مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين

الدبلوماسية الثقافية ليست ترفاً، بل رهان حيوي


عبدالقادر عقيل
مدير إدارة الثقافة والفنون، ورئيس تحرير مجلة (البحرين الثقافية) سابقاً

“الدبلوماسية الثقافية” أو “القوة الناعمة” مصطلح جديد في مجال السياسة الخارجية، ظهر في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، عندما أدرك السياسيون أن قوة الدولة لا تقاس بالقوة الاقتصادية، ولا بالتفوق العسكري، وإنما بمدى قدرتها الثقافية على إنشاء علاقات بالدول الأخرى، على صُعد تبادل المعلومات والتطوُّر المعرفي وترويج الفنون وغيرها من جوانب الثقافة. لذا، توجَّه المتخصِّصون في السياسة الدولية إلى الثقافة، ونظروا إليها على أنها “دبلوماسية القرن الواحد والعشرين” و”وزارة خارجية الشعوب”، نظراً لما تملكه من مقومات أكثر تأثيراً على الشعوب من العمل الدبلوماسي التقليدي الرسمي، الذي يتمثل عادة في وجود سفير وسفارة وبعثة دبلوماسية. فمفهوم الدبلوماسية الثقافية يتجاوز هذه الوظيفة البروتوكولية إلى تقديم صناعة ثقافية إلى جمهور خارجي، بهدف تعزيز قوة الدولة ومكانتها، وبناء صورة ثقافية مقنعة ومؤثرة.

ومفهوم “الدبلوماسية الثقافية” موجود منذ القدم، حين مارسها التجَّار والرحَّالة والمسافرون والمدرِّسون والفنَّانون في رحلاتهم ومغامراتهم الاستكشافية. فقد كانوا “سفراء غير رسميين” أو “الدبلوماسيين الثقافيين” الأوائل، إذ استطاعوا أن يتعرفوا ويتبادلوا ويمارسوا التفاعل الحي مع ثقافات الشعوب الأخرى.

إلا أن مصطلح “الدبلوماسية الثقافية”، رغم استخدامه بشكل متزايد من قِبل علماء السياسة وخبراء الاتصالات، لم يُلتفت إليه إلا مؤخراً، نتيجة تزايد الجدل حول ما طرحه عالِم السياسة ورائد مفهوم “القوة الناعمة” جوزيف ناي في كتابه الشهير “القوة الناعمة”، التي اعتبرها “القدرة على الحصول على ما تريد بالجذب بدلاً من الإكراه أو الدفع، وهي تنشأ من ثقافة البلد، ومُثله السياسية وسياساته، وبداية النظر إلى “الثقافة” كواحدة من محدَّدات السياسة الخارجية لأي بلد”، واستشهد في الكتاب نفسه بعدّة أمثلة جعلت الثقافة الأمريكية التي تم تسويقها عَالَمِياً تغزو العالم كقوة ناعمة مؤثرة.

يستحضر جوزيف ناي في “القوة الناعمة” كلمات مكيافيلي، الأب الروحي للواقعية السياسية، الذي نصح الأمير: “الأفضل أن تكون مهاباً على أن تكون محبوباً”، ويريد ناي أن يبرز هذه الكلمات في سياق عصري جديد، ويحرص على الجمع بين القدرة على الترويع والقدرة على الإبهار. 

ووفقاً لتقدير أحد الباحثين، يمكن فهم “الدبلوماسية الثقافية” بأنها نوع من المزج أو التفاعل التكاملي بين ما يسميه جوزيف ناي “القوة الناعمة”، التي تعني القدرة على تحقيق الأهداف عن طريق جاذبية الثقافة بدلاً من الضغط والإرغام، وبين “الدبلوماسية العامة” التي ترعاها الحكومة، وتهدف إلى إعلام الجماهير أو التأثير في الرأي العام في بلدان أخرى.

ويعزِّز هذا القول ريتشارد أرندت، المتخصِّص السابق في الدبلوماسية الثقافية بوزارة الخارجية الأمريكية، الذي يرى أن “العلاقات الثقافية تنمو طبيعياً، دون تدخل الحكومة، معاملات التجارة والسياحة وتدفقات الطلاب والاتصالات وتداول الكتب والهجرة والوصول إلى وسائل الإعلام والزواج المشترك، الملايين من اللقاءات بين الثقافات اليومية. وإذا كان هذا صحيحاً، فلا يمكن القول إن الدبلوماسية الثقافية تحدث فقط عندما يحاول الدبلوماسيون الرسميون الذين يخدمون الحكومات الوطنية، تشكيل هذا التدفق الطبيعي وتوجيهه لتعزيز المصالح الوطنية”.

وفي هذا الصدد يقول وزير الخارجية الأمريكي كولن باول: “لا أستطيع أن أفكِّر في رصيد لبلدنا أثمن من صداقة قادة المستقبل الذين تلقوا تعليمهم هنا”. ذلك أن الطلبة الدوليين يعودون إلى أوطانهم في العادة بتقدير أكبر للقيم والمؤسسات الأمريكية. وكما ورد في تقرير لمجموعة تعليمية دولية فإن “ملايين الناس الذين درسوا في الولايات المتحدة على مدى سنوات يشكِّلون خزاناً رائعاً للنوايا الحسنة تجاه بلدنا. وكثير من هؤلاء الطلبة السابقين ينتهي بهم الأمر إلى احتلال مراكز يستطيعون من خلالها التأثير على نتائج السياسة التي هي مهمة للولايات المتحدة”.

في عام 1961م طُرح على الشاعر الأمريكي كارل ساندبيرغ سؤال عن هوليوود وجامعة هارفارد فأجاب: “ماذا؟ هل هوليوود أهم من هارفارد؟ والجواب هو: إن هوليوود ليست لها نظافة هارفارد، ولكنها مع ذلك أقدر من هارفارد على الوصول إلى أمد بعيد”.

إن الثقافة هي إحدى أهم أدوات القوة الناعمة والتواصل الاستراتيجي، التي يتم إنشاء الوزارات والمراكز والمكاتب وتخصص الميزانيات الضخمة من أجلها في تلك الدول. وتُعدُّ فرنسا الدولة الرائدة في موضوع “الدبلوماسية الثقافية”، وهي من أكثر الدول إنفاقاً في مجال التعاون الثقافي الخارجي، ثم تأتي بعدها ألمانيا ثم المملكة المتحدة. وقد رأت فرنسا أن وجود المدارس الفرنسية خارج فرنسا أمر ضروري لبدء الدبلوماسية الثقافية الفرنسية، فحرصت حتى اليوم على إقامة مراكز ومعاهد ثقافية في أكثر من مئة وخمسين دولة تعمل كلها على نشر “الفرانكفونية”، التي تتجاوز حدود التعامل باللغة الفرنسية. 

في عام 2011م، قال كرافيي داركوس، مدير المعاهد الفرنسية، التي تمثل ثقل الثقافة الفرنسية: “في سياق أزمة اقتصادية عالمية، فإن بلدنا سيعوِّض تراجعه النسبي في التنافس الصناعي عبر الحفاظ على نفوذه الثقافي. الدبلوماسية الثقافية ليست ترفاً، بل رهان حيوي”.

أما ألمانيا فقد أسست في عام 1951م معهد جوتة، ومقره الرئيس في ميونيخ، ويعمل الآن في نحو 80 بلداً. كما أن بريطانيا ذات الإرث الاستعماري الطويل، أسست المجلس الثقافي البريطاني عام 1934م، حيث يعمل حالياً في أكثر من 100 دولة على تعزيز المعرفة بالمملكة المتحدة وباللغة الإنجليزية.


مقالات ذات صلة

حينما وصل إلى علمي توقف مجلة “القافلة”، استشعرت أن لبنة ثقافية انهارت. فهذه المجلة أحد الأسس التي دلتني أو دفعتني إلى غواية الكتابة، كما فعلت بالكثيرين.

ثَمَّة في تاريخ الأوطان والدول والمجتمعات، محطات لا يمكن تجاوزها أو المرور عليها دون التوقف عندها والاستلهام من أمجادها والامتنان لرجالاتها الذين صنعوها. إن استحضار واستذكار أحداث تاريخية لها قيمتها وطنياً، هو من الأمور المطلوبة والمحفِّزة لمزيد من الاعتزاز والفخر والانتماء لدولة تأصل تاريخها لقرون، دولة امتدت جذورها وبُنيت قواعدها على أساس راسخ من الإيمان […]

بات تطوير سوق العمل وتغيير معادلاته أمراً حتميّاً يتعيّن دعمه من كافة صانعي القرار، وقد كشف تقرير دولي للوظائف عن أن هناك ثماني مهن تُدرِّب عليها كليات ومعاهد تقنية دون الجامعية في السعودية، دخلت في ترتيب الوظائف الأعلى دخلاً.. فما مستقبل التخصصات التقنية والمهنية في المملكة؟ وهل هناك تلبية لحاجة السوق المحلية إليها؟ وماذا عن […]


0 تعليقات على “الدبلوماسية الثقافية ليست ترفا”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *