مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2025

الجهل والنعيم..

عن الرغبة في عدم المعرفة

 يزعم أرسطو أن “كل البشر يريدون المعرفة”، ولكن تجربتنا الإنسانية تثبت أن كل البشر يريدون أيضًا عدم المعرفة. واليوم، بعد قرون من عصر التنوير، لا تزال الحشود تتبع مبشرين مزيفين، وما زالت الإشاعات غير العقلانية تؤدي إلى أعمال متطرفة، وما زال الاعتقاد بأعمال السحر والتنجيم يبزُّ المنطق والحس السليم. لماذا يحدث ذلك؟ من أين تأتي هذه الرغبة في الجهل؟ وكيف تستمر في تشكيل حياتنا؟

يرى المؤرخ في جامعة كولومبيا الأمريكية، مارك ليلا، أن هذه النزعة ليست مجرد عيب في الطبيعة البشرية، بل هي متأصلة بعمق في نفسيتنا وثقافتنا. في هذا الكتاب يبدأ “ليلا” بجولة عبر تاريخ الأفكار الغربية، ويكتشف أن قلة من الفلاسفة فقط تطرقوا إلى فوائد الجهل، وأن هذا ليس مستغربًا، لا سيّما أنه عادة ما تكون “الخطوة الأولى في الفلسفة هي معرفة مدى جهلنا”. ولكن الجهل، بحسب “ليلا”، هو أكثر من مجرد نقطة انطلاق لتوليد نقيضه، ألا وهو المعرفة. لذلك يشرع بمساعدة مجموعة من المفكرين، انطلاقًا من أفلاطون وسوفوكليس إلى المفكرين المعاصرين مثل سيغموند فرويد وإلياس كانيتي، في صياغة أفكاره ليثبت أن الجهل موضوع يستحق أن نعرف عنه الكثير.

في قصة رمزية شهيرة من كتاب “الجمهورية”، يصف أفلاطون مجموعة من الناس الذين عاشوا طوال عمرهم في كهف مظلم، مكبّلين بالأغلال، فكانوا لا يستطيعون رؤية أي شيء سوى الظلال التي تُلقيها النيران خلفهم على الحائط أمامهم. وكانوا يعدُّون أن هذه الظلال هي حقيقة واقعية. وبعد فترة من الزمن، عندما خرج رجل وفتى من الكهف المظلم إلى النور، سرعان ما توسَّل الفتى إلى الرجل ليعيده إلى الكهف، وكان يقول باكيًا: “أفتقد زملائي في اللعب، حتى لو كانوا مجرد ظلال على الحائط”.

يقول “ليلا” إن البشر هم مثل هذا الفتى الذي اشتاق إلى عزاء أوهامه السابقة، عندما تعمل الرغبة في عدم المعرفة مثل آلية حماية ضد التعقيدات الساحقة للواقع. وهو بذلك يتحدى النظرة التقليدية التي تساوي بين المعرفة والتنوير وبين الجهل والنقص، وبدلاً من ذلك، يقدم الجهل بوصفه مفهومًا دقيقًا يمكن أن يعزّز الوعي الذاتي والتأمل الأخلاقي.

يشمل الكتاب موضوعات عديدة رئيسة، مثل الحقيقة مقابل الوهم، واليقين مقابل عدم اليقين، والسلطة مقابل الحرية. أمَّا المقالات، فهي منظمة تحت عناوين مثل: التهرب والمحرمات والفراغ والبراءة والحنين إلى الماضي، بحيث يقدم كل مقال رؤى حول كيفية تفاعل هذه الموضوعات مع فهمنا للمعرفة والجهل.

وأخيرًا، بالنظر إلى تساؤل جورج إليوت في روايتها “دانيال ديروندا”: “هناك جملة شائعة مفادها أن المعرفة قوة، ولكن مَن الذي فكّر أو شرح قوة الجهل على النحو اللائق؟”، فللإجابة عن هذا التساؤل، يمكننا الإشارة إلى هذا الكتاب الذي يدعو فيه “ليلا” القرّاء إلى التفكير في ميولهم نحو الجهل في عالم متزايد التعقيد.


مقالات ذات صلة

تأليف: بول تايلر ترجمة: سلمى الحافي الناشر: الساقي، 2025م على غلاف النسخة الإنجليزية من هذا الكتاب، سيشاهد القارئ هيكلًا عظميًّا متمددًا على أريكة مريحة يُتابِع التليفزيون، وبيده ما يبدو أنه هاتفه المحمول، ومن حوله تتناثَرُ وجبات الطعام السريعة. ويشكل هذا، باختصار، المعنى العام للمضمون، الذي أراد أن ينقله مؤلِّف هذا العمل خبير التغذية والباحث في […]

تأليف: جوزويه باجيو ترجمة: عبدالفتاح عبدالله الناشر: هنداوي، 2024م اللُّغويات العصبية، كما نقرأ في مقدمة هذا الكتاب، هي “دراسة الأساسات العصبية للغات البشرية”، وهي ترتبط بشبكات الخلايا العصبية في المخ، والطرائق التي تتفاعَلُ بها، بما يسمح للبشر بالتعلُّم والتمكُّن من لغة أو أخرى. وهي نتيجة لتلاقي علم الأعصاب وعلم اللغة، لكن يدخل في نِطاق عملها […]

تأليف: جمال غالي الحميد الناشر: رشم، 2024م يؤكد هذا الكتاب أن القصة القصيرة جدًّا في الأدب السعودي تجاوزت مرحلة التجارب إلى مرحلة النُّضج، ثم إلى مرحلة التجديد، وأصبح لها كُتَّابها المتمكنون من أدواتها، وصار لها كذلك جمهور من المتلقين الواعين بخصوصيات هذا الفن السردي الحديث، مقارنةً بأنواع الكتابة الإبداعية المطوَّلة. يقول المؤلف الباحث جمال غالي […]


0 تعليقات على “الجهل والنعيم”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *