مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2021

التبريد السلبي المستلهم من الطبيعة..
التبريد ثنائي الطبقة


حسن الخاطر

شكّلت الحيوانات الثدية التي تعيش في الصحراء مادة بحثية مهمة للعلماء العاملين على تطوير استراتيجيات جديدة في تقنيات التبريد السلبي ثنائي الطبقة من دون الاعتماد على الكهرباء. ويفتح هذا التطوُّر العلمي الطريق لاستحداث تقنياتٍ لا حدود لها في المستقبل. وبذلك يتم التقليل من احتياجات التبريد المتزايدة باستمرار، التي تستهلك كثيراً من الطاقة وتؤثر بشكل سلبي على مناخ الأرض.

يُقصد بالتبريد السلبي (Passive Cooling) استخدام تقنيات في التبريد من دون الاعتماد على الكهرباء. فالتبريد بالتبخير مثلاً، هو إحدى طرق التبريد السلبي، الذي استخدمه الإنسان منذ زمن طويل قبل ظهور تقنيات التبريد الحديثة. ومن بين استعمالاته حفظ الأطعمة في الأواني الفخارية. إذ كانت توضع آنية داخل أخرى بينهما طبقة من الرمل الرطب، وعندما يتبخر الماء من الرمل الرطب عبر الآنية الخارجية يترك الآنية الداخلية باردة. ومثل ذلك شعور المرء بالبرودة في يومٍ حار عندما يرش قطراتٍ من الماء على وجهه. وحالياً، يُستخدم الهلام المائي في بعض تطبيقات التبريد بالتبخير. والهلام المائي عبارة عن مادة خفيفة ومسامية تنتمي إلى البوليمرات، يمكن أن تمتص حبيباتها كمية كبيرة من الماء وتحتفظ بها.

تبريد الماء عن طريق الأواني الفخارية

لكن فكرة الجمع بين التبريد بالتبخير عن طريق الهلام المائي ووجود طبقة عازلة، كما تفعل الجمال وبعض الحيوانات التي تعيش في الصحراء، لم يتم تطبيقها في جميع أنظمة التبريد التي صممها الإنسان من قبل. ويعود السبب الرئيس في عدم التفكير من قبل في جمع هاتين المادتين، هو أن هذا العمل يجمع بين مجالين مختلفين في علم المواد. لكن الباحثين تغلبوا على هذا الحاجز من خلال الحصول على إلهامهم من الطبيعة، فكانت الحيوانات مصدراً لهذه الفكرة. و “محاكاة الطبيعة” عِلمٌ قائمٌ بذاته. فقد أدى التأمل في النباتات والحيوانات إلى ظهور تقنيات جديدة أسهمت في تقدُّم البشرية، مثل تسلُّق أماكن قادرة على دعم وزن الإنسان؛ التي هي عملياً، تقليدٌ للميكانيكا الحيوية لأقدام حيوان أبو بريص المعروف باسم الوزغ.

وتجدر الإشارة إلى أن فكرة ملابس السباحة أتت من ديناميكا الموائع لجلد سمك القرش. كما أن الديناميكا الهوائية لقطار الرصاصة الياباني الشهير، مستوحى من شكل منقار الطائر، والموجات فوق الصوتية التي يصدرها الخفاش ألهمت تصنيع أجهزة قياس المسافات.

محاكاة الإبل
تستخدم الإبل الغدد العرقية في إفراز العرق من أجل تبريد جسمها. وإضافة إلى ذلك، فهي تستخدم طبقة الفراء كمادة عازلة في تدفئة جسمها أثناء الليل وتنظيم درجة حرارته في النهار. فهذه الطبقة تساعد في الحفاظ على درجة حرارة الجسم في الصحراء. وقد بيَّنت الاختبارات أن الجَمَل المحلوق يفقد الرطوبة بنسبة %50 أكثر من الجَمَل غير المحلوق في الظروف المناخية نفسها؛ وهذا يعني أنه سوف يتعرَّق بسرعة كبيرة وينفد منه الماء.

وبتطبيق النهج نفسه، طوَّر باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في شهر نوفمبر 2020م، تقنية تبريد سلبية ثنائية الطبقة مستوحاة من طريقة بقاء الإبل باردة في الصحراء الحارة.

تتكوَّن هذه التقنية من طبقتين، سماكة كل واحدة منهما 5 ملم. والطبقة السفلية هي عبارة عن هلام مائي (Hydrogel)، والطبقة العلوية هلام هوائي (Aerogel)، فيعمل الهلام المائي مثل الغدد العرقية عند الجَمَل، حيث يقوم بخفض درجة الحرارة من خلال تبخر الماء، بينما تعمل طبقة الهلام الهوائي الموجودة في الأعلى مثل فراء الجمل العازلة للحرارة الخارجية، بينما تسمح لبخار الماء بالمرور. وبهذا تظل طبقة الهلام المائي باردة لفترة أطول.

وقد أظهرت الاختبارات أن تقنية التبريد السلبي ثنائي الطبقة التي تستخدم الهلام المائي والهلام الهوائي معاً، قادرة على المحافظة على برودة المنتجات الغذائية، لمدة زمنية تفوق خمس مرات التقنيات أحادية الطبقة التي تستخدم الهلام المائي فقط. وقد تم تنفيذ الاختبار في غرفة مغلقة حرارتها ثلاثون درجة مئوية وذات رطوبة نسبية، فأصبحت طبقة الهلام المائي أبرد من الهواء المحيط بها بمقدار ثماني درجات مئوية. لكن الماء تبخَّر في غضون أربعين ساعة. وعندما تمَّت تغطية الهلام المائي بطبقة من الهلام الهوائي أصبحت طبقة الهلام المائي أقل برودة بقليل من التجربة الأولى، لكن البرودة استمرت لمدَّة تصل إلى مئتي ساعة، مقابل أربعين ساعة، أي ما يوازي 400 في المئة. ولا يتطلب الأمر أكثر من إعادة تعبئة الهلام المائي بإضافة الماء لتستمر عملية التبريد من جديد. وقد تم نشر الدراسة البحثية في مجلة “جول” (Joule) بتاريخ 11 نوفمبر 2020م.

الهلام الهوائي

ما هو الهلام الهوائي؟
يتكوَّن الهلام الهوائي في معظمه من الهواء بنسبة %99.8، ومسامات بمقاييس نانوية. وتُعدُّ السيليكا المادة الأساسية له. ويتميز بكونه مادة صلبة وخفيفة، وكثافته أقل من كثافة الهواء. كما يمتلك موصلية حرارية منخفضة للغاية. فهو أفضل في العزل الحراري بمقدار 39 مرَّة من الألياف الزجاجية العازلة، وأقل منها كثافةً بمقدار ألف مرَّة. وقد قامت وكالة الفضاء ناسا باختبار هذه القدرة العالية من العزل الحراري بوضع أعواد من الثقاب على صفيحة من الهلام الهوائي على موقد لحام درجة حرارته عالية جداً، فظلت أعواد الثقاب كما هي من دون أن تشتعل بسبب حرارة اللهب. ويعود التفسير العلمي إلى القدرة العالية في العزل الحراري التي تفوق قدرة الهواء بسبب وجود المسامات النانوية؛ فهي أصغر من متوسط المسافة التي تقطعها جزئيات الهواء قبل أن تصطدم بجسيمات أخرى. وتُعرف هذه المسافة باسم “متوسط المسار الحر” (Mean Free Path). وعليه فإن جزيئات الهواء التي اكتسبت طاقة حرارية والمتحركة بسرعة، تجد صعوبة في الانتشار داخل الهلام الهوائي ونقل الحرارة من الأسفل إلى الأعلى. وتُعرف هذه الظاهرة باسم تأثير كنودسن (Knudsen Effect).

شكَّلت هذه الخصائص الاستثنائية التي يمتلكها الهلام الهوائي مادة مهمة في التطبيقات الفضائية. فقد تم استخدامه لعزل صندوق الإلكترونيات في مركبة “باثفايندر سوجورنر” التي استكشفت كوكب المريخ في عام 1997م؛ بحيث إن الإلكترونيات تبقى معزولة عن المحيط الخارجي خلال الليالي الباردة على سطح المريخ. وتتطلع ناسا إلى استخدام الهلام الهوائي في تطبيقات متعدِّدة في المستقبل مثل استخدامه في عملية التجميد أو في البدلات الفضائية، وهندسة كوكب المريخ ليكون صالحاً للسكن.

بعض التطبيقات الواعدة
من المتوقّع أن تساعد هذه التقنية في تغليف المواد الغذائية وحفظها من التعفن والتلف أثناء تخزينها ونقلها وتوزيعها، إضافة إلى حفظ الأدوية واللقاحات لا سيما في الأماكن البعيدة أو المناطق المحرومة من الكهرباء. وأوضح الباحثون القائمون على الدراسة أن أكثر من 10 في المئة من سكان العالم لا يزالون محرومين من الكهرباء. وهذه التقنية سوف تساعدهم كثيراً. وقد ظهر التبريد التبخيري كواحد من أكثر حلول التبريد السلبي الواعدة، لكن قدراته محدودة. لذا، ستكون هذه التقنية ثنائية الطبقة واعدة بشكل أفضل. فمن المعروف أن الأنظمة الحالية تعتمد على الشاحنات أو مرافق التخزين المبرَدة في نقل وتخزين الأطعمة، لكن هناك فجوات أثناء التحميل والتفريغ قد تُحدث ضرراً نتيجة الارتفاع السريع في درجة الحرارة خاصة في حالة الأطعمة القابلة للتلف.

تحدّيات اقتصادية
تُعدُّ السيليكا المادة الرئيسة في صنع الهلام الهوائي، وتتوفر هذه المادة في الرمال بشكل أساسي؛ الأمر الذي يؤدِّي إلى الظن أن إنتاج هذا الهلام سيكون رخيص التكلفة. ولكن الحقيقة هي عكس ذلك. فإنتاجه يتطلَّب حالياً معدَّات ضخمة، وهو يُعدُّ في الوقت الحاضر الأغلى ثمناً من بين كل مواد العزل المتوفرة. ولذا فإنه لن يكون مجدياً على الصعيد التجاري في الوقت الحالي. لكن فريق البحث متفائل جداً بأن تقنيات التصنيع الواعدة يمكنها أن تخفض التكاليف في المستقبل من أجل الحصول على طاقة تبريد مستدامة، والتخفيف من الطلب العالمي المتزايد باستمرار على طاقة التبريد، الذي من المتوقع أن يتضاعف ثلاث مرات بحلول عام 2050م.


مقالات ذات صلة

في عام 2077م، شهد معظم سكان أوروبا كرة نارية تتحرك في عرض السماء، ثم سقطت كتلة تُقدّر بألف طن من الصخور والمعادن بسرعة خمسين كيلومترًا في الثانية على الأرض في منطقة تقع شمال إيطاليا. وفي بضع لحظات من التوهج دُمرت مدن كاملة، وغرقت آخر أمجاد فينيسيا في أعماق البحار.

نظرية التعلم التعاضدي هي: منهج تتعلم عبره مجموعة من الأفراد بعضهم من البعض الآخر من خلال العمل معًا، والتفاعل لحل مشكلة، أو إكمال مهمة، أو إنشاء منتج، أو مشاركة تفكير الآخرين. تختلف هذه الطريقة عن التعلم التعاوني التقليدي، فبين كلمتي تعاون وتعاضد اختلاف لغوي بسيط، لكنه يصبح مهمًا عند ارتباطه بطرق التعليم. فالتعلم التعاوني التقليدي […]

حتى وقتٍ قريب، كان العلماء مجمعين على أن الثقافة هي سمةٌ فريدةٌ للبشر. لكن الأبحاث العلميّة التي أجريت على الحيوانات، منذ منتصف القرن العشرين، كشفت عن عددٍ كبيرٍ من الأمثلة على انتشار الثقافة لدى أغلب الحيوانات. وعلى الرغم من الغموض الذي يلفّ تعبير الثقافة، حسب وصف موسوعة جامعة ستانفورد الفلسفيّة، هناك شبه إجماعٍ بين العلماء […]


0 تعليقات على “التبريد السلبي المستلهم من الطبيعة..”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *