مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2025

الحيوانات المنزلية

فوائد صحية ونفسية في زمن وباء الوحدة

رمان صليبا

يجتاح العالم وباء من نوع جديد لم يشهده من قبل، هو وباء الوحدة. وهي، كما حددها المركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض والوقاية منها، “شعور المرء أنه لا يمتلك علاقات وثيقة أو ذات معنى أو شعورًا بالانتماء”. وتشير آخر الإحصاءات إلى أن نصف سكان العالم يعانون الوحدة الآن. كما استنتجت دراسة أجرتها جامعة هارفارد على مدى أربع سنوات من البحث، أن ما نشهده الآن هو فقط غيضٌ من فيض. وبينما لم يُجمع العلماء على الأسباب الرئيسة لهذا الوباء، فإنهم يتفقون على أن له عواقب وخيمة على الصحة النفسية والجسدية، مثل أمراض القلب والضغط والوفاة المبكرة. كما يُجمعون على أن اقتناء الحيوانات المنزلية هو من العلاجات الرئيسة للتخفيف من هذه الظاهرة. 

دقَّ جرّاح عام الولايات المتحدة الأمريكية، الدكتور فيفيك مورثي، ناقوس الخطر بشأن ارتفاع معدلات الشعور بالوحدة، وذهب إلى حد وصفه بأنه وباء له عواقب صحية على مستوى السمنة والتدخين، وفقًا لنشرة “كلية الدراسات العليا للتربية في جامعة هارفارد”، في 25 أكتوبر 2024م. ووفقًا للدكتور مورثي، فإن الشعور بالوحدة “يرتبط بزيادة ملحوظة في الاكتئاب والقلق، وأمراض القلب، والخرف، والوفاة المبكرة”، وهذه الأمراض أصبحت تشكّل تهديدًا للصحة العامة من خلال التأثير على ملايين الأشخاص. 

فقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة “غالوب” ونُشر في عام 2023م، أن أكثر من نصف السكان في جميع أنحاء العالم يعانون الشعور بالوحدة، وأن واحدًا من كل أربعة أشخاص يعترف بأنه يشعر بالوحدة الشديدة، وفقًا لتقرير شبكة “سي إن إن” في 24 أكتوبر 2023م عن هذا الاستطلاع، الذي أُجري في 142 دولة تمثّل حوالي 77% من سكان العالم. وكان المستجيبون أشخاصًا من جميع الأعمار وأكبر من 15 عامًا. 

ووجد الاستطلاع نفسه أن أكثر الفئات السكانية إحساسًا بالوحدة هي فئة الذين تُراوح أعمارهم بين 19 و29 عامًا، ومن بينهم 27% ممن أفادوا بمستويات عالية من الشعور بالوحدة. وكانت الفئة السكانية الأقل وحدة، بشكل مفاجئ إلى حد ما، هي فئة كبار السن فوق 65 عامًا، حيث أفاد 17% فقط بأنهم يشعرون بالوحدة الشديدة. 

في البلدان الصناعية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، يبلغ الشعور بالوحدة مستويات أسوأ من ذلك. فوفقًا لمسح أجرته الجمعية الأمريكية للطب النفسي، في يناير 2024م، تبيَّن أن 39% من البالغين من العمر ما بين 18 و34 سنة، يعانون مستويات عالية من الوحدة. وقد استخدم المسح تعريف الوحدة الذي اقترحه “مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها”. كما وجد المسح أن الارتفاع العالمي في الشعور بالوحدة يترافق مع زيادة مُلكية الحيوانات المنزلية التي تهدف بشكل رئيس إلى التخفيف من هذا المرض. 

هل الرضا الناجم عن اقتناء حيوان أليف مصدره الشعور بالتفوق بوصفه تعويضًا عن خسارة الإنسان لسيادته في عصر الاستهلاك؟ 

اقتناء الحيوانات المنزلية 

بالفعل، ازداد اقتناء الحيوانات المنزلية في معظم الأماكن حول العالم في الفترة الأخيرة. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، جاء في إحصاء لـ”مؤسسة الحيوان العالمية” نشرته على موقعها في 24 أغسطس 2024م، أنه “في عام 2023م، ظل امتلاك الحيوانات المنزلية حجر الزاوية في حياة الأسرة الأمريكية، حيث فتحت ثلثي (66%) العائلات منازلها للأصدقاء من ذوي الفراء أو الريش أو الزعانف. واحتلت الكلاب المركز الأول، حيث أصبحت الرفيق المفضل لـ65.1 مليون أسرة، متفوقة على القطط التي يفضلها 46.5 مليون أسرة”. 

وتشهد مُلكية الحيوانات المنزلية في المملكة العربية السعودية أيضًا ارتفاعًا ملحوظًا، وفقًا لتقرير مجلة تُعنى بالحيوانات الأليفة (GlobalPETS) نُشر في 1 سبتمبر 2023م. والعامل الرئيس لنمو مُلكية الحيوانات المنزلية في المملكة، بجانب انتشار الشعور بالوحدة، هو غلبة نسبة الشباب في عدد السكان؛ إذ إن 63% من السعوديين هم دون سن الثلاثين عامًا. وقد لاحظت المجلة أن متاجر جديدة تُفتح كل عام للحيوانات المنزلية ومستلزماتها في البلاد. كما تُنشأ عيادات بيطرية جديدة بمساعدة وزارة الزراعة السعودية، التي تساعد في إعداد المعدات وتركيبها. وتُفتتح أيضًا مصانع أغذية الحيوانات الأليفة في البلاد بمساعدة الحكومة. 

علاقة قديمة 

يُعلّق على ظاهرة انتشار اقتناء الحيوانات المنزلية مديرُ شبكة أبحاث علم الجينوم القديم والآثار الحيوية في جامعة أكسفورد، جريجر لارسون، فيقول: “إن تعلقنا الطويل بهذه الحيوانات لا يزال قويًا… إن البشر ربَّما كانوا يحتفظون بصغار الحيوانات للتسلية منذ أن عاشوا عبر التاريخ. ولكن في العادة، عندما تكبر هذه الصغار وتصبح أقل جاذبية وربَّما أكثر تمردًا، ينتهي بها الأمر إلى رميها مرة أخرى في البرية، أو ربَّما أكلها”. لكن مع الوقت استأنست بعض هذه الحيوانات البقاء مع البشر وافترقت شيئًا فشيئًا عن سلالتها. 

وكان لارسون وزملاؤه قد أجروا دراسة نشرتها مجلة “سميثسونيان” في 28 سبتمبر 2016م، فيها أدلة على أن الكلاب استؤنِست مرتين، مرة في أوروبا منذ حوالي 16 ألف سنة، ثم مرة أخرى في آسيا منذ حوالي 14 ألف سنة، من سلالتين منفصلتين من الذئاب. 

الفوائد الصحية  

وفقًا لمسح أجرته جمعية القلب الأمريكية، ونشرته مجلة “هارفارد هيلث” في ديسمبر 2022م، فإن 95% من أصحاب الحيوانات المنزلية يشعرون بانخفاض التوتر عند التفاعل مع حيواناتهم. وتقول مديرة طب نمط الحياة والعافية في مستشفى ماساتشوستس العام، الدكتورة بيث فرايتس: “تزودنا الحيوانات الأليفة بإحساس بالانتماء والتواصل والرضا الذي نتوق إليه جميعًا”. 

ووجدت الجمعية أيضًا أن امتلاك الحيوانات الأليفة يرتبط بشكل إيجابي بانخفاض خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، الذي يرتبط بدوره بانخفاض استجابة الإجهاد التي يُبلِّغ عنها أصحاب الحيوانات الأليفة. ويكون هذا الارتباط أقوى مع امتلاك الكلاب، ويرتبط أيضًا بانخفاض نسبة الكوليسترول وانخفاض معدلات ضربات القلب أثناء الراحة. 

ووفقًا لمراجعة منهجية لأربعة ملايين حالة طبية على مدى 70 عامًا، أجراها باحثون طبيون من مستشفى ماونت سيناي في تورنتو، كان ملّاك الكلاب كانوا أقل عرضة للوفاة لأي سبب بنسبة 24%، مقارنة بأولئك الذين لم يمتلكوا كلبًا. وقد نُشرت نتائج هذه المراجعة في مجلة “كونفيرزيشن” في 7 أكتوبر 2024م. 

والواقع أن الكلاب، مثلًا، تتطلب المشي المنتظم ووقتًا للعب، وهو ما يحافظ على نشاط أصحابها، وهو ما يؤدي بدوره إلى انخفاض ضغط الدم لديهم وتقليل فرصة الإصابة بالسكتات الدماغية وأمراض القلب. ووجدت الدراسة نفسها أنه حتى أولئك الذين لديهم تاريخ من أمراض القلب استفادوا من امتلاك الكلاب؛ إذ كان معدل الوفيات لديهم أقل بنسبة 35% من أولئك الذين لديهم التاريخ الطبي نفسه ولم يكن لديهم كلب. 

أمَّا بالنسبة إلى القطط، فوفقًا لإحدى الدراسات المذكورة في المصدر السابق (كونفيرزيشن)، فإنها تؤثر أيضًا بشكل مدهش على صحة الإنسان. ويشهد الأشخاص الذين يعيشون مع القطط تحسنًا في ميكروبات الأمعاء لديهم مثل انخفاض الالتهاب وتنظيم نسبة السكر في الدم. وتكون هذه التأثيرات المفيدة أوضح عند النساء.  

مع ذلك، تشير مقالة في مجلة “هارفارد هيلث” في 1 ديسمبر 2022م، إلى أنه من المهم أن نضع في اعتبارنا أن أي ارتباط لا يشير بالضرورة إلى علاقة سببية؛ فقد يكون الأمر ببساطة أن الأشخاص الذين يعيشون نمط حياة أصح هم أكثر احتمالًا لامتلاك حيوان أليف. لكن إدخال حيوان أليف في حياة المرء يأتي دائمًا مع تغيير في نمط الحياة. 

أكثر من نصف سكان العالم يعانون وباء الوحدة، والمفارقة أن غالبية المصابين بهذا الوباء هم من فئة الشباب وليس كبار السن. 

التأثيرات النفسية 

الفوائد النفسية والعاطفية لامتلاك حيوان منزلي كبيرة مثل الفوائد الصحية الجسدية. إذ يمكن لهذه الحيوانات أن تخفف بشكل كبير من القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، كما جاء في المصدر السابق من مجلة “كونفيرزيشن”. والتفاعل مع الحيوانات الأليفة عن طريق مداعبة فرائها أو اللعب معها أو حتى مجرد النظر في عيونها، يفرز “هرمون الحب” الأوكسيتوسين، الذي له تأثير جانبي يتمثل في خفض التوتر. حتى إن مجرد مشاهدة سمكة ذهبية تسبح في الوعاء، تخفف من ضغط الدم بحسب مجلة “هارفارد ماغازين” في 4 نوفمبر 2023م. 

إن رعاية كائن حي آخر يمكنها أن تغرس في الشخص شعورًا بالمسؤولية والهدف، وهو ما يحسن أيضًا جوانب أخرى من حياته. كما أنه يساعد على تحسين الانضباط؛ لأنه يتطلب اتباع روتين محدد، وهو المشي المنتظم مع الكلب، والتنظيف المنتظم لقفص الهامستر أو الطيور، وجلسات العناية المنتظمة والفحوصات البيطرية؛ وكل هذا يضيف هيكلًا ضروريًا لحياة المرء.  

وهناك أيضًا فوائد الأنشطة البدنية النموذجية التي غالبًا ما يُشارك فيها مالك الحيوان الأليف، مثل المشي واللعب؛ لأنها تعمل أيضًا على تحسين النوم ليلًا. ولكن إذا نام الشخص مع كلبه أو قطته، فقد يؤدي ذلك إلى اضطرابات في النوم، وهي غير صحية وفقًا للمصدر السابق. 

دراسات عديدة تؤكد أن اقتناء أي حيوان أليف يخفف الإحساس بالوحدة وينعكس إيجابًا على صحة صاحبه الجسدية والنفسية. 

فوائد اجتماعية 

يمكن أن يكون امتلاك حيوان أليف حافزًا على التفاعل الاجتماعي. ويعرف أصحاب الكلاب أن رفيقهم الرقيق يمكن أن يكون بمنزلة مغناطيس لجذب انتباه الأشخاص الآخرين الذين يرغبون في ملاعبة كلابهم، وهو ما قد يؤدي إلى محادثة وعلاقة جديدة. كما يتعرَّف أصحاب الكلاب غالبًا على أصحاب كلاب آخرين في المنطقة التي يعيشون فيها، ويرتبون مواعيد لعب لحيواناتهم الأليفة. ويمكن لأصحاب القطط والحيوانات الأخرى التواصل مع زملائهم من أصحاب الحيوانات المنزلية من خلال التجارب المشتركة أو الانضمام إلى مجتمع عبر الإنترنت يضم أصحاب هذه الحيوانات.  

ولكن حتى من دون الفائدة الإضافية المتمثلة في الزيادة المحتملة في التفاعل بين البشر، فإن العلاقة مع حيوان أليف يمكنها أن تخفف بشكل كبير من الشعور بالوحدة، وتحسن الحالة المزاجية؛ فكثير من الأشخاص الذين يعيشون مع حيوان أليف يعدُّونه جزءًا من الأسرة. 

نظرة من زاوية أخرى 

على الرغم من كل هذه الآراء العلمية المرموقة عن أهمية الحيوانات المنزلية، هناك آراء مختلفة تتناول الموضوع من زوايا فلسفية وعلمية معينة، طرحها بعض أهم مفكري العصر وفلاسفته، وتولّد قلقًا عميقًا إزاء العلاقة بين هذه الحيوانات وبين البشر.  

يقول الفيلسوف الفرنسي، جان بودريار، إن العلم الحديث قدَّم لنا منذ ديكارت في القرن السابع عشر عالمًا واحدًا يضم كل الكائنات الحية مُرتَّبة هرميًا من الأشكال الأكثر بدائية إلى الكائنات الحية الأعلى؛ أي الإنسان. والعاطفة التي تُسقَط على الحيوانات المنزلية تستبطن في عمقها تأكيد تفوق الجنس البشري عليها، وأن الرضا الناجم عن هذه العلاقة مصدره هذا الشعور بالتفوق بوصفه تعويضًا عن خسارته مع سيادة عصر الاستهلاك. وكان بودريار أوضح في كتابه “المجتمع الاستهلاكي” (1970م) أن الإنسان يتحول إلى شيء يشبه السلعة التي يستهلكها، وهذا يُفقده تميزه؛ إذ إن سؤال القيمة في هذا العصر يتحوَّل إلى ماذا تستهلك؟ أو بعبارة أوضح، الفرد هو ما يستهلكه. ومن المرجح أنه بتناوله الحيوانات المنزلية يذهب إلى أننا بعلاقتنا معها نحاول استعادة هذا التميز من خلال شعور التفوق على هذه الحيوانات.  

كما يتمحور كتاب الفيلسوف الفرنسي الآخر جاك دريدا، “الحيوان الذي أنا عليه” (1997م)، حول لحظة ضعف شخص محدد خلال التحديق في عيون هرته؛ إذ تولّد لديه شعورٌ بالتعري والخجل جرَّاء شعوره بانهيار الحدود بين الإنسان والحيوان. لأن تاريخ هذه العلاقة، خاصة فيما يتعلق بالعلم الحديث ونظرته الدونية للمخلوقات الأخرى، وتعامله السيئ معها في المختبرات، هو تمامًا كما لاحظه بودريار. فكّر دريدا خلال التحديق أن الحيوان هو الآن في موقع المشاهِد، وأنه هو؛ أي دريدا، في موقع المشاهَد؛ وذلك بعكس نظرتنا التاريخية الدونية بوصفنا بشرًا إلى الحيوانات، وتساءل: من أكون أنا بنظر هرتي؟ ومن هنا جاء عنوان كتابه. 


مقالات ذات صلة

يتزايد الاعتقاد الشعبي بوجود ظواهر غريبة وأجسام طائرة غير محددة تزور الأرض من الفضاء الخارجي.

رحلة البحث عن جمال الذات عبر تحسين صورة الجسم، رحلة قديمة تمتد جذورها إلى ما قبل التاريخ. وقد سُجّلت بعض محطاتها في رسومات جدارية ومنحوتات. ومع تنوُّع الأعراق البشرية واختلاف الثقافات، تباينت النظرة إلى صورة جسم الإنسان ومعايير الجمال، مُتأثرة بعوامل اقتصادية واجتماعية وغذائية وبالعلاقة بين الجنسين. وقد وصلنا إلى ذروة التأثّر في ظِل طُغيان […]

طوَّر باحثون من المعهد الكوري المتقدم للعلوم والتكنولوجيا (KAIST) طريقة غير مسبوقة لتحويل الخلايا السرطانية إلى حالة شبيهة بالطبيعية، ولديها القدرة على علاج السرطان من دون قتل الأنسجة، لتجنب الآثار الجانبية الخبيثة، وفقًا لتقرير مجلة “العلوم المتقدمة” (Advanced Science) المنشور في 11 ديسمبر 2024م.   وعلى الرغم من وجود مزيد من علاجات السرطان المتاحة الآن أكثر […]


0 تعليقات على “الحيوانات المنزلية.. دواء للوحدة؟”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *