مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2020

“الثقافة المؤسساتية”
هل يمكن قياسها؟


مهى قمر الدين

تماماً كما هي الشخصية بالنسبة للفرد، فإن ثقافة مكان العمل هي شخصية المؤسسة والروح التي تبعث فيها الحياة والنبض الخفي الذي يحدِّد إيقاع العمل فيها. أما من ناحية تعريفها، فتُحدّد ثقافة مكان العمل من خلال السلوك العام الناتج عن وصول فريق العمل إلى مجموعة من القواعد غير المعلنة وغير المكتوبة للعمل معاً، أي إلى نظام من القيم والقناعات والأهداف المشتركة التي تسهم في تحديد المناخ الاجتماعي والنفسي في المؤسسة، وتؤثر في الطريقة التي ينظر بها الموظفون والعملاء وحتى الجمهور العام إلى المؤسسة وهويتها المميزة.

يعتقد البعض أن الثقافة لا يمكن هندستها، وأنها تنشأ بشكل تلقائي دون أي تخطيط مسبق. ولكن الأمر ليس بالتلقائية التي نعتقدها، لأن الثقافة تتألَّف من جميع التجارب الحياتية التي يحملها كل موظف إلى المؤسسة التي يعمل فيها، إضافة إلى التأثر بشكل خاص بمؤسس العمل والمديرين التنفيذيين وغيرهم من الموظفين الإداريين بسبب دورهم في صنع القرار والتوجيه الاستراتيجي.
وهذا ما أكده تقرير صدر في عام 2013م عن شركة “غالوب” الأمريكية التي تقدِّم الاستشارات الإدارية والبحوث الإحصائية، وأفاد بأن الموظفين، بالإجمال، يعتقدون أن مديرهم يؤثر على ما تبلغ نسبته %70 من درجة انخراطهم في العمل، بينما يؤثر زملاؤهم بنسبة %30.

“الثقافة تلتهم الاستراتيجية على وجبة إفطار”. وهذا إعلان قوي أن الثقافة هي من أبرز العوامل التي تسهم في نجاح أو فشل الاستراتيجيات التي يضعها المديرون وأرباب العمل.

أهميتها في نجاح الأعمال
إذا ما بحثنا عن عبارة “الثقافة المؤسساتية” على موقع غوغل، سنحصل على أكثر من مليار زيارة للبحث عنها، كما سنجد على شبكة الإنترنت وخارجها آلاف الكتب والمقالات التي تتناولها من جوانبها المختلفة. فمن الواضح أن هناك كثيراً من الاهتمام بالدور الذي تلعبه الثقافة المؤسساتية وأماكن العمل. ولكن لماذا كل هذا الاهتمام؟
لا شك في أن للثقافة أهمية كبرى في نجاح وازدهار الأعمال. إذ إنها المحرك الذي يدفع زخم العمل داخل المؤسسة ويوجهه في الاتجاه الصحيح.
فعلى الرغم من أهمية الاستراتيجية في أي مجال من المجالات إلا أن الخبير الاقتصادي الأمريكي الشهير بيتر دراكر يقول إن: “الثقافة تلتهم الاستراتيجية على وجبة إفطار”. وهذا إعلان قوي أن الثقافة هي من أبرز العوامل التي تسهم في نجاح أو فشل الاستراتيجيات التي يضعها المديرون وأرباب العمل. فالثقافة هي التي تفعّل هذه الاستراتيجيات بأفضل الطرق لأنها توجه قرارات الموظفين بشأن احتياجاتهم وخططهم العملية، وتحدِّد كيفية تفاعلهم مع زملائهم ومديريهم في العمل.
ومن جهة أخرى، وبغض النظر عن حجم المؤسسة الفعلي، وكما يقول الروائي الأمريكي الشهير مارك توين: “ليس حجم الكلب هو المهم في القتال، وإنما المهم هو حجم القتال في الكلب”، ليذكرنا بأن الشراسة ليست بالضرورة مسألة حجم جسدي بل إنها موقف عقلي ونفسي، لا يمكن لأي مؤسسة، سواء أكانت شركة ناشئة تضم بضعة موظفين أو مؤسسة كبرى تضم آلاف الموظفين، أن تستمد هذا “الموقف العقلي والنفسي” السليم إلا من خلال ثقافة متينة تعطيها التماسك والانسجام، وتمكِّن الموظفين من العمل بشكل تعاوني ومساعدة بعضهم بعضاً من أجل تحقيق أهدافهم، مما يعطي المجموعة القوة التي تساعدها على “القتال” لكي تتغلب على أي منافسة.

وتسهم الثقافة المؤسساتية الناجحة في تكوين عامل آخر هو “الدافع”. ففي كتابه “الدافع: الحقيقة المدهشة حول ما يحفزنا”، يقول المؤلف دانيال إتش بينك: “يُعد الافتقار إلى الدافع أحد الأسباب الرئيسة وراء عدم رضا الأشخاص عن عملهم، والسبب الرئيس لتركهم وظائفهم وبحثهم عن فرص أخرى. والثقافة المؤسساتية الجيدة، بحكم طبيعتها، هي التي توفر الدافع المناسب الذي يجعل الهدف الذي يسعى الموظفون إلى تحقيقه يتماشى مع أهداف المؤسسة. وهذا التوافق بين الأهداف وطريقة التفكير يدفع الموظفين إلى الأداء الجيد والتوجيه الذاتي والولاء للمؤسسة التي ينتمون إليها”.
كما أن الهوية وصورة العلامة التجارية تتحدَّدان من جرّاء ثقافة المؤسسة وطريقة عمل موظفيها. وما كانت منتجات شركة “أبل” مثلاً، لتحظى بسمعتها المرموقة لولا الثقافة العملية الممتازة التي عُرفت بها الشركة. إذ من المعروف أن “أبل” تتمتع بثقافة مميّزة يمكن استشرافها بسهولة من خلال إلقاء نظرة واحدة على منتجاتها ومقراتها في العالم، ومن خلال التفاعل ولو قليلاً مع موظفيها. فالأشخاص هم الذين ينشئون المؤسسة والمؤسسة هي التي تحدِّد هويتها وعلامتها التجارية الخاصة التي تلعب دوراً كبيراً في مدى استقبال السوق لها ورواجها فيه.

بسبب أهميتها ودورها الكبير في نجاح الأعمال، ظهرت محاولات عديدة لتقييم الثقافة المؤسساتية وتحديد معايير معيَّنة لقياسها من أجل فهمها بشكل أفضل.

أهميتها التي تستدعي محاولة قياسها
بسبب أهميتها ودورها الكبير في نجاح الأعمال، ظهرت محاولات عديدة لتقييم الثقافة المؤسساتية وتحديد معايير معينة لقياسها من أجل فهمها بشكل أفضل. ولكن أولاً، ومن أجل ضمان القيام بقياس موثوق وناجح، علينا أن نعرف أن كل شركة تختلف عن الأخرى، ويختلف كل قطاع عن غيره من القطاعات، كما أن هناك اختلافات داخل مجموعة العمل الواحدة. لذلك، لا بد من اختلاف المعايير وطرق القياس وتجنب الانغماس في إيجاد مقياس مثالي واحد قابل للتطبيق بشكل معياري على الجميع.
إضافة إلى ذلك، من المفيد التفكير بالقياس، ليس كنقطة سحرية واحدة، ولكن كتقارب نقاط بيانات متعدِّدة. وفي الواقع، هناك عديد من المعايير المعتمدة والاستطلاعات المختلفة لقياس الثقافة المؤسساتية، وكلها تحاول تسليط الضوء على مكامن الطاقة والحركة داخل المؤسسة.
فهناك أولاً استطلاعات الارتباط بالعمل، حيث يتم قياس مدى الجهد الذي يضعه الموظفون في إنجاز مهماتهم ومدى حماستهم للعمل واستعدادهم للذهاب إلى ذلك الحد الإضافي لإتمام العمل على أكمل وجه. ولا يعني ذلك بالضرورة العمل لساعات إضافية بل يمكن أن يعني بالفعل زيادة المهارات أو العمل بطريقة متداخلة المهام لتوفير قيمة أكبر للمؤسسة.

ويسمح هذا الاستطلاع بقياس مدى اقتناع الموظفين بقيم المؤسسة وأهدافها، وهو أمر مهم، نظراً لأنه من المعلوم أن الموظف المرتبط بعمله يزداد احتمال ذهابه إلى ذلك الحد الإضافي أربع مرات أكثر من الموظف الذي لا يشعر بهذا الارتباط. وبما أن %13 فقط من الموظفين في 142 دولة يُعدّون بأنهم “مرتبطون” بعملهم، وفقاً للدكتورة آمي أرمسترونغ في دراسة نشرت في صحيفة “أنكوريج”، فإن الدفع لزيادة نسبة الارتباط من خلال الثقافة المؤسساتية يُعدُّ أمراً مطلوباً بالفعل.
وهناك استطلاعات جس النبض التي أصبحت شائعة بشكل متزايد، وفي حين أنها تُعدُّ مشابهة لاستطلاعات الارتباط بالعمل، إذ تقيس العناصر نفسها تقريباً، ولكن الاختلافات الأساسية تكمن في انتظام وتواتر وقت إجرائها، إذ توفر لقطة زمنية لمدى مشاركة الموظفين داخل المؤسسة أو ضمن فريق العمل الواحد.
وبالنظر إلى أن البيانات الناتجة عن هذا الاستطلاع يتم جمعها على أساس شهري أو فصلي، فإنها توفر بُعداً جديداً للتحليل، يمكن أن يقدِّم معلومات سريعة تساعد في رسم الاتجاهات بمرور الوقت والتدخل عند الضرورة والبدء في ربط التحسينات بالإجراءات التي تتخذ داخل المؤسسة. 
وهناك أيضاً المؤشرات التي تساعد على تقييم مستوى المشاركة في الجهود الثقافية للمؤسسة التي تُعدُّ معايير سهلة التحديد مثل عدد المتطوعين المشاركين في نشاط ثقافي معيَّن أو عدد المقالات المتعلقة بالثقافة المنشورة على موقع المؤسسة على الإنترنت. وأيضاً الملاحظات الشخصية لموظفين قاموا بأمور خارجة عن المألوف سواء أكانت مهمة أو ثانوية، ومن ثم قاموا بمشاركتها مع زملائهم الآخرين من خلال تدوينها على مواقع الإنترنت أو من خلال رسائل البريد الإلكتروني الدورية.

يتم تحديد البصمة الثقافية، ليس من خلال جمع مقابلات الموظفين واستبياناتهم الخاصة، ولكن من جرَّاء تحليل البيانات المتاحة للجمهور التي تُسمى بـ “المؤشرات غير التطفلية لثقافة المؤسسات” مثل التقارير السنوية والسجلات المالية والبيانات الصحافية ومستويات الإنفاق على الأبحاث، وحتى ما إذا كان المديرون التنفيذيون يستجيبون بشكل مناسب عن أسئلة المحللين.

القياس من الخارج والمؤشرات
“غير التطفلية” 

تتعلق كل هذه الأمثلة بمعايير داخلية تدخل في صميم عمل المؤسسة. ولكن هناك تحديات كبيرة تقف أمام هذه الاستطلاعات قد تجعلها غير موثوقة من حيث جعلها تميل نحو الإيجابية في كثير من الأحيان، وتفتقر إلى الكشف عن اللامبالاة أو الخوف لدى الموظفين. لذلك، هناك من يرى أن المقياس الأفضل للثقافة المؤسساتية هو ما يقدِّم نظرة خارجية إلى المؤسسة ككل. وهو الأمر الذي دفع علماء النفس في كلية لندن للاقتصاد إلى ابتكار وسيلة لتحديد حجم “البصمة” الثقافية للمؤسسة من الخارج. ومن خلال هذه الوسيلة يتم تحديد البصمة الثقافية، ليس من خلال جمع مقابلات الموظفين واستبياناتهم الخاصة، ولكن من جرَّاء تحليل البيانات المتاحة للجمهور التي تسمى بـ “المؤشرات غير التطفلية لثقافة المؤسسات” مثل التقارير السنوية والسجلات المالية والبيانات الصحافية ومستويات الإنفاق على الأبحاث، وحتى ما إذا كان المديرون التنفيذيون يستجيبون بشكل مناسب عن أسئلة المحللين.
ولكن، رغم كل ذلك، فإن عديداً من العناصر الثقافية – بما في ذلك العوامل البشرية المهمة مثل العمل الجماعي – تبقى بعيدة عن متناول الخوارزميات والاستطلاعات. إذ إن الثقافة ليست مجرد لقطة أو جدول بيانات، بل هي قصة من الصعب إعادة كتابتها. ولكن إذا ما فشلنا في قراءتها بشكل جيد فإن النهاية غير السعيدة ستكون في انتظارنا بالتأكيد.
ومهما يكن من أمر، يمكننا، على الأقل، تحديد إطار عام لهذه “القصة”، ويمكننا العودة في ذلك إلى من لُقِّب بأرسطو الهندسة المعمارية المهندس المعماري الروماني الذي ولد في عام 80 قبل الميلاد ماركوس فيتروفيوس بوليو، الذي حدد في كتابه “العمارة” ثلاثة شروط أساسية للعمارة الجيدة، وهي أن تكون: دائمة ومفيدة وجميلة. وما ينطبق على العمارة الجيدة ينطبق تماماً على الثقافة المؤسساتية الجيدة التي يجب أن تكون دائمة، أي ذات قدرة على تحمل الضغط والمنافسة، وأن تكون مفيدة، أي أن تتناسب مع وظيفة الشركة وموقعها وطبيعة موظفيها، وأن تكون جميلة، أي جذابة وممتعة لأولئك الذين يعملون بها. 


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


0 تعليقات على ““الثقافة المؤسساتية””


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *