مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2024

الاتزان الرقمي

حصص الواقع والخيال في وجودنا المزدوج


فريق القافلة

١- إدمان الإنترنت
الأرقام والأعراض

في نهاية التسعينيات من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، كان استخدام الإنترنت بمنزلة سفر إلى عالم آخر بعيد.

كانت الرحلة بطيئة نسبيًا، وتحتاج إلى الجلوس خلف شاشة الكمبيوتر المكتبي المتصل بمودم خاص يتطفل على خط الهاتف. وكانت التقنيات البسيطة المتاحة في ذلك الوقت باهرة. كان تسجيل حساب على برنامج المحادثة “AOL Instant Messenger” يُعد حدثًا في الحياة، وبدت المحاورة عبر البريد الإلكتروني كالسحر. وكان هذا الانبهار، بحد ذاته، دليلًا على الوعي بأننا بصدد عالم مغاير عن عالمنا الواقعي. نتذكَّر، بالطبع، الأفلام الأمريكية في تلك المرحلة، التي استثمرت هذه الإمكانات البسيطة ضمن أحداثها مثل فِلم “لديك بريد” (You’ve Got Mail) لميغ رايان وتوم هانكس، عام 1997م. في الفِلم الرومانسي، كانت التكنولوجيا الرقمية الوليدة داعمًا للوجود الإنساني؛ إذ حقّقت الرسائل الإلكترونية والمحاورة التعارف بين بائعة الكتب المثقفة ومنافسها التجاري، الذي هدَّد بابتلاع مكتبتها الصغيرة.

مرَّ الآن نحو ثلاثة عقود على تلك البدايات الرومانسية للتكنولوجيا الرقمية، وتواصل فيها التطوُّر المتسارع للبرمجة والصناعات الإلكترونية وقوة الشبكات، فتقلَّصت المسافة بين العالمَين، وأصبح وجودنا في الفضاء الإلكتروني بديهيًا لا نعيه أو نفكر فيه. بعبارة أخرى، لم نعُد نذهب إلى هذا العالم في رحلة ونعود منها بإغلاق شاشة الكمبيوتر، بل توحّد عالم الواقع وعالم الافتراض، وأصبحا عالمًا واحدًا. وللمفارقة، صار وجودنا الإنساني ذاته مزدوجًا. وبدا واضحًا الآن، أن توحيد العالمَين حقّق العديد من المكاسب، وأن انقسامنا نحن تسبب في كثير من الأضرار.

كقاعدة، لا تتراجع البشرية عن استخدام تكنولوجيا جديدة بسبب مخاطرها. فمثلًا، لم تجعلنا حوادث السير نتراجع عن السيارة. وبالمثل لا يمكن التراجع عن التكنولوجيا الرقمية بسبب مخاطرها. الممكن عمليًا هو دراسة هذه المخاطر ووضع قواعد الاستعمال التي تحقّق أكبر قدر من الأمان.

يُشير تقرير صادر عن مؤسسة Common Sense Media، إلى أن 50% من المراهقين يشعرون بأنهم مدمنون على الأجهزة المحمولة، وأن 59% من الآباء والأمهات يوافقون على أن أطفالهم مدمنون. هذا الإدمان يقلب المعادلة، فيجعل الوسيلة تستخدم الشخص لا العكس، وهو ما يتسبب في تقليص مساحة حياته الواقعية، بما ينجم عن ذلك من الأمراض البدنية والنفسية والاجتماعية. لذلك، كان لا بدَّ من الالتزام بمعدل آمن للاستخدام، وفرض إجراءات لتحقيق “الاتزان الرقمي”، بما يضمن الحفاظ على مساحة الواقع في مقابل مساحة الافتراض في وجودنا المزدوج.

القضية ليست سهلة؛ لأن التكنولوجيا الرقمية تحمل في طياتها مبدأي “الضرورة” و”القدرة على الإغواء”؛ لذا كان التصاعد كبيرًا في عدد المستخدمين.

بحسب مقال لآكاش كابور، في صحيفة “النيويوركر”، وعنوانه: هل يمكن حوكمة الإنترنت؟ (Can the internet Be Governed؟)، يذكر أن عدد مستخدمي الإنترنت كان عام 1996م، يبلغ 80 مليونًا عبر العالم، 80% منهم في شمال العالم (أوروبا وأمريكا الشمالية). الآن، أصبح عدد المستخدمين خمسة مليارات إنسان، وانقلبت النسبة فصار الثلثان في بلاد الجنوب بسبب ثقل الصين والهند.

إذا نظرنا إلى القضية من جهة فئات أعمار المستخدمين، فقد استثنت البدايات كبار السن من الولع بالتكنولوجيا الجديدة. لكنها صارت، مؤخرًا، هاجسًا لدى جميع الأعمار؛ لأن الجهل بها أصبح بمنزلة عزلة وخروج من التاريخ. ومع أنها صارت ولعًا عامًا، فإن مخاطر عدم الاتزان على الأطفال واليافعين، الذين لا يزالون في طور التكوين الجسدي والنفسي والاجتماعي، تختلف عن المخاطر على البالغين.

من جهة الهدف من الاستخدام، سنجد اختلاف آثار الإفراط بحسب أنواع الاستخدام للتكنولوجيا الرقمية والهدف منها. الاستخدام الترفيهي غير التعليمي، وكلاهما يختلفان عن إفراط المُجبرين على استخدام التكنولوجيا الرقمية بحكم وظائفهم.

ويُشير مصطلح الاستخدام المُفرط للإنترنت إلى الوقت الذي يقضيه المستخدم متصلًا بالشبكة على حساب نشاطات حياته الأخرى. ويقرأ الأطباء أعراض إدمان الإنترنت مبدئيًّا من زيادة هذا الوقت. بالإضافة إلى أعراض أخرى، منها: تقلب المزاج والشعور بالقلق أو الاكتئاب عندما لا يكون الشخص متصلًا بالإنترنت.

كيف تشعر في غياب الإنترنت؟

تخصّص جامعة ملبورن الأسترالية صفحة لطلب المساعدة في التعافي من إدمان الإنترنت، وتوفر أطباء ومتخصصين للمساعدة. وتُعرِّف الصفحة، الاستخدام المفرط للإنترنت بأنه قضاء وقت مفرط في أنشطة الإنترنت، مثل: الألعاب وغرف الدردشة على حساب التواصل الاجتماعي الحقيقي أو الدراسة. وتحدد أعراض الإدمان بزيادة الوقت بوصفها مؤشرًا أول، والشعور بالقلق أو الاكتئاب عند عدم الاتصال بالإنترنت، والفشل في التحكم بوقت الاستخدام. وتنصح بطلب المساعدة عند الشعور بهذه الأعراض.


مقالات ذات صلة

للموسيقى أهمية خاصة في حياة الأفراد والأمم، فهي حاملة للهوية، وبالقدر نفسه تسهم في بنائها. ولطالما ارتبط النقاش حول الموسيقى بأسئلة أساسية حول الأصالة والتجديد. وكثيرًا ما يصل النقاش إلى قطيعة بين أنصار الطرفين، وهذا ما تعيشه الموسيقى العربية منذ عقود طويلة.  ولفهم تعقيدات هذا الواقع الموسيقي العربي، تطرح “القافلة” هذه القضية بكل ما يحيط […]

منذ بداية القرن العشرين دخلت آلة الكمان إلى الموسيقى العربية على يد الفنان سامي أنطوان الشوا الملقب بـ”أمير الكمان” (1885م – 1965م)، ومؤلف الكتاب القيّم “القواعد الفنية في الموسيقى الشرقية والغربية”. هنا بدأت شرارة تطوير الموسيقى العربية، ولنا أمثلة على روّاد كانت لهم بصمة مخلّدة، مثل: سيد درويش ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي وفريد الأطرش وكثير […]

ليس غريبًا ألا تقتفي الأجيال الجديدة نماذج السابقين، فلكلّ جيل حاجته في بيئته. لقد شهدت خمسينيات القرن العشرين في مصر، مثلًا، مواجهة بين ما يمكن أن نُطلق عليه اسم “الأغنية الكلثوميّة” التي كانت بصدد اختتام زمنها والأغنية الحليميّة التي كانت بصدد افتتاح زمن جديد. ولعلّ من أطرف التعابير الفنّية عن هذه المواجهة فيلم “ليالي الحبّ” […]


0 تعليقات على “القضية: الاتزان الرقمي”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *