بالترويج لروح الأصالة والحداثة والقيم الاجتماعية للمجتمع السعودي، والتسويق الثقافي والاقتصادي للمملكة.


مقالات ذات صلة

مرآة

ظَلَّ أبي يُحذِّرني من الوقوف طويلًا أمام المرآة، في اعتقاده 
أنك إذا أطلت الوقوف فسيبتسم الشخص الذي أمامك 
وهذا ما سيقودك إلى الجنون.. 
ولكن ما قادني إلى الجنون هو أنني

عبدالعزيز المشري واحد من روَّاد الكتابة الإبداعية في المملكة، توفاه الله في شهر مايو عام 2000م، عن عمر لم يتجاوز الخامسة والأربعين. وعلى الرغم من عمره القصير، ترك المشري لنا إرثًا كبيرًا في القصة والرواية والشعر.

في عصرية شتاء يزيد من حُمرة الأرض الطينية، دخلتُ قرية “أثيثية” الواقعة في محافظة “مرات” التابعة لمنطقة الرياض، كنتُ حريصًا على زيارتها منذ أن علمت أنها بلد الشاعر جرير.


0 تعليقات على “الدراما السعودية”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *