مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو - يونيو | 2025

التركيـز في زمن التشتُّت


د. سعود عبدالعزيز العمر
أكاديمي وكاتب سعودي

حياة الإنسان بكل ما تحمله من أفكار ومشاعر وإنجازات ليست سوى محصّلة لما يوليه لتركيزه. وإتقان مهارة التركيز العميق وتجنُّب المشتتات لا يُنمّي هذه المهارة فحسب، بل يُعزّز كل المهارات الأساسية الأخرى. فقد أثبتت الدراسات أن التركيز العميق أشبه بسُلَّم يُمكّن الفرد من الارتقاء بقدرته على التعلُّم، وتحسين قوة إرادته، ورفع كفاءة إنجازه اليومي، وتحرير طاقته الإبداعية. أمَّا حين يفقد الإنسان السيطرة على تركيزه ويقع فريسة للتشتّت، فإن قدراته تتدهور الواحدة تلو الأخرى.

مستويات التركيز

هناك ثلاثة أسباب تجعل تطوير مستوى التركيز أمرًا عسيرًا. الأول، غزارة الأفكار والنصائح. هذا الإغراق المعلوماتي يؤدي إلى حالة ذهنية تُسمَّى “الشلل التحليلي”؛ إذ تؤدي كثرة الخيارات إلى تعطيل اتخاذ القرار. والثاني، هو نمط الحياة المعاصرة يعادي التركيز. فرسائل “الواتساب”، وتنبيهات “إكس”، ومقاطع “التيك توك”، وغيرها، تنخر في قدرة الفرد على التركيز. أمَّا الثالث، فهو افتقار كثيرين لفهم آلية التركيز نفسها. كيف يحدث التركيز داخل العقل؟ هذا الفهم هو ما يحدد اختيار الطريقة المناسبة لتطوير التركيز ويعين على المثابرة.

يستقبل الدماغ سيلًا هائلًا من المؤثرات الحسية من المحيط (أصوات، ألوان، أشكال، روائح) أكثر بكثير مما يمكن تخيله، والتركيز ببساطة هو: عملية اختيار من بين كل هذه المؤثرات لِما سيحظى بالانتباه. ويمكن تشبيه العقل بمسرح يقف عليه عشرات الممثلين، والتركيز حينئذٍ يشبه ضوءًا يُسلّط على ممثل واحد فقط.

كيف يختار الدماغ ما يستحوذ على الانتباه؟ هناك طريقتان: إرادية ولاإرادية. الطريقة الإرادية هي توجيه الانتباه عمدًا نحو هدف معيّن، بينما الطريقة اللاإرادية هي أن يمسح الدماغ تلقائيًا المحيط واختيار ما يبدو مهمًا. ولتوضيح الفرق، يمكن تصوُّر شخص موجود في حفل مزدحم. في أثناء ذلك، يمكنه توجيه تركيزه إلى محادثة محددة لشخص أمامه (انتباه إرادي)، لكن لو ذُكر اسمه في محادثة جانبية، فسينتبه تلقائيًا، حتى لو لم يكن يُصغي إليها (انتباه لا إرادي).

التحيُّز السلبي

يميل العقل بشدّة لتوجيه التركيز على الجوانب السلبية أكثر من الإيجابية بدافع حماية الشخص من الأخطار، وتُعرف هذه الحالة بـاسم “التحيُّز السلبي”. من مظاهر هذا التحيّز أن الإنسان يتأثر بالنقد أكثر من الإطراء، ويتذكّر التجارب السلبية أكثر من الإيجابية، ويلاحِظ الوجوه العابسة بين الجموع أسرع من الوجوه المبتسمة. منصات التواصل الاجتماعي تعرف جيدًا طبيعة الدماغ، ولذلك تروّج خوارزمياتها للمحتوى السلبي أكثر من الإيجابي لتغذية هذا التحيُّز.

التركيز على السلبيات يضيّق مجال الانتباه حتى يحصره في الأمر السلبي محل الاهتمام. فعلى سبيل المثال، من الطبيعي ألا يفكر شخص ينزف في أي شيء سوى جُرحه. المشكلة أن التركيز السلبي المستمر يضيّق أفق الفرد، ويقوقع شخصيته، ويقلّص اهتماماته. أمَّا حين يعمد إلى توجيه انتباهه نحو الإيجابيات، فإن إدراكه يبدأ بالاتساع، وتتنامى رغبته في الاستكشاف، ويزداد حماسه للتعاون والإبداع.

التركيز العميق

وهنا نصل إلى لبِّ الموضوع: التركيز العميق صعب، خصوصًا في الدراسة والعمل؛ لأن العقل يصبّ تركيزه على الجانب السلبي، ألا وهو النتيجة. أمَّا الخطوة الأهم للتركيز بعمق، فهي إعادة توجيه العقل للتركيز على الجانب الإيجابي، ألا وهو الجهد. ولتوضيح ذلك: عندما يقرِّر الطالب المذاكرة، عادةً يكون هدفه تجاوز الاختبار، فيصب تركيزه على النجاح في المقرر (النتيجة) بدلًا من التركيز على المذاكرة نفسها (الجهد). وهذا ما يخلق فجوة بين واقعه الحالي وما يطمح إليه، فيتشتت تركيزه، ويندفع إلى التسويف، وتُستنزف طاقته بسرعة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف يستطيع المرء التركيز على الجهد من دون التشتت بالنتيجة؟

في الثمانينيات، كان هناك طالب جامعي في إيطاليا يُدعى “فرانشيسكو سيريلو” يعاني التشتّت، ولا يعرف ماذا يجب أن يفعل كي يستجمع تركيزه ويحسِّن مستواه الأكاديمي. في غمرة اليأس، اتجه إلى المطبخ وأخذ ساعة توقيت على شكل طماطم تُستخدم لحساب وقت الطبخ، وقطع عهدًا أن يدرس بتركيز لمدة عشر دقائق فقط. ولدهشته، نجحت الفكرة! بعد سلسلة من التجارب توصّل إلى الوصفة التالية:

  1. إحضار مؤقِّت.
  2. الدراسة بتركيز تام مدة 25 دقيقة من دون السماح لأي شيء بالتشتيت.
  3. الاستراحة مدة خمس دقائق.
  4. تكرار العملية مرات عديدة.

نجحت طريقته نجاحًا باهرًا وتحوَّلت إلى ظاهرة عالمية في عالم الإنتاجية عُرفت باسم “تكتيك البومودورو” (كلمة إيطالية تعني “الطماطم”). عند تطبيق هذه الطريقة، يلاحظ الشخص أن ذهنه يشتته كثيرًا، وأن المحيطين به يقاطعونه باستمرار، لكن بمرور الوقت سيكتشف أنه قادر على التحكم في هذه المشتّتات.

ما فعله “سيريلو” هو أنه حوَّل الدراسة من جلسة واحدة طويلة بتركيز منخفض إلى جلسات متعددة قصيرة بتركيز عالٍ. وأهم من ذلك، أنه أزاح بؤرة التركيز من النتيجة إلى الجهد. يُعدُّ الجهد إيجابيًا لأنه تحت سيطرة الفرد ويحدث في اللحظة الراهنة، بخلاف النتيجة التي تأتي لاحقًا وقد لا تكون مضمونة. الفرق بين الاثنين هائل. يمكن تخيُّل مقدار القلق عند التركيز على إنجاز مشروع ضخم، ومقارنته بالشعور عند التركيز على بذل جهد بسيط مدته 25 دقيقة. هذا الإدراك بأن الأمور تحت التحكم هو أكبر مُحفِّز للتركيز.

تكتيك البومودورو يُحفِّز التركيز والإنتاجية، ويُمهِّد للوصول إلى حالة انغماس تام تمزج بين العمل والمتعة، مُعزِّزًا الإبداع وجودة الحياة.


مقالات ذات صلة

الإطارات الجزء الوحيد من السيارة الذي يتصل مباشرة بالطريق، بقيت على وضعها التقليدي لأكثر من قرن دون تغيير يستحق الذكر، إلى أن برزت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أنظمة حديثة. 

تبرز محمية جزيرة أبو علي الواقعة على سواحل الخليج العربي شمال مدينة الجبيل، كنموذج فريد لنجاح الجهود الوطنية في حماية التنوع الحيوي، بالتكامل مع مبادرات التنمية المستدامة. 

لماذا هناك بلدان متقدمة وبلدان أخرى غير متقدمة؟ لماذا يكسب الفرد في أغنى عشر دول في العالم 158 مرة أكثر مما يكسبه الفرد في أفقر عشر دول، وفق شعبة الإحصاء في الأمم المتحدة عام 2023م؟


0 تعليقات على “التركيـز في زمن التشتُّت”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *