مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو - يونيو | 2025

الجانب المُشرق للقلق

ميزة تكيفية ومصدر إلهام غير متوقع

مهى قمر الدين

هناك فرق بين القلق الطبيعي الذي يشمل مشاعر عدم الارتياح والخوف والترقُّب تجاه مواقف حياتية مختلفة، مثل البدء بوظيفة جديدة، أو إجراء عملية جراحية، وبين القلق المفرط والمستمر الذي يؤدي إلى اضطرابات مختلفة، مثل: اضطراب القلق المعمم (GAD)، واضطراب الهلع، واضطراب القلق الاجتماعي، والرُّهاب المحدد، كما حددها تصنيف الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM-5)، وتتميز جميعها بالخوف الشديد والقلق الذي يؤثر في الأداء اليومي، ويُعطّل جودة الحياة. ولكن، على الرغم من أن النوع الثاني يعدُّ مرضًا يجب استئصاله والتحكم فيه للتخفيف من تأثيره السلبي، فإن النوع الأول من القلق هو ميزة بشرية تطورية مهمة تسمح لنا بالتخطيط ووضع الإستراتيجيات والاستعداد للتحديات المحتملة، بحيث يعمل بوصفه قوةً تحفيزيةً تدفع الأفراد إلى اتخاذ تدابير استباقية في مواجهة عدم اليقين، إضافة إلى قدرته على أن يكون من أهم محفزات التميّز والإبداع.

في حين يبدو الخوف متأصلًا في أشياء وظروف محددة، فإن القلق غير مكتمل، هو فزع بلا شكل، خوف من لا شيء، هو شعور ثقيل، همس لا يهدأ يهزُّ كيان النفس الساكنة، وهو مثل الضباب المُلبَّد في يوم مشمس عندما يحجب الأفق، ويحوِّل السماء المشرقة إلى رمادية. هو رفيق صامت يختبئ في زوايا الأفكار وينغص صفاءها، يمكن وصفه بأنه استجابة عاطفية معقدة تشمل مشاعر التوتر والخوف والترقُّب بشأن عدم اليقين في المستقبل. وغالبًا ما يتميز بحالة متزايدة من الوعي والتغيرات الفسيولوجية، مثل زيادة معدل ضربات القلب وتشنج العضلات. وكما تعرّفه الجمعية الأمريكية لعلم النفس، فإن “القلق هو عاطفة تتميز بمشاعر التوتر والأفكار المقلقة والتغيرات الجسدية مثل ارتفاع ضغط الدم”.

 والقلق هو من أكثر المشاعر الإنسانية انتشارًا. ففي الزمن الحالي، بات يعدُّ بأنه وباء العصر، ومن بين أبرز الدلائل على ذلك أن موقع “غوغل تريندز” يوضح أن البحث عن كلمة (anxiety) “القلق” ارتفع بنسبة %300 منذ عام 2004م وحتى يومنا هذا. وهذا ما جعله يصبح من بين أكثر الاضطرابات النفسية تشخيصًا وعلاجًا، حتى نشأت صناعة كاملة للمساعدة في القضاء عليه، من كتب المساعدة الذاتية والعلاجات الشاملة إلى الأدوية والعلاجات السلوكية المتطورة.

ميزة تكيفية مفيدة

 لكن هذا التعاطي مع القلق، بوصفه شعورًا يجب التخلُّص منه ومرضًا يجب استئصاله، يتجاهل الطبيعة متعددة الجوانب للقلق، فيجب ألا يُنظر إليه دائمًا بأنه عبء يحدُّ من قدراتنا، أو مصدر للضيق وعدم الراحة؛ وذلك لأن للقلق ميزة تكيفية تساعدنا على ترقُّب ما سيحدث في المستقبل والاستعداد له بشكل أفضل.

يقول أستاذ الفلسفة في كلية بروكلين الأمريكية، سمير تشوبرا، في كتابه “القلق: دليل فلسفي” (2024م): “أن تشعر بالقلق يعني أن تكون إنسانًا”، و”أن تكون إنسانًا يعني أن تشعر بالقلق”، مشيرًا إلى أن الشعور بالقلق جزء لا مفرَّ منه في الوجود البشري، كما أنه حالة إنسانية عالمية ودائمة. ولكنه أكثر من ذلك، هو انتصار للتطوُّر البشري؛ لأنه استجابة عاطفية معرفية نشأت جنبًا إلى جنب مع واحدة من أعظم سماتنا: القدرة على التفكير في المستقبل غير المؤكد ومواجهته بطريقة أفضل.

العلاقة بين القلق والإبداع ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل هي اتصال عميق يدخل في صلب الطريقة التي تعمل بها عقولنا.

 يضعنا القلق في “زمن المستقبل” (حقًّا)، بل إنه يحوِّل الشخص إلى مسافر ذهني عبر الزمن، فيلفت انتباهه إلى ما قد ينتظره، ويجبره على تصور الاحتمالات، سواء أكانت جيدة أم سيئة، والتصرف بطرقٍ من شأنها تفادي وقوع كوارث في المستقبل، وربَّما أيضًا تحويل الاحتمالات الإيجابية إلى واقع. وجدير بالذكر أن هذه الرؤية الإيجابية للقلق كان قد أقرَّها علماء النفس الإكلينيكيون مثل ديفيد بارلو، مؤسس مركز القلق والاضطرابات ذات الصلة في جامعة بوسطن الأمريكية، الذي يقول في كتابه “القلق واضطراباته” (2002م)، إن القلق “يعمل على التحذير من موقف خطير محتمل ويحفز تجنيد آليات نفسية داخلية”، وأن هذه الآليات مهمة لأنها تسمح لنا بالانخراط في “مستوى أعلى وأنضج من الأداء”.

جذور تطورية عميقة

إن هذه الميزة التكيفية للقلق ذات جذور تطورية عميقة تعود إلى آلاف السنين. وكان من بين الذين أشاروا إليها علماء النفس من أمثال نيكو فريجدا وجوزيف كامبوس، إذ عدَّا أن القلق مثله مثل اللغة، أداة للبقاء تشكّلت وصُقلت أثناء عملية التطور التي مر بها البشر على مدى السنين من أجل حمايتهم وضمان ازدهارهم. وهي تفعل ذلك من خلال توفير أمرين اثنين: المعلومات والتأهب. فقد واجه البشر الأوائل كثيرًا من التهديدات من الحيوانات المفترسة والتحديات البيئية، وهو ما استلزم حالة متزايدة من الوعي، وكانت هذه اليقظة المفرطة أمرًا ضروريًا للبقاء؛ لكي يتمكن أسلافنا من اكتشاف الخطر والاستجابة بسرعة. وكما هو مذكور في علم النفس التطوري، تطوَّر القلق بوصفه نظام تحذير مبكر ينبِّه الأفراد إلى التهديدات المحتملة ويُسهّل اتخاذ القرارات السريعة. ومن هنا، فإن التمييز بين الخوف والقلق أمر بالغ الأهمية في فهم هذا التطوُّر. فالخوف هو رد فعل فوري لتهديد محدد، في حين أن القلق ينطوي على عملية إدراكية أكثر تعقيدًا تتوقع الأخطار المستقبلية، فهي تمنحنا القدرة على إسقاط الذات في المستقبل والنظر في النتائج المختلفة، وهي قدرة تَميّز بها البشر عن أنواع المخلوقات الأخرى.

قيمة أبعد من مجرد غرائز البقاء

وتمتد القيمة التكيفية للقلق إلى ما هو أبعد من مجرد غرائز البقاء، بحيث إنها تُعزِّز المرونة وتشجِّع الأفراد على تطوير إستراتيجيات التأقلم التي تعزِّز رفاهيتهم العامة. وفي السياقات الحديثة، يمكن أن يتجلى ذلك في البحث عن الدعم الاجتماعي خلال الأوقات العصيبة والانخراط في ممارسات العناية الذاتية. ومن المثير للاهتمام أن الأبحاث تشير إلى أن المستويات المعتدلة من القلق يمكن أن تعزِّز اللياقة التطورية، فغالبًا ما يكون الأفراد الذين يعانون القلق أكثر انسجامًا مع بيئاتهم، وهو ما يسمح لهم باكتشاف التغييرات الدقيقة والتهديدات التي قد يتجاهلها الآخرون. ويمكن لهذا الوعي المتزايد أن يؤدي إلى اتخاذ قرارات أفضل وتحسين القدرات على حل المشكلات، وهي السمات التي تعدُّ مفيدة في كلٍّ من المجالات الشخصية والمهنية.

القلق مصدر للإلهام

يعدُّ الفيلسوف الدنماركي، سورين كيركيجارد، أن القلق يشكِّل عنصرًا ضروريًا للإبداع. وأكثر من ذلك، فهو يقول إن من دونه تصبح العبقرية ناقصة. ويؤكد هذا الأمر، ديفيد بارلو، فيقول: “من دون القلق، لن يتحقق الكثير، وسوف يعاني أداء الرياضيين والفنانين والمديرين التنفيذيين والحرفيين والطلاب، وسوف يتضاءل الإبداع، وقد لا تُزرع المحاصيل. وسوف نحقق جميعًا تلك الحالة المثالية التي طالما سعينا إليها في مجتمعنا السريع الخطى، والتي تتمثل في قضاء حياتنا تحت ظل شجرة، ولكن ذلك سوف يكون مميتًا للنوع البشري مثل الحرب النووية”.

وبالفعل، هناك علاقة متناقضة بين القلق والإبداع. فالقلق هو بمنزلة عاصفة داخل النفس، تُلقي بظلالها غالبًا على الروح الإبداعية، ولكن القلق يعمل في الوقت نفسه كمحفز قوي على الإبداع؛ إذ يمكن لعدم الراحة الناتج عن الأفكار المقلقة أن يضيء شعلة الإلهام، ويؤدي إلى تعبير إبداعي عميق.

وهذه العلاقة بين القلق والإبداع ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل هي اتصال عميق يدخل في صلب الطريقة التي تعمل بها عقولنا. فعندما يبدأ القلق، تتسارع دقات القلب، ويعمل العقل بنشاط زائد، مستحضِرًا صور عدم اليقين والخوف. ومع ذلك، تكمن داخل هذه الفوضى طاقة فريدة من نوعها تحفِّز على استكشاف أفكار جديدة وتدفع حدود الخيال. فعندما يتحول دماغنا إلى العمل بطريقة أسرع، يصبح شديد الوعي بمحيطه، وهو ما يمنحه قدرة فائقة على ملاحظة التفاصيل. ويمكن لهذه الحساسية المتزايدة للبيئة المحيطة أن تغذي الخيال، وتُقدِّم وجهات نظر وأفكارًا جديدة تكون مادة غنية للمساعي الإبداعية. ثم إن العقل القلق يميل إلى التفكير أكثر في “ماذا لو”، التي يمكن أن تكون أداة فعَّالة للعصف الذهني والتفكير المبتكر. وهكذا يتحول القلق إلى مصدر إلهام غير متوقع، يمكن فيه للأشخاص استكشاف أعماق إبداعهم، وتوجيه مخاوفهم وقلقهم الداخلي إلى تعبيرات عن الجمال والبصيرة والابتكار.

الخوف هو رد فعل فوري لتهديد محدد، في حين أن القلق ينطوي على عملية إدراكية تتوقع الأخطار المستقبلية، وهي قدرة تميز بها البشر عن أنواع المخلوقات الأخرى.

وفيما يتعلق بالقلق، فليس النشاط الزائد في عمل الدماغ هو وحدَه الذي يغذِّي الإبداع، ولكن يمكن لمشاعر القلق أن تؤدي إلى التعمق العاطفي عندما تفرض التأمل الذاتي في رحلة إلى أعماق النفس، حيث يتصارع المرء مع نقاط الضعف والخوف وعدم اليقين. فمن خلال عدسة القلق، نرى العالم في ظلال عميقة، حيث تتكثف المشاعر ويزدهر التعاطف والإدراك الأعمق للتجارب الإنسانية. وكل ذلك يُمهِّد أرضًا خصبة حيث يتألق الإبداع.

لقد استخدم كثير من الفنانين والكتَّاب المشهورين قلقهم في أعمالهم، وكان بمنزلة وقود لإبداعاتهم. فعند مواجهة المشاعر الساحقة، يمكن أن يوفر اللجوء إلى الفن منفذًا للتعبير والراحة. فعلى سبيل المثال، وُلدت لوحة إدوارد مونش الشهيرة “الصرخة” من صراعه مع القلق والخوف الوجودي. وحتى يومنا هذا يتردد صدى المشاعر الخام التي التُقِطت في هذا العمل الفني لدى كل من يتأملها، وهو ما يوضح كيف يمكن لمشاعر القلق والاضطراب الشخصي أن تؤدي إلى تعبير فني عميق.

إضافة إلى ذلك، فإن التاريخ مليء بأمثلة شهيرة من المبدعين الذين عانوا اضطرابات القلق، وممن سمح لهم القلق الخوض في مناطق مجهولة من الفكر والعاطفة، ومن بينهم الرسام الهولندي فينسنت فان غوغ. فهذا الفنان الذي عانى مشكلات صحية وعقلية كان صاحب قلق موثّق بدقة في رسائله الخاصة، كما كتب في رسالة إلى شقيقه ثيو “أنا دائمًا في حالة من القلق”. وقد غذَّت هذه الاضطرابات المستمرة إبداعه، وهو ما سمح له بالتعبير عن المشاعر القوية من خلال الألوان النابضة بالحياة وضربات الفرشاة الديناميكية. فعكست لوحاته مثل “ليلة النجوم” الفوضى الداخلية التي يعيشها من خلال الأنماط الدائرية والألوان المتناقضة، في حين التَقطت، في الوقت نفسه، جمال السماء الليلية.

أمَّا الكاتبة الكندية مارجريت أتوود، فقد ناقشت بصراحة تجاربها مع القلق وكيف يؤثر ذلك في كتابتها. ففي إحدى محاضراتها حول الكتابة الإبداعية، أكدت أهمية تحديد مكامن القلق بوصفه وسيلة للتغلب عليها. وتقول إن فعل الكتابة يقسم الذات غالبًا إلى قسمين: جزء يخلق وآخر يراقب، ويمكن أن تخلق هذه الثنائية، القلق، ولكنها تثري أيضًا عملية السرد. وتستكشف روايتها “حكاية الخادمة” موضوعات السيطرة والقمع، وهو ما يعكس قلقها بشأن القضايا المجتمعية. وهناك مثال آخر، هو الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي، الذي ترتبط علاقته بالقلق ارتباطًا وثيقًا. وقد اشتهر بنثره المقتضب واستكشافه للموضوعات الوجودية، وغالبًا ما استمد أفكاره من صراعاته مع الصحة العقلية. فقد قال ذات مرة: “لا يوجد صديق مخلص مثل الكتاب”، مشيرًا إلى كيف كانت الكتابة بمنزلة ملجأ له من قلقه.

وأخيرًا، لا يمكننا إلا الموافقة مع ما أشار إليه عالم النفس الأمريكي، رولو ماري، في كتابه “معنى القلق” (2015م)، عندما فنَّد الفكرة القائلة إن “الصحة العقلية هي العيش من دون قلق”، ولا يمكننا إلا الدعوة إلى استعادة القلق من كل التهديدات الطبية أو غيرها التي تحاول أن تخلصنا من عبء هذا الشعور، ولا سيَّما في مستوياته الطبيعية؛ لأن القلق هو ضرورة إنسانية من أجل شحذ الطاقات، وإنتاج التوتر اللازم للحفاظ على الوجود البشري، بل من أجل إثراء هذا الوجود من خلال عمله محفِّزًا على مختلف الأعمال الإبداعية.


مقالات ذات صلة

من الأعلى، من نافذة الطائرة في رحلة من الرياض إلى جدة، تظهر في الأسفل سبع فوهات لبراكين خامدة تنتظم في خط مستقيم. منظرها مذهل، ويُغري برحلة إليها واستكشافها عن قرب.

عاطفة الأبوين قيمة يعرفها ويقرّ بأهميتها الجميع، وتختلف هذه العاطفة عن كل أشكال العواطف الأخرى؛ لأنها وجودية بالنسبة إلى الطرفين.

في قلب مدينة مونتريال الكندية، حيث يلتقي التاريخ بالحاضر، يتجسَّد مشروع “سيتي ميموار” أو “مدينة الذاكرة” ليُقدِّم تجربة حضرية رائدة من خلال تركيب مبتكر يهدف إلى بعث تاريخ المدينة الغني إلى الحياة.


0 تعليقات على “الجانب المُشرق للقلق”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *