مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2025

من شبه الجزيرة في شرق آسيا إلى القارات الخمس

الثقــافة الكـورية تجسر ما بين اللغات والمجتمعـات


لي يي جي (لمياء)

مثل المد الجارف اجتاحت الموجة الثقافية الكورية آفاقًا عالمية، وحوّلت كوريا الجنوبية من مشهد ما بعد الاستعمار و “معجزة نهر هان” (وهو التعبير الذي يُشير إلى فترة النمو الاقتصادي السريع في أعقاب الحرب الكورية 1950م – 1953م) إلى كوكبة ثقافية مضيئة. ولدت هذه الظاهرة من الأزمة المالية الآسيوية عام 1997م، وظهرت مثل سمفونية من الإبداع، عندما نُسجت القيم الكورية التقليدية مع التطور والابتكار، متجاوزةً الترفيه المجرد لتصبح سردًا عميقًا للنهضة الثقافية. فمن الإيقاعات الساحرة لموسيقى البوب الكورية والمسلسلات الدرامية الناجحة والأفلام السينمائية التي حققت نجاحًا عالميًا، إلى جائزة نوبل للأدب التي مُنحت للروائية الكورية الجنوبية، هان كانغ، عام 2024م، كانت الموجة الكورية بمنزلة نبض ثقافي يتدفق عبر القارات، يجسر بجاذبيته الانقسامات اللغوية والمجتمعية. واللافت في الأمر أن هذه الموجة لم تكن ترتكز على إستراتيجية محسوبة، بل كانت نجاحًا غير مقصود؛ أي أنها ازدهار تلقائي للإبداع غذَّته عوامل عديدة متشعبة ومتنوعة. 

أثار الأدب الكوري ضجة غير مسبوقة في السوق العالمية بعدما فازت الكاتبة هان كانغ بجائزة نوبل للأدب في العام الماضي، وهو ما سلَّط الأضواء العالمية مرة أخرى على الثقافة الكورية أو “الهاليو”. ويعدُّ هذا الإنجاز سبقًا ثقافيًا ذا معانٍ كثيرة، من أهمها توسُّع موجة انتشار الثقافة الكورية لتشمل الأدب، وهو ما أسهم في جذب اهتمام الكثيرين إلى هذه الظاهرة الثقافية المتنامية التي امتدت إلى جميع أنحاء العالم. 

في بداياتها، كانت “الهاليو” تقتصر على الدراما والموسيقى، لكنها اليوم أصبحت تشمل مجالات متنوعة مثل: الأفلام والموضة والأدب والطعام، وغيرها. ومع ذلك، يتساءل كثير من الناس حول سر نجاحها المستدام: هل هو الحظ الجيد؟ هل هو بفضل الأعمال البارزة، أم هو نتيجة دعم الحكومة الكورية للثقافة؟ وفي الواقع، يصعب تفسير استمرارية انتشار “الهاليو” بعامل واحد فقط، فهي ليست مجرد نتيجة للمصادفة أو الحظ، بل هي ثمرة جهود معقدة ومنظمة ومتكاملة. 

ما “الهاليو”؟ 

هي ظاهرة انتشار الثقافة الشعبية الكورية من آسيا إلى مختلف أنحاء العالم عبر ثلاث مراحل أساسية. إذ نشأت عام 1997م مع بدء عرض الدراما الكورية في الصين، حيث حققت نجاحًا كبيرًا، ثم انتقلت إلى تايوان وفيتنام خلال أواخر التسعينيات وبداية الألفية الثالثة. وفي منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت موسيقى البوب الكوري أو “الكي بوب” محط اهتمام عالمي. إذ إن فرقها الموسيقية مثل: “إكسو” و”سفنتين” و”بلاكبينك”، ولا سيَّما فرقة “ساي” وأغنيتها الشهيرة “غانغام ستايل”، حققت نجاحات عالمية لافتة على الساحة العامة، وأيضًا على المسارح رفيعة المستوى مثل مؤتمرات اليونسكو وغيرها. والجدير بالذكر أن الفرقة الكورية “سفنتين” كانت قد شاركت في الدورة 13 لمنتدى اليونسكو للشباب في 14 نوفمبر 2023م بمقر المنظمة في باريس. وفي المرحلة الثالثة؛ أي منذ 2010م وحتى اليوم، أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز تأثير الموجة الكورية لتشمل مجالات ثقافية وفنية متعددة. ولم يتوقف نمو “الهاليو” عند هذا الحد، بل تطوّرت مضامين الكلمة لتتحول إلى مصطلح دارج يفهمه كل من يسمعه وهو “ثقافة الكي” الذي يُشير إلى دمج التقاليد في المحتوى الثقافي الحديث، ليستهدف جمهورًا عالميًا يتجاوز قارة آسيا.  

كي – دراما.. مزيج بين جودة المحتوى والمشاعر الإنسانية  

فيما يتعلق بشعبية الدراما الكورية، كثيرًا ما يُستند إلى نظرية “القرب الثقافي” لتفسير هذا النجاح. إذ يُقال إن الناس أحبوا الثقافة الكورية بسبب تشابهها مع ثقافاتهم. وعلى الرغم من أن هذا التفسير كان منطقيًا في بدايات انتشار الموجة الكورية في آسيا، فإن تأثيره تضاءل مع توسع نطاقها عالميًا. وقد بدأ المحللون في السنوات الأخيرة، في إسناد هذا الانتشار إلى مفهوم “القرب فوق الوطني”، حيث نجحت الـ”كي – دراما” في دمج المشاعر الكورية مع موضوعات عالمية يمكن للجميع التعاطف معها. فعلى عكس السينمات الأخرى التي تهتم بموضوعات معينة، مثل هوليوود التي تركز غالبًا على الأبطال الخارقين أو حروب الفضاء، تتناول الدراما الكورية قصصًا مستمدة من ثقافتها، وموضوعات إنسانية عالمية مثل: العائلة والحب والأخلاق والعمل الجاد. 

يُعدُّ مسلسل “جوهرة القصر” واحدًا من أبرز الأعمال الكورية الرائدة، ويدور حول تمكّن امرأة بشجاعتها وتصميمها من التغلب على المصاعب لتصبح الطبيبة الملكية. فإلى جانب الوجه الإنساني الذي تُقدِّمه القصة، استطاع هذا العمل الدرامي أن يُبرز جمال الثقافة الكورية من خلال الطعام والمطبخ الملكي والعادات والتقاليد. كما أسهم الأداء التمثيلي المميّز، والأزياء الأنيقة، وجمال التصوير، والأساليب الإخراجية المبتكرة في رفع مستوى جودة العمل. إضافة إلى عامل أساس آخر، وهو أنه جرى تصوير أغلب المشاهد بعمق وتركيز على الشخصيات فُرادى، وذلك بهدف الإضاءة على علاقات متعددة الأبعاد مثل الحب المعقد، والفوارق الاجتماعية، وهو ما جعل العمل أقرب إلى الواقع وزاد من قدرته على أسر قلوب المشاهدين في جميع أنحاء العالم. 

الترجمة.. العامل الأهم في انتشار شعبية الـ”كي – دراما” 

ولطالما كان حاجز اللغة هو العائق الأكبر أمام انتشار المحتوى الكوري عالميًا، ومع ذلك، أدَّت مجتمعات المعجبين دورًا حيويًا في التغلب على هذا الحاجز. ولم يقتصر دورهم على استهلاك المحتوى فقط، بل تحوَّل هؤلاء المعجبون إلى منتجين من خلال إنشاء ترجمات بلغاتهم الخاصة، مثل: الإنجليزية والإسبانية والعربية، وغيرها. فعلى سبيل المثال، أسهمت منصات عرض مثل “فيكي” في تسهيل عملية الترجمة التعاونية بين المعجبين، وهو ما أدى إلى تسهيل الوصول إلى المحتوى الكوري حول العالم. ولم يكن هؤلاء المعجبون مجرد مترجمين، بل أصبحوا مبدعين ثانويين؛ إذ ساعدت جهودهم النبيلة النابعة من صدق حبهم في انتشار “الهاليو” بشكل أكبر وزيادة عدد المتابعين حول العالم. وهكذا أصبحت حماسة المعجبين قوة دافعة أساسية وراء انتشار “الهاليو” عبر الحدود؛ إذ بفضل جهودهم المشتركة باتت “الهاليو” ظاهرة عالمية تجمع بين الإبداع الفني والترابط المجتمعي. 

السينما الكورية 
وأسباب نجاحها العالمي 

في التسعينيات، أدَّى انتشار دُور العرض متعددة الشاشات إلى نجاح هائل في سوق السينما الكورية. ففي عام 2001م، تجاوزت حصة الأفلام الكورية في السوق المحلية %50، وهو ما شكَّل نقلة نوعية مهمة بعدما كانت %20 فقط، في عام 1995م. ومع بداية الألفية الجديدة، رسَّخت صناعة السينما الكورية نظامًا إنتاجيًا جديدًا أدى إلى ظهور أفلام إبداعية مثل “ذكريات قاتل” للمخرج بونغ جون هو، و”سيلميدو” للمخرج كانغ وسوك، اللذين حققا نجاحًا كبيرًا في شباك التذاكر. وخلال هذه الفترة، تفوَّقت السينما الكورية على نظيراتها اليابانية والفرنسية من حيث عدد الأفلام المنتجة وحجم السوق، وهو ما أسهم في خلق دورة استثمارية مستدامة عزَّزت نمو الصناعة السينمائية. 

أمَّا على الصعيد الدولي، فقد نجحت السينما الكورية في جذب انتباه المهرجانات السينمائية الدولية، فحصل فيلم “الفتى العجوز” على جائزة كبرى في مهرجان كان، في حين نالت أعمال المخرج كيم كي دوك جوائز عديدة في مهرجان لوكارنو. كما برز مخرجون كوريون عالميون، مثل: بونغ جون هو، وبارك تشان ووك، وهونغ سانغ سو، وإم كوان تيك. وفي العقد الثاني من الألفية، دخلت السينما الكورية الأسواق العالمية بشكل أوسع، وأُنتِجت أفلام مثل “قطار إلى بوسان” و”ستوكر” و”الموقف الأخير” بمشاركة كورية من خلال التعاون الدولي، وهو ما عزَّز قيمة السينما الكورية عالميًا. 

أمَّا أسباب نجاح السينما الكورية، فتُعزى إلى عدة عوامل، أبرزها التميز الإبداعي في الأفلام، والقدرة على التعبير عن التجارب التاريخية الكورية بعد التحولات الديمقراطية، والاستقرار في السوق المحلية، إضافة إلى الدعم الحكومي الممنهج والمتمثل في تأسيس “لجنة تطوير السينما الكورية” (KOFIC) في السبعينيات لدعم الأكاديمية الكورية للفيلم (KAFA)، وتشجيع الأفلام المستقلة، وتنظيم المهرجانات السينمائية. كما أُسِّس “صندوق تنمية السينما” عام 2007م، الذي يُموّل بنسبة %3 من مبيعات تذاكر السينما، وهذا ما يُسهم سنويًا في ضخ نحو 50 مليار وون كوري لدعم استدامة صناعة السينما الكورية. 

وهكذا، فإن نجاح السينما الكورية لا يعتمد على عامل واحد فقط، بل هو نتاج رؤية شاملة تجمع بين الإبداع الفني، والأسس الاقتصادية المتينة، والدعم المؤسسي المستمر. وقد جعل هذا التكامل السينما الكورية نموذجًا يُحتذى به في تطوير صناعة سينمائية تُحقِّق التميز على المستويين المحلي والدولي. 

دور المنصات العالمية في نجاح السينما الكورية 

من جهة أخرى، أسهمت منصات البث العالمية في تحقيق انتشار واسع للسينما الكورية. ففي الماضي، كان نجاح الأفلام مرتبطًا بإيرادات شباك التذاكر، ولكن منصات مثل نتفليكس وغيرها غيَّرت هذا النمط التقليدي، بإتاحة فرص الوصول إلى الأفلام الكورية في مناطق تفتقر إلى دُور العرض، وهو ما رفع شعبيتها إلى مستوى جديد. ويُعدُّ مسلسل “لعبة الحبار”، للمخرج هوانغ دونغ هيوك، مثالًا بارزًا؛ إذ أصبح ظاهرة ثقافية تتجاوز كونه دراما، محققًا نجاحًا كبيرًا في أمريكا وأوروبا والشرق الأوسط. وقد أسهمت ترجمة المسلسل ودبلجته في كسر حواجز اللغة وتعزيز وصول السينما الكورية إلى الساحة الثقافية العالمية. 

مجالات الهاليو الواعدة.. 
الأدب الكوري 

وبعدما كان الأدب مجالًا مُهمشًا في ساحة الهاليو، وجد مكانة تليق به على المسرح العالمي بفضل فوز الكاتبة الكورية هان كانغ بجائزة نوبل للأدب. فمن بين 121 فائزًا بهذه الجائزة، كان هناك 18 امرأة فقط، وهان كانغ هي خامس كاتبة آسيوية تُحقق هذا الإنجاز، وهو ما وضع الإمكانات الهائلة للأدب الكوري تحت عدسة المجهر. تتميز أعمال هان كانغ بمعالجتها للقضايا الاجتماعية العالمية بأسلوب بسيط وشاعري يترك انطباعًا قويًا لدى القرَّاء. فروايتها “النباتية” تُناقش القمع الأبوي، في حين يستكشف كتابها “أفعال بشرية” الحزن والظلم، موضحًا الآثار الجسدية والنفسية للعنف بطريقة دقيقة ومؤثرة. وقد وصفت الأكاديمية السويدية أعمالها بأنها “نثر شاعري يكشف هشاشة الحياة الإنسانية ويواجه الصدمات التاريخية بجرأة”. 

قبل فوز هان كانغ بجائزة نوبل، كانت الترجمة من أبرز العوائق التي واجهت الأدب الكوري في الوصول إلى الساحة العالمية. ففي دراسة أُجرِيت عام 2009م، أُشير إلى أن الطبيعة الفريدة للغة الكورية تجعل معاني النصوص تتقلص أثناء الترجمة، وهو ما أبرز أهمية جودة الترجمة الإنجليزية للوصول إلى جمهور عالمي. ولحل هذه المشكلة، أُسِّس المعهد الكوري لترجمة الأدب عام 1996م، وقد دعم نشر أكثر من 2032 عملًا مترجمًا إلى 44 لغة مختلفة، وهو ما ساعد على دفع عجلة الأدب الكوري نحو العالمية. وفي هذا الإطار، قال والد هان كانغ، الكاتب هان سونغ وون، إن أسلوب ابنته “جميل ودقيق وحزين”، وأكد أن جمالية هذه النصوص تعتمد بشكل كبير على جودة الترجمة التي تؤدي دورًا حاسمًا في تحقيق التقدير الدولي. 

وأخيرًا، يمكننا العودة إلى واحدة من أقوال هان كانغ: “اللغة هي الخيط الذي يربطنا، ذلك الخيط الذي يمر فيه الضوء والتيار الحي. أشعر بالامتنان لكل من اتصل بهذا الخيط وسيتصل به في المستقبل”. ربَّما هذا هو جوهر الهاليو، خيط يربط ما بيننا جميعًا، من خلال الدراما والسينما، والآن الأدب، حيث نجد اتصالًا وتواصلًا وعزاءً وسعادة عبر هذا الوصل المشترك.  


مقالات ذات صلة

في كل بيت نال بعض أفراده نصيبًا من العلم توجد مكتبة. وكل مكتبة تستحق الاحترام ولو كانت مجرد رف خشبي عليه عشرة كتب؛ لأن الكتاب الواحد شيء يستحق الاحترام. وكما تختلف المكتبات المنزلية في أحجامها ومحتوياتها، تختلف أيضًا في الأدوار المتوخاة منها. ولكن غالبًا ما يُنظر إليها على أنها سند لصاحبها في عمله، خاصة إذا […]

منذ اللحظة التي تطأ فيها قدماك أرض تايلاند، تشعر وكأنك دخلت عالمًا مختلفًا، تتشابك فيه الطبيعة الخلابة مع التاريخ العميق والثقافة الغنية. فهذا البلد الذي يقع جنوب شرق آسيا، هو من أبرز الوجهات السياحية في العالم، يتميز بتنوعه الجغرافي الذي يشمل الشواطئ الرملية البيضاء، والغابات الكثيفة، والجبال الشاهقة، والجزر الحالمة، إضافة إلى المباني والمنشآت العريقة […]

في عصر الجزر المنعزلة نتيجة التطور التكنولوجي وانتشار الأجهزة الإلكترونية، وربَّما الروبوتات الذكية في القريب العاجل، تتعرض فكرة “الجماعة” للخطر. وقد فاقمت أزمة “كوفيد – 19 المستجد” من هذه العزلة، وكان من نتائجها اختفاء الجمهور من قاعات المسرح والسينما والموسيقى وملاعب كرة القدم، وغيرها من نشاطات لها صلة بصناعة وجدان الجماعة. وانتشرت المنصات الإلكترونية للأفلام […]


0 تعليقات على “ما هو سر الثقافة الكورية؟”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *