مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
عدد خاص | سبتمبر - أكتوبر 2022

ما كانت عليه قبل أن تكسفها السيارة

الإبل.. عطايا الله


الدكتور سعد الصويان

حين امتطى أفراد الرحلات الاستكشافية ظهور العيس بحثًا عن مصادر الزيت المحتملة في صحاري الجزيرة، لم تكن تلك العيس تدري بأنها تخطو خطواتها الأخيرة على رمال الجزيرة العربية وتخط بأخفافها نهايتها الحتمية. فقد مهَّدت لمجيء آليات تسيّرها مشتقات البترول سلبت دور الإبل كوسائل للسفر والتنقل وحمل الأثقال، بل وحتى جذب الماء من الآبار “السواني”.
يقول الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان: “نحن نشكِّل أدواتنا، وبعد ذلك أدواتنا تشكلنا”. استأنسنا الجمل فتشكلت ثقافتنا بناء على هذا الاستئناس، ثم اكتشفنا النفط، فتشكلت ثقافتنا مرة أخرى بناء على هذا الاكتشاف. فما أجحدنا وأنكرنا لفضل هذا الكائن الذي أمرنا الله أن نتدبَّر في خلقه!

بحلول السيارات محل الإبل في التنقل والأسفار وحمل الأثقال، وبانتهاء دور الإبل في رفع المياه من الآبار لسقيا المزارع واستبدالها بمكائن الضخ والآبار الارتوازية، طُويت صفحة البداوة في الجزيرة العربية، خصوصًا مع عزوف غالبية الناس عن حليب الإبل ولحومها. حتى مقدمة القصيدة النبطية التي يسمونها “الإركاب” والتي يقابلها مسمى “الرحلة” في الشعر الجاهلي استبدلت فيها الناقة بالسيارة.

فمنذ أول ظهور للسيارات، نظَّم شعراء النبط مطولات يقارنون فيها بين مزايا الإبل ومزيا السيارات “الحناتير (ومفردها: حنتور)”. وشيئًا فشيئًا، تحوَّلت السيارة إلى موضوع شعري حل محل الناقة في مقدِّمة القصيدة عند شعراء النبط الذين تعاملوا مع السيارة كما لو كانت كائنًا حيًّا يحمل من المشاعر والأحاسيس ما تحمله النوق.

نقل ابن الصحراء طبيعة علاقته مع الإبل، ككائنات حية، إلى علاقته مع السيارة التي صار يتعامل معها كحيوان، وليس كآلة، وصار يشير إلى أجزائها في قصائده كما لو كانت أعضاء كائن حي. فمن تصور آنذاك أن ابن الصحراء كان سيتخلى بهذه السهولة عن الإبل التي لطالما تغنَّى بها في أشعاره وكان يسميها “عطايا الله” تعبيرًا عن شدَّة تعلّقه بها وتقديره لدورها المهم في حياته! لقد تبخّرت كل تلك الثروة اللغوية من المفردات المتعلِّقة بالإبل ومنتجاتها، وتلاشت من أحاديثنا وآلت إلى النسيان والاندثار.

بين الذلول والسقس
مثلما شكَّل اكتشاف البترول نقلة نوعية في تاريخنا الحضاري، كذلك شكَّل استئناس البعير قبل ذلك ملامح حضارتنا ولغتنا وأسلوب حياتنا طوال آلاف السنين التي سبقت عصر البترول. لكن تغلغل الإبل في ثقافتنا ولغتنا كان أعمق أثرًا. فالبترول ومشتقاته ومعدات تكريره واستخراجه والآليات التي تعتمد على البترول لتشغيلها تفتقر إلى ذلك الطابع العاطفي الذي يربط البعير، ككائن حي، بالإنسان. والمسحة العاطفية التي كانت تصطبغ بها علاقة إنسان الصحراء ببعيره شكَّلت إلى حد كبير علاقته بسيارته لاحقًا، بحيث حوّلت السيارة من كيان جامد إلى كائن حي. فنجد البدوي يتغنَّى بسيارته مثلما كان يتغنَّى براحلته ويصف أدق تفاصيلها وجزئياتها، تمامًا كما كان يصف أعضاء الراحلة وأجزاء جسدها. لاحظ مدى تعاطف بخوت المرية مع “موتر السقس” كما لو كان كائنًا حيًّا، كما لو كان بعيرًا:
“حن قلبي حنة السقس معَ طلعة نفود//عشّقوا له بالدبل والحمولة زايده”.

كانت العلاقة المتبادلة بين ابن الصحراء وبين البعير علاقة عملية نفعية تولدت عنها علاقة عاطفية، إذ لا الإنسان يستطيع العيش في الصحراء من دون البعير، ولا البعير يستطيع العيش في الصحراء من دون الإنسان. فاستئناس البعير جعل العيش في الصحراء أمرًا ممكنًا وضروريًّا في الوقت نفسه. ويعي البدوي هذه الحقيقة، ويعبِّر عن تقديره لدور الإبل في تمكينه من التكيف مع معيشة الصحراء بتسميتها “عطايا الله”.

ولا يمل العربي من الحديث عن الإبل ومزاياها وضرورتها لحياته؛ إذ شكّلت موضوعًا دائم الحضور في أشعار العرب وحكاياتهم. ومعظم الصور والمجازات البلاغية والحكايات عند البدو تدور حول هذا الكائن الأعجوبة في تحمله لظروف الحياة في الصحاري القاحلة ومناخها الحار.

وبحكم شفاهية الثقافة الصحراوية، يحتل وصف الراحلة افتتاحية القصيدة. هذه الشفاهية جعلت من البعير عند البدوي أكثر من مجرد كائن يثير الدهشة والإعجاب طبعًا وخلقًا، فهو أداة يمتطيها الشاعر لتساعده في التنفيس عن همومه ونظم قصيدته إذا تلبّسه شيطان الشعر ثم قطع المفازات لنقل القصيدة من قائلها لمن قيلت فيه. يقول طرفة بن العبد:
وإني لأمضي الهم عند احتضاره
بعوجاء مرقالٍ تروح وتغتدي

ويقول رضا بن طارف الشمري:
لى ضاق بالي قلت دنّوا ذلولي
حطّوا عليها كورها والقراميش
حطّوا عليها كورها وارخصوا لي
نبي نمضّي وقتنا بالمطاريش

البعير في مطلع القصيدة
تصدَّر البعير مطالع القصائد بشكل يؤكد محورية أهميته في حياة البادية كوسيلة لنقل الأشعار وبث الأخبار منذ العصر الجاهلي وحتى الأمس القريب. فقد تعلُّق شعراء الصحراء العربية، فصيحهم ونبطيهم، بالإبل. ووظفوها كموضوع شعري يعود إلى أقدم النماذج التي بين أيدينا من الشعر العربي منذ عصور ما قبل الإسلام. ومردّ ذلك كون الإبل من أنجع الوسائل لبث الأشعار وتوصيل القصيدة من قائلها لمن قيلت فيه، أو من خلال الحداء بالأبيات الشعرية أثناء السفر على الإبل. ولذا احتلت النوق صدارة القصائد وأبياتها الأولى.

كانت العلاقة المتبادلة بين ابن الصحراء وبين البعير علاقة عملية نفعية تولدت عنها علاقة عاطفية، إذ لا الإنسان يستطيع العيش في الصحراء من دون البعير، ولا البعير من دون الإنسان

فهي الجزئية التي تصف مشقة الطريق ووحشة الصحراء. فعادة ما يفتتح الشاعر قصيدته بمقدِّمة تستغرق عدة أبيات يصف فيها كيف ينظم قصيدته، ثم كيف يبعث بها مع مندوبٍ خِرّيتٍ على ناقة نجيبة إلى الشخص الذي قيلت فيه، وذلك قبل أن يلج في الأبيات اللاحقة بموضوع القصيدة والهدف من إرسالها.

وفي هذه المقدِّمة الشعرية يصف الشاعر كيف أنه إذا هاضت قريحته يركب راحلته ويجوب البراري، مما يشحذ قريحته ويساعده على نظم أبيات القصيدة. ثم يستطرد في وصف الراحلة النجيبة التي يختارها ليبعث قصيدته مع مندوبه “نديب” إلى الشخص المعني، ثم يعرّج على وصف وحشة الطريق ومشقات السفر وبعد المسافة ونُبل الراحلة وجسارة المندوب.

في هذه الافتتاحية تظهر الناقة كوسيلة لتوصيل الرسالة الشعرية. ويصور لنا الشاعر مندوبه الذي سيوصل القصيدة وهو يغنى أبيات القصيدة على وقع خُطا راحلته حتى لا ينسى أيًّا من أبياتها. وفي هذه الجزئية من القصيدة يصوِّر الشعراء الناقة كوسيلة لتوصيل الرسائل والأخبار بين نجوع البادية على شكل أبيات شعرية يهزج بها المسافرون على ظهور رواحلهم.

ويرى النُقَّاد أن هذه المقدِّمة الشعرية غالبًا ما تشكِّل أجمل ما في القصيدة من الناحية الفنية؛ إذ يحاول الشاعر المُجيد أن يبرز فيها موهبته الشعرية ومعرفته الموسوعية بطرق الصحراء ووحشتها، وبالإبل وسلالاتها وطباعها، ويرسم صورة متكاملة لراحلته (الذلول، المطيّة) وصفاتها الاستثنائية.

تفضيل الناقة على الجمل
ويفضّل الشعراء الناقة على الجمل لأنها أهدأ طبعًا وأسلس انقيادًا. هذه المطية الشعرية ناقة نجيبة ومذلّلة وعاقر لا تلد، لأن الولادة والرضاع تنهكها، وأيضًا لأنه يصعب إبعاد الناقة المرضعة عن حوارها. ويختار الشاعر راحلته من سلالة نجيبة مخصصة للركوب وليست من الإبل المستخدمة لنقل الأحمال. فهي حادة السمع والبصر، قوائمها رشيقة وطويلة، نحرها واسع، سنامها مركوز وأضلاعها بارزة ورقبتها طويلة ومقوّسة. هذه الراحلة تستطيع السفر بسرعة وتجتاز مسافات الصحراء الطويلة الموحشة الخالية من الموارد من دون أن تفقد نشاطها أو يطالها التعب. كما تستطيع لطول رقبتها أن ترعى وهي تجري من دون أن تضطر للتوقف، وبذلك لا يفقد راكبها وقته الثمين. هذا عدا أنها تستطيع السفر لبضعة أيام من دون توقف للشرب، مما يمكنها من قطع مفازات لا ماء فيها.

من خلال المعالجة الفنية على أيدي الشعراء في مقدِّمات القصائد، تحوَّلت الناقة إلى ما يشبه الكائن الخرافي

ومقدِّمة الرحلة أو ما يسميه شعراء النبط “الإركاب” موضوع يشترك فيه الشعر النبطي بكل تفاصيله مع شعر الجاهلية وصدر الإسلام، كما أشرنا سابقًا؛ فقد استمر شعراء النبط إلى وقت قريب يتناولون موضوع الراحلة في مقدِّمة قصائدهم بالشكل نفسه التقليدي الذي اعتاد عليه شعراء العصور الكلاسيكية. ويسمون هذه المقدِّمة “إركاب” لأن الشاعر عادة يتخيل نفسه يبعث بقصيدته إلى الشخص المعني الموجهة له القصيدة مع مندوب يقطع المسافة راكبًا ذلولًا نجيبة يصفها الشاعر في الأبيات الأولى التي تشكِّل مطلع القصيدة. والشعراء ليسوا سواء في معالجتهم لموضوع الرحلة، فالبعض يمر على الموضوع مرور الكرام بينما يسهب البعض الآخر في وصف الراحلة وكأنه يعطيك “كتالوجًا” يصف فيه بدقة وإسهاب طباعها وعضلاتها ومميزاتها وجميع خصائصها البدنية والسيكولوجية.

فمن خلال المعالجة الفنية على أيدي الشعراء في مقدِّمات القصائد، تحوَّلت الناقة إلى ما يشبه الكائن الخرافي. فهي من شدَّة سرعتها لا تكاد أخفافها تلامس الأرض، ومن قوة وطئها تحطّم أخفافها الحصا التي تتطاير من تحت قدميها يمنة ويسرة كالسهام. ولكي يحث الشاعر راحلته على سرعة المسير يتصور أنها هاربة من وحوش البر التي تجري خلفها لتفترسها، بل قد يتصور أن هِرًّا متعلقًا بجانبيها ينهشها بأنيابه ومخالبه الحادة، ويشبّه سرعتها بسرعة النعامة أو غزال شارد يتعقبه الصياد أو طائر القطا في طريقه لمورد الماء. وقد يصور سرعة انطلاقها بانقضاض الصقر على فريسته، أو بدلو مملوء بالماء يهوي من أعلى البئر إلى القاع بعدما انقطع به الحبل.

من مستلزمات الرحلة
قبل الرحلة، تترك الراحلة في البراري ترعى أعشاب الصحراء يحميها أبطال القبيلة الأشاوس من الأعداء الذين يتحينون الفرص لنهبها دائمًا. وفي هذه الفترة، تخزّن الراحلة اللحم والشحم في سنامها لتقتات عليه لاحقًا حينما تدعو الحاجة لامتطائها لقطع الفيافي الشاسعة في رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر من أجل توصيل الرسالة الشعرية من القائل إلى من توجه له أبيات القصيدة. خلال هذه الفترة، يتراكم الشحم على سنام الراحلة حتى يصبح من الصعب شد الرحل عليها. وطوال هذا الوقت، تكون الناقة معفّاة لا يركبها أحد، ومتروكة ترعى في الفيافي حتى تحين الحاجة لشدها والارتحال عليها في رحلة طويلة موحشة.

وحيث إنها أمضت كل هذا الوقت الطويل ترعى في البراري والفيافي من دون أن تُركب، فإن الناقة تستوحش ولا تأنس بالبشر وتفر منهم، بل إنها، كما يصورها الشعراء في مبالغاتهم الشعرية، تجفل من ظلالها ولا تقبل شد الشداد على ظهرها. وعلى الراكب أن يمسك بالرسن جيدًا ليتمكَّن من التحكم في حركات الناقة وإلا سقط هو والشداد من على ظهرها.

المسحة العاطفية التي كانت تصطبغ بها علاقة إنسان الصحراء ببعيره شكلت إلى حد كبير علاقته بسيارته لاحقًا

تبدأ الناقة رحلتها مكتنزة شحمًا ولحمًا لكنها تتحوَّل في نهاية الرحلة الطويلة الموحشة إلى هيكل عظمي، حيث يختفى سنامها تمامًا وتبرز أضلاعها وتتجرح أجنابها من احتكاك الشداد. ويصل التشبيه الفني ذروته حينما يشبِّه الشاعر آثار حبال الرحل على جوانب الناقة بآثار حبال جذب الدلاء مع مرور السنين والدهور على جوانب البئر الصخرية، أو عندما يشبه تحريك الراحلة لشعر ذيلها بشعر عذراء جميلة ترقص في ليلة زفافها.

الذهاب في رحلة طويلة في كبد الصحراء مهمة موحشة في غاية المشقة، تحفها المخاطر من كل جانب بالنسبة للراكب والمطية، وقد تودي بكليهما إلى الهلاك. لذا لا بد من أخذ الاحتياطات اللازمة وأن يوظّفا حواسهما المرهفة وغرائزهما الحادة وأن يتعاونا لتجنب المخاطر.

حدّة السمع والبصر وحاسة الشم القوية غرائز تساعد المطية على سرعة الإحساس بالخطر حتى ولو كان بعيدًا، وتنبيه راكبها لذلك بحركاتها الصامتة، لكنها لا ترغي ولا تصدر صوتًا حتى لا تلفت الانتباه، وتجذب لها الأعداء والوحوش. الراحلة والراكب يتعاونان بشكل عجيب في تجنب مخاطر الرحلة الموحشة في الفيافي والقفار. والراكب المجرّب لا يسيء معاملة مطيته، لكنه يبحث دائمًا عما يريحها لأن هلاك أحدهما يعني هلاك الآخر.

تشاركا الشظف فأصبحا رفيقين
من خلال مشقات هذه الرحلة الطويلة في الصحراء الموحشة تنشأ ألفة قوية وحميمية بين الذلول وراكبها الذي يتعاطف مع ذلوله ويتماهى معها ويشاطرها المعاناة ويتعمق إدراكه لقدراتها الاستثنائية على تحمل مشقات الطريق ووحشة الصحراء ومتاهاتها. وكثيرًا ما نجد الشاعر يعقد محاورة شعرية متخيلة بينه وبين راحلته، كل منهما يشكو للآخر مشاق الطريق ووحشته ويقدم العزاء والمواساة لصاحبه، ويحثه على الصبر والتحمل لنيل المراد وتحقيق أهداف الرحلة.

حنين الراحلة الخافت من تحته يمثل للشاعر قسوة معاناته هو ووحشته وأحزانه. وحزن الشاعر على فراق أحبته وأبناء عشيرته يبدو وكأنه صدى لحنين راحلته المأساوي من تحته التي تحن إلى حوارها ورفاقها في الذود/القطيع. ومعروف عن الإبل شدَّة حنينها لرفاقها وشدَّة تعلقها بصاحبها الذي ألفته، ناهيك عن شدَّة تعلقها بحوارها. حنين الناقة وتعلقها بمن تألفه يُسمّى “ريام” وفعلها “يروم”. ويستغل البشر نفس المفردات للتعبير عن مشاعر الألفة والمحبة عند النوق ليضفوها على البشر مثل كلمة “ولف” وكلمة “ريام” وكلمة “حنين”. وحينما ترى الناقة حوارها الصغير “تحن” إليه و”تْعَطف” أي تدر حليبًا ليرضعها، ومنه اشتق مفهوم “العطف” على الضعيف والمحتاج عند البشر، واستعرنا من الإبل مفاهيم “الولف/الإلف” و”الحنين”.

وهناك عديد من الشواهد على أنسنة ابن الصحراء للإبل. فمثلًا كانوا يسمون الشخص الصبور الذي يُعتمد عليه في النوائب والملمات ويتحمل ما يوكل إليه من مهام جسيمة “جمل المحامل”. ومن الشواهد الشعرية على ذلك ما حدث في موقعة دخنة بين قبيلة مطير ومعهم أهل مدينة عنيزة وبين قبيلة قحطان التي سقط فيها شيخ قحطان حزام بن حشر فرثاه الشاعر حويدي العاصمي القحطاني بقصيدته المشهورة والتي منها:
رحنا وخلينا وديع الحفايا
على نفي مع ايسر القور نزّال
حطوا على قبره رفيع البنايا
ورحنا منه مع طلعة الشمس حُوّال
لى واجملنا اللي يشيل الروايا
لى قرّبوا للشيل وثنات الاجمال
لو كل الاربع من خفوفه دمايا
ما هوب من كثر التعاليق ملّال
غدى بيومٍ لا سقته الروايا
من فوق عِدٍّ جَنّبه كل همّال

السيارة تزيح البعير من القصيدة
لما حلّت السيارات محل الإبل كوسائل للتنقل، استأثرت بمقدِّمة القصيدة وصار الشعراء يبعثون برسائلهم الشعرية مع مندوبيهم الذين يركبون سيارات فاخرة يسهب الشعراء في وصف موديلها وأجزائها بالتفصيل، تمامًا كما كانوا يسهبون في وصف أعضاء وعضلات الناقة. فوصفوا المقود والعجلات والأنوار الأمامية والخلفية، بل حتى حنين السيارة وهي تعبر الممرات الصعبة في المناطق الرملية. واشتهرت الشاعرات تحديدًا في تناول هذا الموضوع بشكل لافت مثل بخوت المرية وأم شيحان السنجارية.

الأمر المؤسف هو أن الغزو التقني جعلنا نتنكر لهذه العلاقة الحميمة الموغلة في القدم بيننا وبين الإبل، والتي شكَّلت مجمل ثقافتنا ولغتنا العربية عبر الدهور والعصور، فنسينا حتى مفرداتها الأساسية. وها نحن نطلق مفردة “جمل” على الذكر والأنثى متأثرين باللغات الأجنبية، وهذه من أكثر مظاهر الاستغراب إيلامًا، فالعرب تقول للذكر “جمل” ولكن الأنثى “ناقة” والجمع “إبل” أو “نوق” وليست “جمال”، لأن الرعية من الإبل لا يوجد فيها إلا جمل واحد، ولو وجد فيها اثنان لتعاركا في موسم “الضراب”، أي التلقيح، حتى يقتل أحدهما الآخر.

من جانب آخر، تزخر اللغة العربية بأسماء الإبل وأنواعها وصفاتها وأعمارها واستخداماتها، وهلم جرا. غير أننا تخلينا مع الأسف الشديد عن هذه الثروة اللغوية التي تشكِّل أخص خصوصياتنا الثقافية، بل إننا أصبحنا نأنف من أكل لحوم الإبل وشرب حليب النوق. والأدهى والأمرّ أن البعض صار يصوّر الإبل على أنها علامة التخلف وأنها “معياره”. خَجَلُنا من الإبل وحضارة الصحراء هو منتهى التغريب.

البعير، إلى جانب النخلة، هما أيقونتا حضارة الجزيرة العربية، ولولاهما لاستحالت الحياة البشرية في هذه البيئة الصحراوية القاحلة. هذان الكائنان، الحيواني والنباتي، متكيفان مع بيئة الصحراء الشحيحة القاسية بشكل مذهل لا يجاريه فيهما إلا القليل من الكائنات النافعة للإنسان. البعير والنخلة كلاهما مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الجزيرة الصحراوية وما قام عليها من حضارات، ولا ينبغي لنا أن ننساهما بهذه السهولة.


مقالات ذات صلة

هل تتصور أنك تعيش حياة كريمة طبيعية في عالمنا اليوم إذا لم تكن تعرف القراءة؟

التصنيف الأدبي مرتبط بشكل رئيس حول ما يستثيره من مشاعر لدى المتلقي. ولكن، هل هناك حد فاصل وعازل بين الأجناس الفنية؟

نستطلع في هذا المقال رأي بعض من خاض تجربة العيش في قرية عما تمثِّله الحياة في القرية لهم.


رد واحد على “الإبل.. عطايا الله”

  • تخلل الأبيات الشعرية للمقالة يضفي عليها جمال ويحيي هذه الأبيات ويقربها للجمهور. استمتع في قراءة مواضيع تربط لنا الماضي بالحاضر.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *