مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2020

الاتصال مع الحضارات الكونية


حسن الخاطر

ينتمي نظامنا الشمسي إلى مجرَّة درب التبانة التي يبلغ قطرها حوالي مئة ألف سنة ضوئية. ويبعد موقعنا حوالي 25 ألف سنة ضوئية عن وسط المجرَّة. ويقدِّر العلماء أن هناك عشرات المليارات من الأنظمة الشمسية في مجرّتنا. ويشير عدد من النماذج الرياضية، ومن بينها “معادلة دريك”، إلى احتمال وجود حضارات عديدة في درب التبانة. لكن هناك صعوبة كبيرة في التواصل معها، نظراً للمسافات الشاسعة بين هذه الأنظمة.
فما هي الطرق العلمية الممكنة من الناحية النظرية التي نستطيع بواسطتها الاتصال مع الكواكب والتواصل مع هذه الحضارات؟

في عام 1977م، أطلقت “ناسا” المركبتين الفضائيتين “فوياجر1-“، وفوياجر2-“، وقد تم تزويدهما برسائل بشرية بأشكال عديدة ولغات مختلفة، في محاولة عملية للتواصل مع الحضارات الكونية إذا صادفتها. فلأكثر من نصف قرن، استمرت جهود العلماء في هذا المضمار، وتم تأسيس مشروعات فلكية ضخمة كمشروع سيتي (SETI) في محاولة للاتصال بأي حضارة كونية إن وُجِدت. وعلى الرغم من هذه المحاولات العلمية، لم يحدث شيء حتى هذه اللحظة، ولم تُلتقط أية إشارة راديوية من حضارة كونية. فجميع الرسائل التي أرسلتها “ناسا” بقيت من دون إجابة.
يرى بعض العلماء أننا ربما لم نسلك الاتجاه الصحيح. فلعل هذه الحضارات الكونية تستخدم الأشعة فوق البنفسجية، أو السينية، أو الليزر، أو موجات وتقنيات مختلفة تماماً عما نستخدمه نحن في التواصل. لذلك ستكون طريقتنا لا فائدة منها وغير فعَّالة. خاصة إذا كانت الحضارات متقدِّمة كثيراً من الناحية التقنية، لأنها عند ذلك ستتخلى بالطبع عن الموجات الراديوية. وفي هذا المجال، يقول الباحث الفلكي مايكل هبكي: “قد تستخدم بعض الحضارات الراديو لفترة قصيرة من الزمن قبل أن تتخلَّى عن هذه التقنية البدائية”. وهذا ما يدفعنا إلى الاعتماد على الخيال العلمي في سلوك اتجاه مختلف تماماً، وبطرق أجدى، في التواصل مع الحضارات الكونية.

عندما تتقدَّم الحضارة الإنسانية، وتصل إلى الحضارة النجمية، من الممكن نظرياً تحريك النجوم وهندستها بشكل مميَّز كإشارة إلى الحضارات الكونية، أو استخدام قوة النجوم النيوترونية كرسائل وذلك عن طريق تدويرها بطريقة معيَّنة وصحيحة كي ينبعث منها الضوء كنوع من المنارة الوامضة للحضارات الكونية.

الاتصال بضوء الشمس والليزر
يمكننا استخدام ضوء الشمس كقناة اتصال بيننا وبين الحضارات الكونية الأخرى، بالطريقة نفسها التي يستخدمها مشغلو الطائرات والقطارات. حيث يتم التعامل مع هذه الأضواء كإشارات مفهومة حول حدث معيَّن. فإذا ما استطعنا التلاعب بضوء الشمس واستخدامه كمنارة، فمن الممكن أن يشكِّل إشارات للحضارات الكونية، تماماً كالتلويح باليد أمام مصباح يدوي لإلقاء التحية. ويمكن أن يتم ذلك عن طريق تمرير أوراق ضخمة أمام ضوء الشمس.
وعوضاً عن أشعة الشمس، يمكن استخدام أشعة الليزر كمنارة لإعطاء إشارات. فقد اقترح باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) تطوير تلسكوبات متباعدة في الفضاء، تتبعها أقمار صناعية صغيرة تعمل كـ “نجمة دليل الليزر”، عن طريق توجيه ليزر إلى التلسكوبات لمعايرة النظام، وإنتاج صور أفضل وأدق للعوالم البعيدة التي تصل إلى حوالي عشرين ألف سنة ضوئية. وقد أشار الباحثون إلى أن الأشعة تحت الحمراء ستكون قوية جـداً وكافية لرصدها من قبل الحضارات الكونية لتمييزها عن الشمس.
كما يمكن استخدام الليزر نفسه، الذي استخدمه فريق المعهد المذكور في إرسال رسائل موجزة على شكل نبضات شبيهة بشفرة مورس للسماح للكائنات الأخرى بمعرفة أننا هنا. وتشير الدراسة إلى سبل تحليل الليزر المرسل إلينا من قبل الكائنات الأخرى، وهكذا يمكن أن يتحقق التواصل. وفي هذا يقول جيمس كلارك، أحد أعضاء الفريق: “سيكون مشروعاً صعباً، لكنه ليس مستحيلاً”.
وهناك فكرة أخرى تتمثل في تغيير كيفية ظهور الأرض للحضارات الأخرى أثناء مرورها عبر الشمس، وذلك عن طريق استخدام أشعة ليزر قوية للغاية لتغيير صورة عبور الأرض كما ستراها الحضارات الأخرى. وبذلك سوف ينظرون إلى كوكب الأرض بنظرة مختلفة عن السابق، لأن ذلك سيتضمَّن إشارة إلى وجود حضارة ذكية على هذا الكوكب.
وعلى افتراض أن الحضارات الأخرى متقدِّمة من الناحية التقنية، فإنها سوف تعرف ما يجب عليها فعله للاتصال بنا. فهذه الرسالة لا تحتاج إلى مزيد من الذكاء لفهمها. ويمكننا في النهاية إنشاء شبكة اتصال بين النجوم في مجرّتنا بهذه الطريقة. وقد تم عمل محاكاة لهذا المشروع الضخم من قبل عالم الفلك دنكان فورجان في جامعة سانت أندروز في أسكتلندا، الذي اقترح إنشاء شبكة اتصالات مجرّية بهذه الطريقة، بدلاً من مصفوفة التلسكوبات المعتمدة على الأمواج الراديوية. ووجد أن الأمر يستغرق ثلاث مئة ألف سنة على الأقل لبناء شبكة اتصال حول مجرّة درب التبانة، مفترضاً وجود خمسمئة حضارة متقدِّمة تقنياً، يمكنها فعل ذلك من خلال التلاعب بعبور كواكبها بشكل واضح.

الاتصال بالظواهر الكونية
قد تكون الظواهر الكونية التي تشاهدها جميع الحضارات هي اللغة المشتركة بينهم. وفي هذا يقول الدكتور جون إليوت: “يمكننا أن نشير إلى الظواهر التي نعلم أنهم يشاهدونها ونستعين بها كمفتاح لبدء حوارنا معهم”. وهذا يعني إنشاء وتخصيص إشارة مشتركة تمثل نجمة أو مجرّة أو إحصاء الأجسام السماوية.
فعندما تتقدَّم الحضارة الإنسانية، وتصل إلى الحضارة النجمية، بحسب مقياس كاردشوف للحضارات، فمن الممكن نظرياً تحريك النجوم وهندستها بشكل مميَّز كإشارة إلى الحضارات الكونية، أو استخدام قوة النجوم النيوترونية (نجوم صغيرة وكثافتها عالية جداً وتدور بسرعة شديدة) كرسائل. وذلك عن طريق تدويرها بطريقة معيَّنة وصحيحة كي ينبعث منها الضوء كنوع من المنارة الوامضة للحضارات الكونية، وفي الواقع، عندما تم اكتشاف النجوم النيوترونية المعروفة بالنوابض (Pulsars)، ذهب العلماء في بعض التفسيرات إلى أنها قد تكون رسائل من حضارات كونية بسبب إشاراتها المنتظمة التي تصدرها من الموجات الراديوية والتي توحي بأنها شفرة مورس.

الهياكل الضخمة
بالإضافة إلى الظواهر الكونية، إن بناء شيء يمكن رؤيته من مسافة كبيرة عبر المجرّة، ويكون من الواضح أنه مصطنع وغير طبيعي، يمكنه أن يكون إشارة إلى وجود حضارة كونية. ففي عام 2015م، التقط تلسكوب كبلر الفضائي التابع لناسا ظاهرة مثيرة للاهتمام تتعلَّق بالنجم (KIC8462852) الذي يبعد عن الأرض حوالي 1500 سنة ضوئية ضمن كوكبة الدجاجة. فقد لاحظ العلماء أن ضوء النجم قد انخفض بنسبة %20 لعدّة مرَّات بشكل غير متوقع. وهذا التعتيم الشديد لا يمكن أن يكون بسبب مرور كوكب أمامه. وفسر بعض العلماء هذه الظاهرة على أنها إشارة إلى وجود حضارة كونية قامت ببناء هيكل ضخم تستخدمه من أجل الحصول على الطاقة الشمسية من أحد النجوم.

الاتصال بالروبوتات
بالنظر إلى المسافات الكبيرة بين الكواكب فمن شبه المستحيل أن تقوم أية حضارة كونية بإرسال أفرادها بينها. وهذا ينطبق أيضاً على الحضارة الإنسانية؛ فالسفر إلى النجوم يشكِّل خطراً كبيراً. وعوضاً عن ذلك، فمن المحتمل أن نستعين بالذكاء الاصطناعي المتطور وتكون الروبوتات هي قناة الاتصال بيننا وبين الحضارات الكونية. وبجمع الذكاء الاصطناعي المتطوِّر مع تقنية النانو، ستكون الروبوتات نانوية، بإمكانها الاستفادة من المواد الموجودة في الكواكب الأخرى كالمعادن لاستنساخ نفسها وتصنيع مركبات فضائية نانوية أيضاً ليتم إرسالها إلى أنظمة نجمية أخرى. وبهذه الطريقة سوف تنتشر هذه الروبوتات النانوية في المجرة بأكملها مما سيزيد من فرص التواصل مع الحضارات الكونية.

إنترنت المجرَّة
في عام 1980م، اقترح الكاتب الأمريكي تيموثي فيريس، فكرة إنترنت المجرَّة بهدف تسريع الاتصال بين الحضارات الكونية. بحيث تقوم كل حضارة بتحميل بياناتها الخاصة بها إلى جهاز كمبيوتر خادم ويب، مثبت داخل مركبة فضائية. ويتم إطلاقها إلى الفضاء الخارجي بين النجوم، وتبث بياناتها إلى الأنظمة النجمية المجاورة من الحضارات الكونية الأخرى. كما يتلقى كل مسبار البيانات من الآخر وتضاف إلى البيانات الموجودة. وبهذه الطريقة فإن الحضارات في المجرَّة بأكملها ستكون مرتبطة بهذه الشبكة. وتتميز هذه الطريقة باختصار الزمن. بمعنى أن البيانات عن الحضارات التي تبعد عنا آلاف السنين من الممكن أن تصل إلى الأرض في غضون مئات السنين.
هذا هو الخيــال العلمــي الذي يسافــر بنـا في هذا الكون الفسيح، ويقدِّم لنا بارقة أمل في التواصل مع جيراننا في هذه المجرَّة، علنا نتشارك حضارة واحدة.


مقالات ذات صلة

في عام 2077م، شهد معظم سكان أوروبا كرة نارية تتحرك في عرض السماء، ثم سقطت كتلة تُقدّر بألف طن من الصخور والمعادن بسرعة خمسين كيلومترًا في الثانية على الأرض في منطقة تقع شمال إيطاليا. وفي بضع لحظات من التوهج دُمرت مدن كاملة، وغرقت آخر أمجاد فينيسيا في أعماق البحار.

نظرية التعلم التعاضدي هي: منهج تتعلم عبره مجموعة من الأفراد بعضهم من البعض الآخر من خلال العمل معًا، والتفاعل لحل مشكلة، أو إكمال مهمة، أو إنشاء منتج، أو مشاركة تفكير الآخرين. تختلف هذه الطريقة عن التعلم التعاوني التقليدي، فبين كلمتي تعاون وتعاضد اختلاف لغوي بسيط، لكنه يصبح مهمًا عند ارتباطه بطرق التعليم. فالتعلم التعاوني التقليدي […]

حتى وقتٍ قريب، كان العلماء مجمعين على أن الثقافة هي سمةٌ فريدةٌ للبشر. لكن الأبحاث العلميّة التي أجريت على الحيوانات، منذ منتصف القرن العشرين، كشفت عن عددٍ كبيرٍ من الأمثلة على انتشار الثقافة لدى أغلب الحيوانات. وعلى الرغم من الغموض الذي يلفّ تعبير الثقافة، حسب وصف موسوعة جامعة ستانفورد الفلسفيّة، هناك شبه إجماعٍ بين العلماء […]


رد واحد على “الاتصال مع الحضارات الكونية”

  • موضوع وطرح
    شيق وغاية الروعة ونادر الطرق
    يشد انتباه القارئ ويبحر به إلى أعماق بعيدة
    بين الحقيقة والخيال والتجارب والأبحاث
    وفي ذلك فضول وحب استطلاع للمتتبع.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *