مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر - أكتوبر | 2018

الأناشيد الوطنية


فريق القافلة

الصورة لنسخة من مخطوطة النشيد الوطني البولندي “بوغورودزيكا” ظهر في زمن ما بين القرنين الميلاديين العاشر والثالث عشر

النشيد الوطني شعرٌ ولحنٌ يسموان على كل الأشعار والألحان.
يُلقى ويُستمع إليه وقوفاً، تعبيراً عن الاحترام الذي يليق به.
فمهما عَظُمت إبداعات الشعراء والملحنين في بلاد ما، يبقى النشيد الوطني وحده في مرتبة خاصة به فوق قمة هرم هذه الإبداعات، ليحظى بالتفاف أبناء البلاد جميعاً حوله.
قد لا يستغرق إلقاؤه أكثر من دقيقة، ولكن يا لها من دقيقة مهيبة، ويا لعظمة الصور التي تتوالى خلالها. صور تختزل مجموعة قِيَم، مهما تنوَّعت وتلوَّنت، تبقى أولاً وأخيراً مصدر فخر واعتزاز بالنسبة للمنشد، الفخر والاعتزاز بمن هو وبما هو عليه.
في هذا الملف، يستطلع فريق القافلة عوالم الأناشيد الوطنية، ونقول عوالم (بالجمع)، لأن لكل نشيد وطني عالمه الخاص نشأةً وتطوراً، كما هو حال الوطن الذي ينشده.

لأن الأوطان غالباً ما تحتشد بمقدار هائــل من المعاني والذكريات والبطولات والصور التي لا تُختَزَل كيفما كان، ابتدع الإنسان رموزاً تمثّل الوطن وكأنها بطاقة هويّة تختزل مآثــره وقيمــه. والنشيد الوطني هو أبرز الرموز التي أبدعها البشر لتكون بطاقة هويتهم الوطنية.
واكتسبت بطاقة الهوية الوطنية هذه أهمية في العصر الحديث أكثر من أي وقت مضى، بفعل تزايد الاتصال فيما بين الشعوب والدول، فخرج النشيد الوطني من حدود وطنه الأم، وصار حاضراً في المناسبات الدولية الكبرى والرسمية كواحد من أبرز سماتها.

إحدى النسخات الأولى من نشيد هولندا، “فلهلموس” تم حفظها في مخطوطة من عام 1617م في المكتبة الملكية ببروكسل، بلجيكا

بدايات ظهور الأناشيد الوطنية
صورة عن تاريخ بعضها

ظهر تقليد أن يكون للبلاد نشيد وطني يرمز إليها على الخصوص في أوروبا في القرن التاسع عشر، على الرغم من أن بعض الأناشيد كانت أقدم عهداً لكنها لم تكن معتَمَدَة رسمياً

ظهر تقليد أن يكون للبلاد نشيد وطني يرمز إليها، على الخصوص في أوروبا في القرن التاسع عشر، على الرغم من أن بعض الأناشيد كانت أقدم عهداً، لكنها لم تكن معتَمَدَة رسمياً.
فإذا عدنا إلى بداية تاريخ الأناشيد الوطنيّة، سواء أكانت رسميّة حكوميّة، أم كانت مجرّد نشيد يردّده الشعب للمناسبات الوطنيّة، فإن النشيد الوطني البولندي “بوغورودزيكا”، يأتي في المقدِّمة. فقد ظهر في زمن ما بين القرنين الميلاديين العاشر والثالث عشر. ويأتي بعده نشيد هولندا، “فلهلموس”، الذي يُعَد أقدم الأناشيد الوطنية الوطنية في العالم، وقد كُتِب شعره بين عامي 1568م و1572م، في أثناء الثورة الهولنديّة، وأما لحنه فظهر قبيل عام 1626م. وظل مجرد نشيد تنشده المسيرات المؤيدة لأسرة أورانج الحاكمة، ولم يُعتَمَد نشيداً رسمياً لهولندا إلا عام 1932م. وأما أقدم شعر تحوّل إلى نشيد وطني في التاريخ المعروف، فهو شعر النشيد الوطني الياباني “كيميغايو”، الذي كُتب في عهد حكم أسرة الهيان بين عامي 794 و1185م، ولكنه لم يُلحّن إلا في العام 1880م.

النشيد الوطني الحديث في ألمانيا “أنشودة الألمان”، الذي اتخذ اللحن نفسه الذي كان نغم نشيد الإمبراطورية النمساويّة المجريّة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين “ليحفظ الله فرانتس القيصر” فرانتس القيصر

وظهر “المَرْسِيّيز”، نشيد فرنسا الوطني في العام 1792م، واعتُمِد رسمياً عام 1795م. أما نشيد صربيا الوطني “انهضي يا صربيا”، فهو أول نشيد وطني ظهر في دول أوروبا الشرقية، وكان ذلك عام 1804م.

للنشيد الوطني الأمريكي أربع فقرات شعر، لكن ما يُنشَد منها في المناسبات الوطنية والرياضية عادة ليس سوى الفقرة الأولى. وجميع الفقرات تنتهي بكلمات: “على أرض الأحرار وموطن الشجعان”

ومن أشهر الأناشيد الوطنيّة في العالم وأعرقها زمنياً “God Save the Queen” (حمى الله الملكة)، وهو النشيد الملكي البريطاني، الذي اعتمدته بريطانيا العظمى عام 1745م، والذي يُعزَف ويُنشَد في كل دول الكومنولث، ولكن فقط بحضـور الملكـة أو الملك. والغريب في الأمر أنه حتى يومنا هذا، ليس نشيداً وطنياً معتمَداً رسمياً في المملكة المتحدة، على الرغم من أنه تحوّل إلى نشيد وطني بالعُرف والتقليد.
وفي الممالك والإمبراطوريات يكون النشيد الوطني في المعتاد ذا طابع وطني ويدعو إلى الدفاع عن البلاد وما شابه من معانٍ. لكنه أيضاً يدعو للمليك أو الإمبراطور، أو يشيد به أو بالأسرة المالكة والسلالة الحاكمة. ولدى بعض الممالك في العالم نشيدان، واحد نشيد وطني وآخر ملكي أو إمبراطوري. وثمة بلدان لديها بالإضافة إلى ذلك نشيد للعَلَم.
وعلى الرغم من تاريخها القصير نسبياً، عرفت معظم الأناشيد الوطنية تغيّرات في مضامينها الشعرية وفي ألحانها، أملته عادة تحولات سياسية وتطورات وطنية كبرى. وإن كان المجال لا يتسع هنا لسرد تاريخ كل منها، يمكننا أن نتوقَّف أمام أمثلة محدودة تُظهر تلون المناسبات والأحوال التي تولد فيها الأناشيد الوطنية، وبعض العوامل التي تسهم في صياغتها.

نشيد فرنسا الوطني
وُلِد في مدينة وسُمِّي باسم مدينة أخرى
من الأناشيد الوطنية الأكثر تعبيراً عما يمكن أن يمر به نشيد وطني ما بين ولادته في وجدان فرد وتحوّله إلى التعبير عن وجدان شعب بأكمله، النشيد الوطني الفرنسي الذي يزيد عمره على القرنين.

الخطوط الافتتاحية لـ (المَرْسِيِّيز)
نفس النغم الموسيقي لنشيدين: استُخدم في النشيد القيصري الألماني، في القرن التاسع عشر “تحية لك بإكليل نصرك”، النغم ذاته المستخدم في النشيد الوطني البريطاني “حمى الله الملك (أو الملكة)”

كان ” نشيد فرنسا الوطني المعروف باسم المَرْسِيِّيز” أغنية حربيّة ثوريّة، ونشيداً للحريّة، ثم صار نشيداً وطنيّاً لفرنسا في العام 1795م. وقد تبدّلت كثيراً فقرات الشعر في هذا النشيد على مر العهود وأحداث التاريخ الفرنسي منذ الثورة الفرنسيّة الكبرى إلى يومنا هذا.
كتب النشيد ووضع لحنه النقيب المهندس في الجيش الفرنسي روجيه دو ليل، في ثكنته في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، قرب الحدود مع ألمانيا، إلى الشمال الشرقي من فرنسا. وقد وضعـه بعنوان “أغنية حربيّة لجيش الراين”، في 25 أبريل عام 1792م، بناءً على طلب رئيس بلدية المدينة. لكن لماذا وُضع النشيد، ولماذا نُسِب إلى مرسيليا، المدينة الواقعة في أقصى جنوب شرق فرنســا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط؟
كانت مناسبة تأليف النشيد إعلان فرنسا الثوريّة الحرب على النمسا. ووصل النشيد الموضوع لجيش الراين الفرنسي، إلى مدينة مرسيليا بواسطة المتطوّعين للحرب الآتين من ستراسبورغ. وهناك، في أثناء وليمة، أنشد أحد المتطوعين النشيد، وعلى الفور دبّت الحماسة في المستمعين فأخذوا يردّدونه باندفاع. ثم نشره صحافيان في الصحف. وحين زحفت كتائب الجيش الفرنسي من مرسيليا إلى باريس، أخذ الجنود ينشدون النشيد، في القرى والبلدات التي يمرّون فيها، ليثيروا من الحماسة ما لم يعهدوه من قبل. وأخذ الناس يطلقون على النشيد اسم نشيد المرسيليّين، واختُصر الاسم فيما بعد ليصبح: “المَرْسِيِّيز”، ونسي الجمع في حمأة هذه الحماسة أن النشيد وُلِد في ستراسبورغ، لا في مرسيليا.

وظل مجرد نشيد تنشده المسيرات المؤيدة لأسرة أورانج الحاكمة، ولم يُعتَمَد نشيداً رسمياً لهولندا إلا عام 1932م

لكن من غرائب ما جرى في شأن النشيد، أن واضعه، شعراً ولحناً، روجيه دو ليل، سُجِن ستة أشهر في مرحلة “الإرهاب” الثورية التي دانت فيها السيطرة للطاغية ماكسيميليان روبسبيير (1758-1794م)، زعيم المتطرّفين في الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة، إبان الثورة. فكان دو ليل في السجن، فيما كان جنود الثورة الفرنسيّة ينشدون نشيده وهم يتقدّمون بحماسة لمقاتلة أعداء فرنسا.
ومع تطور أحداث الثورة الفرنسية، من صراع في الداخل، وحرب مع الخارج، استولى نابليون بونابرت على الحكم في نوفمبر 1799م. وعندما نصّب نفسه إمبراطوراً عام 1804م، منع نشيد المَرْسِيّيز، وأحل مكانه نشيد: “لنسهر على سلامة الإمبراطورية”. وبعد سقوط بونابرت عام 1815م، وعودة النظام الملكي، ظل المَرْسِيّيز ممنوعاً، ليطل على فترات متقطعة خلال ثورات عام 1830م، ثم عام 1848م. وعاد ابن شقيق نابليون، نابليون الثالث الاستيلاء على الحكم، وأعاد السلطة الإمبراطورية، فغابت المَرْسِيّيز بالطبع، حتى قامت ثورة جمهوريّة عام 1870م، وأعادت الاعتبار لهذا النشيد منذ عام 1879م إلى يومنا هذا.

كيف ومتى يؤَدَّى
النشيد الوطني

يُعزَف النشيد في المناسبات القومية والوطنية والمهرجانات والمناسبات الرسمية الأخرى. واتَّبَعت بعض البلدان إنشاد النشيد الوطني في صفوف المدارس قبل بدء الدراسة، في كل يوم، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية ودول أخرى. وقد يُعزَف النشيد في بعض البلدان قبل بدء العرض في دور السينما والمسارح. بل إن كثيراً من الإذاعات والتلفزيونات في العالم تبدأ عرضها اليومي، أو تختتمه، بالنشيد الوطني. فمثلاً ينص القانون في كولومبيا وفي تايلند على وجوب ذلك.

أما عزف النشيد الوطني خارج بلاده، فيحصل خلال الزيارات الرسمية التي يقوم بها قادة الدول لدول أخرى، إذ تمثّل عربون الاحترام المتبادل ما بين بلد القائد الزائر والبلد المضيف، وتتولى السفارات عادة نقل تسجيلات أو تدوينات الأناشيد الوطنيّة إلى البلاد المعتمَدة فيها، ليكون في الإمكان عزفها في الزيارات الرسميّة المتبادلة. كما يحضر النشيد الوطني خارج بلاده في مناسبات كبرى غير سياسية، ولكن الأمر يتوقف على الاعتراف بذلك البلد.

واستطراداً، كان نشيد مقاطعة بلاد الغال (ويلز) البريطانية، أول نشيد وطني في العالم يُنشَد في لقاء رياضي دولي، وكانت تلك بداية تقليدٍ صار متّبعاً في اللقاءات الرياضيّة الدولية. وكانت مناسبة عزفه وإنشاده لقاء مباراة روغبي، بين ويلز ونيوزلندا عام 1905م.

وأخذت المناسبات الرياضية تتّبع هذا التقليد في المباريات الدوليّة، لا سيّما حين يلتقي فريقا بلدين مختلفين، وعندها يُعزف أولاً نشيد بلد الفريق الضيف، أو حين يفوز رياضي بميداليّة ذهبيّة. وقد بدأ اعتماد الأناشيد في المناسبات الرياضيّة في مباريات البيزبول الأمريكيّة، إبّان الحرب العالمية الثانية.

وعند عزف النشيد الوطني، تختلف التقاليد المصاحبة لذلك، غير أنها كلها تعبر بشكل أو بآخر عن الاحترام ومهابة الفعل. والسلوك الأكثر شيوعاً هو الوقوف، أو خلع القبعات في بعض البلدان. وفي أمريكا مثلاً، يضع الناس أكفهم اليمنى على صدورهم فوق القلب.

روجيه دو ليل يغني (المَرْسِيِّيز) لأول مرة في لوحة فنية رسمها إيزيدور بيلس (1813-1875م)
كتب فرانسيس سكوت كي على عجل، شعره على ورقة أخرجها من جيبه في يوم 14 من شهر سبتمبر عام 1814م، وهو يشاهد البريطانيّين يقصفون حصن ماك هنري، لم يضع فوق أبياته أي عنوان

قرن من الزمن لإقرار النشيد الأمريكي
ويمثل تاريخ النشيد الوطني الأمريكي ما يمكن أن يتطلبه نشيد وطني ما بين ظهور شعره وإقراره رسمياً بصيغة قانون، فحين كتب فرانسيس سكوت كي على عَجَل، شعره على ورقة أخرجها من جيبه في يوم 14 سبتمبر 1814م، وهو يشاهد البريطانيّين يقصفون حصن ماك هنري، لم يضع فوق أبياته أي عنوان. وبعد بضعة أيام نُشِر الشعر في صحف مدينة بلتيمور، لكن تحت عنوان “الدفاع عن حصن ماك هنري”. وفي نوفمبر من العام نفسه، طبع محل للموسيقى في بلتيمور الشعر، ووضع له عنواناً أكثر شاعريّة هو: “الراية المتلألئة النجوم”.
إلا أن هذا النشيد لم يُعتَمَد في ذلك الوقت نشيداً وطنياً رسمياً، على الرغم من انتشار إنشاده شعبياً، مع أغنيات وطنيّة أخرى، في إبّان الحرب مع البريطانيّين.
وفي الحرب الأهليّة بين الولايات الشماليّة والولايات الجنوبيّة، اتّخذت جيوش الاتحاد، أي الشمال، من “الراية المتلألئة النجوم” نشيداً عسكرياً لهم، فتعاظمت شعبيّة هذا النشيد لدى الشعب، لا سيما الذين كانوا في الجانب الاتّحادي. وهذا ما حدا بالرئيس وودرو ولسون (1856-1924م) على توقيع أمر تنفيذيّ عام 1916م، يعلن النشيد “نشيداً وطنياً للولايات المتّحدة” لجميع المناسبات العسكريّة. وفي 3 مارس 1931م، بعد 40 محاولة فاشلة، أقرّ الكونغرس قانوناً يسمّى “الراية المتلألئة بالنجوم” النشيد الوطني للبلاد.

وللنشيد الوطني الأمريكي أربع فقرات شعر، لكن ما يُنشَد منها في المناسبات الوطنية والرياضية عادة، ليس سوى الفقرة الأولى. وجميع الفقرات تنتهي بكلمات: “على أرض الأحرار وموطن الشجعان”. وفي عام 1861م، أي قبل اعتماد النشيد رسمياً، كتب الشاعر أوليفر وندل هولمز فقرة خامسة، تأييداً للاتحاد، في الحرب الأهلية، وللتنديد بـ”الخائن الذي يجرؤ على تدنيس نجوم عَلَمها”.

الأناشيد الوطنية والموسيقى

آلات النفخ بأنواعها المتعدِّدة تُعد الركيزة الأساسية للموسيقى العسكرية والأناشيد الوطنية
سيّد درويش (1892-1923م) الذي لحن “بلادي بلادي” الذي صار نشيداً وطنياً لمصر على مقام الراست العربي

لما كانت الأناشيد الوطنيّة، في الغالب الأعم، تعبّر عن أمجاد قوميّة ووطنيّة، أو تستحثّ المشاعر المتعلّقة بالوطن، وجيش البلاد، وتاريخه، فإن الموسيقى التي يمكنها أن تعبّر عن هذه المعاني، لا يمكن أن تؤدّي أحاسيــس تقصـر عن هذه المعـاني، كأن يكون لحــن النشيــد الوطني حزينــاً، أو مملاً، أو عاجــزاً عن بث الحماسة.
وكان الأصل في الأناشيد الوطنية هو مصاحبة الجيوش في دفاعها عن الأوطان، فكانت المناسبة تقتضي أن ترافق الجيش فرقة خاصّة تدق على الطبول للحثّ على قتال العدو، ورفع معنويّات الجنود، وتعزيز حماستهم في جهودهم المشتركة، للذود عن البلاد.
وحين أخذت الجيوش تضم موسيقى تُعزَف مع دق الطبول، دخلت فرق العازفين على الأبواق، الآلات الموسيقية التي يمكن القول إنها “زاعقة” بسبب قوة صوتها، وهي قوة كانت ضرورية من أجل بث روح الحماسة في الجنود. وحين توسّع التنويع في تكوين الفرق الموسيقية العسكرية المرافقة للطبول، كان التركيز الأول ولا يزال في الموسيقى العسكريّة والأناشيد الوطنيّة، على آلات النفخ، بأنواعها المتعدّدة، لأن طبيعة صوتها وتنغيمها المتواصل، يناسبان المهمة.

أما المقام الموسيقي الذي شاع في الأناشيد الوطنية والموسيقى العسكريّة في العالم، فهو على الأغلب، مقام “الماجور”، أي ما يقابل مقام العجم العربي. ولعل اختياره في الأساس كان مقصوداً، لأنه مناسب تماماً لبث الحيويّة والحماسة، وهو قلّما يقترب من أداء التعابير العاطفية أو الرقيقة، التي تتناقض مع الجو المطلوب في الجيوش أو المناسبات الوطنيّة.

كانت فرقٌ خاصة تدق على الطبول ترافق الجيوش للحث على قتال العدو ومن مهامها أيضاً عزف النشيد الوطني في أرض المعركة

وفي هذا الشأن، يذكر التاريخ أن مدارس الموسيقى العسكريّة التي أنشأها الفرنسيّون لمحمّد علي في مصر في أوائل القرن التاسع عشر، هي التي درّجت مقام الماجور، لأن أدوات النفخ التي كانت تعزف بها الأناشيد، لا سيما الأبواق، لا تعزف سوى مقامي: الماجور، والمينور. وهذا الأخير يغلب عليه التعبير عن المشاعر العاطفية. لذلك أخذت تشيع في مصر آلات النفخ النحاسية الموسيقيّة الغربيّة، ومعها أخذ يَرجَح استخدام مقام العجم، في الأناشيد. حتى إن نشيد سيّد درويش (1892-1923م) “بلادي بلادي” الذي صار نشيداً وطنياً لمصر، كان الموسيقار المصري قد وضعه على مقام الراست العربي، فتحوّل عزفه إلى العجم، لتتمكن الأبواق من أدائه. ويُذكَر أن نشيد وديع صبرة (1876-1952م) “كلنا للوطن” (شعر رشيد نخلة) الذي صار نشيداً وطنياً للبنان، هو الآخر وُضع على مقام الراست، ثم تحوّل عزفه إلى مقام العجم، للسبب نفسه.

فطالما أن الغرض من النشيد بث مشاعر الحماسة والاعتزاز الوطني، كان على موسيقاه أن تؤدّي هذا الغرض الجليل.

ختم مطبوع في ألمانيا، يُظهِر ذكرى مرور 150 عاماً على أغنية الألمان (النشيد الوطني). أوغست هاينريش هوفمان فون فالرسليبن (1798-1874م)

أربع ساعات لكتابة نشيد المكسيك

أما في المكسيك، عندما أطلقت الحكومة مسابقة وطنية لكتابة النشيد الوطني في عام 1853م، لم يكن الشاعر فرانشيسكو غونزاليس بوكانيغرا يعتزم الاشتراك فيها. فهو شاعر موهوب، لكنه كان أشد ميلاً إلى الشعر العاطفي منه إلى الشعر الوطني، وقاوم في البدء رغبة الرئيس سانتا آنا في أن يكتب شعر النشيد. وتقول الأسطورة إن خطيبة بوكانيغرا الشابة كانت على ثقة من أنه سيفوز لو اشترك، فأقفلت عليه باب غرفة النوم، وأمرته أن يكتب الشعر، في مقابل فتح الباب. وبعد أربع ساعات، خرج بوكانيغرا وفي يده قصيدة من عشرة أبيات، تعظّم أمجاد المكسيك. وهكذا اختير شعر شاعر لم يكن يريد خوض المباراة، ليكون نشيد المكسيك الوطني.

لغة الأناشيد

في غالب الأحوال ومعظم دول العالم، يكون شعر النشيد الوطني باللغة الرسميّة في البلاد، أو باللغة الأكثر انتشاراً فيها حين تتعدّد اللغات المحكيّة في بلد واحد. غير أن ثمة حالات تشذّ عن هذه القاعدة. ففي بعض البلاد المتعدّدة اللغات، يلاحَظ أن النشيد الوطني قد يُنشَد بلغات مختلفة.

ففي جنوب إفريقيا، يمتاز النشيد الوطني عن غيره من الأناشيد في العالم، بأن شعره مكتوب بخمس لغات وطنيّة محليّة، وفي إحدى النسخ، التي تُنشَد على النغم نفسه، هناك شعر ينقسم إلى لغتين معاً، أما النسخ الشعريّة الثلاث الباقية فكل منها بلغة مختلفة. وحتى نغمة النشيد كانت في الأصل توليفة من لحنين مختلفين، جُمعا معاً في لحنٍ واحد، وعُدِّل الشعر ليوافق اللحن الجديد، وأضيفت أشعار أخرى باللغات الثلاث الأخرى. إنه النشيد الذي اعتُمِد بعد إنهاء حكم التمييز العنصري هناك عام 1992م. 
وفي كندا كما هو معروف لغتان رسميتان، الأولى هي الإنجليزيّة، في عموم المقاطعات، إلا مقاطعة كيبك التي تتحدَّث بالفرنسيّة. ولذلك، فإن النشيد الوطني الكندي “يا كندا” يُنشَد باللغتين، في نصّين شعريّين مختلفين، ليسا ترجمة واحدهما عن الآخر. كان النشيد مكتوباً في الأصل بالفرنسيّة. وحين يُعزَف النشيد الوطني الكندي، ويُنشده الجمهور، تسمعهم يُنشدون كلاماً مختلفاً باللغتين بلحن واحد.
وفي نيوزيلندا، النشيد الوطني الذي يُنشَد على لحن واحد، له شعر بلغتين أيضاً، إحداهما بلغة الماوري، والثانية باللغة الإنجليزيّة، ومطلعها: “يا إلهي، دافع عن نيوزيلندا”. وكلام الصيغتين ليسا ترجمة إحداهما عن الأخرى.
وفي سويسرا، للنشيد الوطني “مزمور سويسرا” نصوص شعر مختلفة بكل من اللغات الأربع الرسميّة في البلاد، وهي الألمانيّة والإيطاليّة والفرنسيّة والرومانش.
وفي أيرلندا، كان النشيد الوطني “أغنية الجندي”، مكتوباً في الأصل باللغة الإنجليزيّة، لكن الشعر تُرجِم إلى اللغة الأيرلنديّة. ومع أن الصيغة الأيرلنديّة لشعر النشيد ليست هي الصيغة المعتمَدة رسميّاً، إلا أنها هي الصيغة التي ينشدها عموم المواطنين الأيرلنديّين عادة في هذه الأيام.

ولنشيد جزر فيجي “بارك الرب فيجي” صيغتان شعريّتان، إحداهما بالإنجليزيّة، والثانية بالفيجيّة، لكنهما ليستا ترجمة لإحداهما عن الأخرى. إلا أن النسخة الفيجية قلّما تُنشَد في الاحتفالات الرسميّة وفي الخارج، ويغلب على الاستخدام النسخة الإنجليزيّة.
ويتحدّث المواطنون في سنغافورة بأربع لغات رسميّة، والإنجليزيّة هي اللغة التي يتفاهمون بها في ما بينهم. لكن شعر النشيد الوطني السنغافوري “ماجولا سنغافورة” هو باللغة المالاويّة، وينصّ القانون على أن يكون إنشاده بهذا الشعر فقط، لأن المادّة الثالثة عشرة في الدستور تنصّ على أن “اللغة الوطنيّة هي اللغة المالاويّة، وتكتب بالحروف اللاتينيّة”، وذلك على الرغم من أن المالاويّين أقليّة في البلاد.

وفي بلاد الغال (ويلز) البريطانيّة، اللغة المحكيّة الأكثر شيوعاً هي الإنجليزيّة، إلا أن النشيد الوطني فيها بلغة الوِلش.

وفي الهند يتحدَّث المواطنون باثنتين وعشرين لغة، ولكن شعر النشيد الوطني الهندي “جانا غانا مانا” الذي كتبه طاغور، هو باللغـة البنغاليّة، على الرغم من أن اللغة الهندية هي اللغة الرسميّة والأكثر انتشاراً في البلاد.

قد يستغرب البعض أن هناك بلداناً أناشيدها الوطنيّة من غير نص شعري، وأنها مكوّنة من تنغيم موسيقي فقط. من هذه البلدان إسبانيا، التي يُعد نشيدها الوطني هو “النشيد الملكي”. وعلى الرغم من أن للنشيد هذا شعراً في الأصل، إلا أن هذا الشعر ألغي من النشيد بعد تغيير نظام الحكم في أوائل ثمانينيّات القرن العشرين، بزوال حكم الجنرال فرانشيسكو فرانكو، وتسلّم الملك خوان كارلوس زمام السلطة. وقد أجريت عام 2007م مباراة لكتابة شعر للحن النشيد هذا، لكن لم يقع الاختيار على أي من الأشعار.
كذلك لا تحتوي أناشيد بعض البلدان الأخرى على أي شعر، منها نشيد جمهورية سان مارينو، ونشيد جمهوريّة البوسنة والهرسك، ونشيد كوسوفو.

وأناشيد تبدّلت بتبدل الأزمان

تتبدَّل الأناشيد الوطنيّة في كثير من الأحيان لأسباب متنوّعة وبأساليب مختلفة فقد يتغيّر النشيد الوطني بكلامه وموسيقاه. وفي بعض الحالات تبقى النغمة نفسها لكن يتغيّر شعر النشيد

وتتبدل الأناشيد الوطنيّة في كثير من الأحيان لأسباب متنوّعة وبأساليب مختلفة، فقد يتغيّر النشيد الوطني بكلامه وموسيقاه. وفي بعض الحالات، تبقى النغمة نفسها، لكن يتغيّر شعر النشيد.
وكان النشيد القيصري الروسي، قبل الثورة البولشفيّة، هو نشيد “حَمَى الله القيصر!” وهو من شعر فاسيلي جوكوفسكي، ومن موسيقى ألكسي لفوف، واعتُمد في العام 1833م، وبقي مستعملاً حتى سقوط الحكم القيصري في ثورة عام 1917م. وأما في النمسا، وهي إمبراطورية أخرى زالت في آخر الحرب العالميّة الأولى أيضاً، فكان أول نشيد وطني هو “ليحفظ الله فرانتس القيصر”، الذي وضع موسيقاه الموسيقار النمسوي جوزيف هايدن، ثم صار النشيد هو النشيد الوطني الألماني، حين ضمّت ألمانيا النازيّة النمسا إليها عام 1938م.
وفي بعض البلدان يزول النشيد من الاستخدام، وقد يحل محلّه نشيد آخر. والمنطق الداعي إلى هذا التغيير أو التخلّي عن النشيد، قد يراوح بين الأسباب السياسيّة، وهذا هو الغالب، أو انتقال الحكم من أسرة ملكيّة إلى أخرى، أو سقوط الحكم في ثورة معيّنة كما حصل مع نشيد المَرْسِيّيز الفرنسي..

قلما يُعرَف نشيد وطني كتبه أو لحّنه شاعر وموسيقي من المشاهير. ومعظم ما تنشده الشعوب في العالم من كتابة وتأليف فنانين متواضعي المكانة في بلدانهم

وقَّع الرئيس وودرو ولسون (1856-1924م) أمراً تنفيذياً عام 1916م، يعلن نشيد “الراية المتلألئة النجوم”، وهو النشيد العسكري لجيوش الاتحاد الشمالية، “نشيداً وطنياً للولايات المتّحدة” لجميع المناسبات العسكريّة

لكن يلاحَظ في تاريخ الأناشيد الوطنيّة، أمر غريب بعض الشيء. فثمة أناشيد يتغيّر شعرها، لكن نغماتها تبقى معتمَدة بالكلام الجديد. مثلاً، استُخدم في النشيد القيصري الألماني، في القرن التاسع عشر “تحية لك بإكليل نصرك”، النغم نفسه المستخدم في النشيد الوطني البريطاني “حمى الله الملك (أو الملكة)”. بل إن أناشيد وطنيّة سابقة احتفظت بنغمها نفسه، بعدما تغيّر كلامها، مثل النشيد الوطني الحديث في ألمانيا “أنشودة الألمان”، الذي اتخذ اللحن نفسه الذي كان نغم نشيد الإمبراطورية النمساويّة المجريّة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين “ليحفظ الله فرانتس القيصر”. وثمة مثال آخر معروف جيداً وهو “نشيد الاتحاد السوفياتي”، الذي ظل مستخدَماً حتى تفكيك الدولة السوفياتيّة عام 1991م، فأُعطي للّحن نفسه كلام جديد واعتمده الاتحاد الروسي عام 2000م، ليحل محل النشيد المختلف غير المحبوب شعبياً، الذي اعتُمد بين العامين 1993 و2000م.

فاسيلي جوكوفسكي, كاتب نشيد “حَمَى الله القيصر!”

ولم تكن هذه هي الحالة الأولى التي أثار فيها نشيد وطني معتمَد شعبياً أو رسمياً، الخلاف في شأنه لدى الشعب. فنشيد “بلادي، إنها لكم” الأمريكي، الذي كان نشيداً شعبياً غير معتمَد رسمياً، في القرن التاسع عشر، انقسمت آراء الرأي العام الأمريكي بشأنه، لأنه كان يُنشَد بلحن النشيد الوطني البريطاني “حمى الله الملك”، بعدما كانت الولايات المتّحدة قد انتزعت استقلالها في حرب ضروس بينها وبين بريطانيا نفسها.

لكنْ ثمة مثال من زمن حديث، هو نشيد “تحية يا سلوفيني”، وهو النشيد السابق لجمهورية يوغوسلافيا. وقد احتفظت به كل من صربيا ومونتنغرو حتى العام 2006م، وأبدِل فيما بعد، لأنه كان يقابَل باستنكار وهتاف معارض عند عزفه في الأماكن العامة، كالمباريات الرياضية مثلاً.

 

فرنشيسكو أكونيا دوفيغويروا

أطول نشيد وطني
في العالم

يتطلَّب الاستماع إلى النشيد الوطني الأوروغوياني وقت أطول مما يُتوقّع، وإلى شيء من الصبر.

اسم هذا النشيد، الذي يدعو بالطبع إلى الدفاع عن البلاد: “الوطن أو القبر” (la Patria o la tumba)، وهو من تأليف الشاعر فرنشيسكو أكونيا دوفيغويروا، ويقع في 97 بيت شعر، ولحّنه الموسيقي فرانشيسكو خوسيه ديبالي، في العام 1845م، وهو من أصل مجري وهاجر إلى أوروغواي عام 1838م. وقد استلهم اللحن من غناء البل كانتو الأوبرالي، ومن الكراهية حيال إسبانيا التي كانت تحتل معظم أجزاء أمريكا اللاتينية (عدا البرازيل، التي كانت تابعة للبرتغال). إنه أطول نشيد في العالم، على ما هو معروف. فحتى تصل، إلى نهايته عبر موسيقاه، بتنويعات ديبالي وتلويناته الأوركسترالية، يمضي أكثر من خمس دقائق من الوقت. أي إنه يستغرق من الوقت تقريباً تسعة أضعاف الوقت الذي يستغرقه النشيد الوطني البريطاني. إذ يتألف من 105 مقاييس موسيقية. وهو لذلك قلّما يُعزَف كاملاً، وثمة صيغة مختصرة له، غالباً ما تُعزَف بدلاً من النشيد كاملاً.

 

من يكتب ويلحن
النشيد الوطني؟

نظراً لأهمية النشيد الوطني، يعتقد المرء أنه لا بد وأن يكون كاتبه أهم شاعر في البلاد، وملحنه كذلك. غير أن الواقع يختلف عن هذا الظن في معظم الأحيان.

فقلما يُعرَف نشيد وطني كتبه أو لحّنه شاعر وموسيقي من المشاهير. ومعظم ما تنشده الشعوب في العالم، من كتابة وتأليف فنانين متواضعي المكانة في بلدانهم. فلا أحد مثلاً يعرف واضعي نشيد بريطانيا “حمى الله الملكة”. لكن ثمة استثناءات محدودة ومعدودة لما يبدو قاعدة شائعة. ذلك أن نشيد “أغنية الألمان” يستخدم لحناً من وضع الموسيقار الشهير جوزيف هايدن (1732-1809م). ويُنسَب نشيد “بلاد الجبال” النمسوي في لحنه، إلى موزار (1756-1791م). وكان نشيد أرمينية في العهد السوفياتي من تلحين الموسيقار الأرمني الشهير آرام ختشاتوريان (1903-1978م).

وقلما شهدنا نشيداً وطنياً وضع شعره وموسيقاه فنان حاصل على جائزة نوبل للآداب، مثل النشيد الوطني الهندي، الذي كتب شعره ولحن موسيقاه شاعر الهند الأكبر رابندرانات طاغور، الذي هو أيضاً مؤلف وملحّن “آمار شونار بانغلا” الذي أصبح فيما بعد نشيداً وطنياً لبنغلادش.

ومن غرائب تاريخ الأناشيد الوطنية، أن الرئيس الكولومبي السابق رافاييل نونييز، الذي كتب دستور بلاده الأول، هو الذي كتب أيضاً شعر نشيدها الوطني. وفي ليبيريا، وضع الرئيس الثالث للبلاد دانييل باشييل وارنر شعر النشيد الوطني الليبيري.

 

النشيد الوطني السعودي
مراحل تاريخيّة

خلال السنوات القليلة التي تلت توحيد المملكة على يد جلالة الملك المؤسّس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله-، لم يكن للبلاد نشيد وطني، ويروي المؤرَّخون، أن النشيد ولد على يد وزير الدفاع في ذلك الحين الأمير منصور بن عبدالعزيز -رحمه الله-، الذي كان محباً للأناشيد العسكرية، وهو الذي أشرف على تأسيس موسيقى الجيش في المملكة، حين كلّف الملحّن المصري عبدالرحمن الخطيب عام 1947م أن يؤلّف موسيقى السلام الملكي السعودي على كلمات الشاعر السعودي محمد طلعت، التي تقول:

يعيش ملكنا الحبيب أرواحنا فداه حامي الحرم
هيّا اهتفوا عاش الملك هيّا ارفعوا راية الوطن
اهتفوا ورددوا النشيد يعيش الملك

وسارت الأمور بهذا السلام الملكي الذي كان يُعزَف بالبوق، من غير مصاحبة أي آلة أخرى.

اقترح الأمير عبدالله الفيصل -رحمه الله-، وهو شاعر مُجَلٍ، إيكال المهمة للشاعر إبراهيم خفاجي -رحمه الله-، ليكتب شعر النشيد

ومضت السنوات حتى عهد الملك خالد -رحمه الله-، الذي أمر بأن يتحوّل السلام الملكي السعودي إلى نشيد وطني، ليُعزَف أسوة بباقي الدول، في المناسبات الرسمية والوطنيّة، على أن يكون بحر الشعر فيه متفقاً مع موسيقى السلام الملكي. فاقترح الأمير عبد الله الفيصل -رحمه الله-، وهو شاعر مُجَلٍ، إيكال المهمة للشاعر إبراهيم خفاجي -رحمه الله-، ليكتب شعر النشيد.
كان خفاجي، يمضي بعض الوقت في القاهرة في تلك الأثناء، فاتصل به السفير السعودي لدى القاهرة السيّد أسعد أبو النصر وأوعز إليه أن يتّصل بالسفارة السعوديّة لأمر مستعجل في غاية الأهميّة. ومن فوره بدأ خفاجي بوضع النشيد حالما علم بالتشريف الذي حظي به. غير أن الزمن لم يمهله، إذ انتقل الملك خالد إلى رحمة الله، وهكذا تأجَّل المشروع، بانتظار توجيهات القيادة الجديدة.
وبالفعل، أعرب خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- عن رغبته في استمرار العمل بالفكرة، لكنه طلب أن يخلو شعر النشيد من اسم الملك، وألا تخرج كلماته عن الدين والعادات والتقاليد المتّبعة في المملكة.

استغرقت كتابة شعر النشيد الوطني السعودي ستة أشهر، وأُعطِي للموسيقار السعودي البارز المرحوم سراج عمر (1946-2018م) الذي كُلِّف بتكييف الشعر وتطويعه من أجل إنشاده بموسيقى السلام الملكي

استغرقت كتابة شعر النشيد الوطني السعودي ستة أشهر، وأُعطِي للموسيقار السعودي البارز المرحوم سراج عمر الذي كُلِّف بتكييف الشعر وتطويعه من أجل إنشاده بموسيقى السلام الملكي. فأخذ سراج عمر يعدّل في الشعر ليناسب الموسيقى، حتى انتهى من المهمة الصعبة، وقدّم النص الشعري النهائي إلى وزير الإعلام السعودي آنذاك الأستاذ علي الشاعر. وتولّى الوزير الشاعر بدوره تقديم النشيد بصيغته الشعريّة والموسيقيّة المقترَحة إلى الملك فهد -رحمه الله-، فسمعه وأُعجِب به وأجازه. وبذلك وُزِّعَت نُسَخ النشيد على المؤسسات الرسميّة والسفارات السعوديّة في الخارج. وحاز خفاجي من الملك شهادة البراءة والوسام الملكي الخاص. واعتُمِد النشيد الوطني رسميّاً يوم عيد الفطر المبارك عام 1404هـ، 1984م، ففي ذلك اليوم سمعه المواطنون السعوديّون، وسمعه العالم من الإذاعة والتلفزيون الرسميّين السعوديّين.
يتألَّف النشيد الوطني السعودي من أربعة مقاطع وتقول كلمات شعره، كما يعرفها المواطنون:

سارِعي للمجدِ والعلياء مجّدي لخالق السماء
وارفعي الخفّاقَ أخضر يحملُ النور المُسَطَّر
ردّدي الله أكبر يا موطني
موطني عشتَ فخرَ المسلمين عاشَ الملك للعلَم والوطن

إنه النشيد الذي يردّده تلاميذ المدارس في المملكة كل صباح، في بداية اليوم الدراسي ضمن فعاليات الاصطفاف الصباحي في جميع المدارس بمختلف مراحل التعليم.

 

الأناشيد الوطنية
في البلدان العربية

احتلت الأناشيد حيّزاً مهماً في الفتوحات الإسلامية والحروب والغزوات التي توالت في العصرين الأموي والعباسي وصولاً إلى فتح الأندلس

لم يعرف العرب قبل القرن العشرين الأناشيد الوطنية بمفهومها الحديث. غير أنهم عرفوا جيداً أناشيد مختلفة وظيفتها إثارة الحماسة والتعبير عن الاعتزاز بالانتماء. ومنها على سبيل المثال الشعر المُلحّن الذي يصاحب “العَرضة”، التي كان الهدف من تأديتها إثارة الحماسة في نفوس المقاتلين المتوجهين إلى مقارعة أعدائهم، وبقي الشعر المُنشد في العرضة يُعبِّر عن الفخر والاعتزاز والقوة ورفعة الشأن، حتى بعدما صارت تأديتها تقتصر على الاحتفالات والمناسبات الوطنية الكبيرة في وقتنا الحاضر.
يقول المؤرّخون، مستندين إلى الاستدلال والمنطق، من دون أدلة أثريّة دامغة، إن الحداء كان هو الجذر الذي نشأ منه الشعر والغناء عند العرب في أثناء سيرهم في البراري على ظهور الجِمال. ويورد أبو الفرج الأصفهاني في موسوعته التاريخية والشعرية “الأغاني” أناشيد كانت تُغنّى في العصر الجاهلي، ويصفها وصفاً أدبياً رائعاً، غير أنه لم يصلنا أي شيء من نغمات هذه المرحلة لعدم وجود التدوين الموسيقي آنذاك، ولعدم تمكّن علماء الموسيقى في عصرنا حتى الآن من فك رموز تدوين هذه الأغاني.

محمّد علي

واحتلت الأناشيد حيّزاً مهماً في الفتوحات الإسلامية والحروب والغزوات التي توالت في العصرين الأموي والعباسي وصولاً إلى فتح الأندلس. في هذه الفتوحات استُعمِلت الصنوج والطبول وآلات النفخ من أجل حث المقاتلين على مقارعة العدو، ومن أجل بعث الحماسة في نفوسهم. وكانت الأناشيد تؤدَّى غناءً بمصاحبة الآلات الإيقاعيّة وبعض آلات النفخ الحديثة آنذاك، التي انتقلت من أوروبا إلى العرب من خلال العصر الأندلسي.
ومن أهم ما ورد إلينا من الأناشيد الدينيّة التي ما زالت تُغنَّى حتى أيامنا هذه، نشيد مطلعه:

طـلعَ البــدرُ عَلَيْنـــا مـــن ثنيّـات الوَداعْ
وَجَبَ الشُّكرُ عَلَيْنــا مـــــا دعـــا للهِ داعْ
أيُّــها المَبعوثُ فينــا جئتَ بالأمرِ المُطاعْ

وهو نشيد استُقبل به الرسول-صلّى الله عليه وسلّم-، في المدينة المنوّرة في يوم هجرته إليها. وقد توارثته الأجيال شفاهياً حتى أيامنا هذه، وأدرجه الموسيقار رياض السنباطي في لحنه لقصيدة الثلاثيّة المقدّسة التي غنّتها أم كلثوم في عام 1971م.

سعد زغلول

الأناشيد العربية في العصر الحديث
في أوائل القرن التاسع عشر في مصر، استقدم محمّد علي من فرنسا لجيشه موسيقيّين عسكريّين، وأنشأ بين عامي 1824 و1834م خمس مدارس كانت تدرّب موسيقيّين من الجيش المصري على الموسيقى العسكريّة، بواسطة الأبواق والطبول على اختلافها، من أجل تأهيلهم لأداء الأناشيد الحماسيّة، كما في الجيش الفرنسي والجيوش الحديثة. ونشأت في هذه المدارس الموسيقيّة فرق موسيقى عسكريّة، وكانت هذه الفرق أول الفرق العسكريّة الموسيقيّة في العالم العربي. وهي التي دخل في فنون العرب من خلالها فن النشيد الذي يتميز على الخصوص بغلبة إيقاع “المارش”، أي المشية العسكريّة.
في خلال الثورة المصريّة التي قادها سعد زغلول ضد الاحتلال البريطاني في عام 1919م، ووسط هتاف المتظاهرين، ردّدوا مع سيّد درويش فنان الشعب، أنشودة “بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي”، المأخوذ مطلعها من خطاب للزعيم المصري الوطني مصطفى كامل، وانتشر النشيد كالنار في الهشيم في البلاد العربية، وسار بين الشعوب، لكنه ظل نشيداً شعبياً وحسب. واعتُمِد في مصر نشيداً وطنيّاً رسمياً في عام 1979م، بعدما بدّلت مصر نشيدها الوطني: والله زمان يا سلاحي.

الموسيقار محمّد فوزي

فخلال مرحلة خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي عصفت بالعالم العربي أحداث وطنيّة وثورات داخليّة وحركات عسكريّة قوميّة كانت أهمّها حرب عام 1956م التي شهدت الهجوم الثلاثي على مصر. وتحت وابل من القذائف والأعمال العسكريّة سُجل نشيد “والله زمان يا سلاحي” للشاعر صلاح جاهين والموسيقار كمال الطويل وشَدَت به أم كلثوم. فاعتُمد هذا النشيد نشيدأً وطنيّاً لجمهوريّة مصر العربيّة من سنة 1960م حتى سنة 1979م، وكذلك اعتمده العراق نشيداً وطنياً له منذ سنة 1963م حتى سنة 1981م.
وفي لبنان لمع الأساتذة فليفل بصياغة فن الأناشيد على الصعيدين الوطني العسكري والتربوي.
ففي عام 1942م أسهَم الضابط محمّد فليفل وأخوه أحمد في تأسيس موسيقى الدرك اللبناني، وقد لحّنا أجمل الأناشيد الوطنيّة والعسكريّة الحماسيّة، ومنها: نشيد إنّ لبنان لنا، ونشيد الجنود، ونشيد الجيش، ونشيد المصفّحات، ونشيد تشرين، الذي وضع خصّيصاً للعرض العسكري في عيد الاستقلال، ونشيد نحن الشباب لنا الغد، ونشيد موطني، ونشيد الفخر في بلادنا، ونشيد المدرسة الحربية، وغيرها كثير مما اشتهر في بلاد العرب. وكان نشيد “موطني” بمثابة نشيد وطني غير رسمي بالطبع، للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، لكنه كان معتمّداً على نطاق واسع.

الضابط محمّد فليفل وأخوه أحمد

أناشيد “عابرة للحدود” في البلاد العربيّة
خلال العام الجاري 2018م، اعتمدت موريتانيا نشيداً وطنياً جديداً لحّنه لها الموسيقي المصري راجح داود، وهو آخر المنضمين إلى قائمة الشعراء والملحنين العرب الذين كتبوا أو لحنوا أناشيد وطنية لبلدان عربية غير بلدانهم.
تضم هذه القائمة الموسيقار محمّد فوزي، الذي وضع النشيد الوطني للجزائر بعد استقلالها عن الاحتلال الفرنسي، والموسيقار محمّد عبدالوهّاب الذي وضع موسيقى النشيد الوطني اللّيبي، والمغنّي سعد عبدالوهّاب الذي وضع لحن النشيد الوطني الإماراتي، لشعر شاعر الإمارات الدكتور عارف الشيخ عام 1972م.
وقبل ذلك بردح طويل من الزمن، كان الأخوان اللبنانيّان محمّد وأحمد فليفل قد وضعا في سوريا عام 1923م لحناً لنشيد في ذلك الوقت بعنوان “سوريا يا ذات المجد” كلمات الشاعر مختار التنير. ثم تقدّما بنشيد “حماة الديار” للشاعر خليل مردم بك، في ظل منافسة ضمت 60 متسابقاً، فأصبح خلال احتفال الجلاء عام 1949م لحناً رسمياً للنشيد الوطني.
وفي العام 1946م قام الملحّن اللبناني عبد القادر التنّير بتلحين السلام الملكيّ الأردنيّ من شعر عبد المنعم الرفاعي. ولم يزل هذا النشيد معتمداً حتى تاريخه: “عاش المليك سامياً مقامه خافقاتٌ في المعالي أعلامهُ”.
أما النشيد الوطني الليبي “يا بلادي”، الذي أصبح نشيد المملكة الليبية عام 1955م في عهد الملك إدريس، فمؤلّفه هو الشاعر التونسي البشير العريبي، وملحّنه الموسيقار محمّد عبدالوهاب. لكن أبدل النشيد لدى انقلاب السلطة في عام 1969م، وحل محله نشيد “الله أكبر” للمصري محمود الشريف.

الشاعر الفلسطيني سعيد المزين

وفي عام 1963م، لحّن الموسيقار المصري محمّد فوزي النشيد الوطني الجزائري “قسماً”، للشاعر مفدي زكريا، وأهداه إلى الجزائر، بعد أن استقلت البلاد عن فرنسا.
كذلك وضع الموسيقار علي إسماعيل لحن قصيدة “فدائي”، التي كتبها الشاعر الفلسطيني سعيد المزين، وهي القصيدة نفسها التي اعتمدتها اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1972م لتصبح نشيداً وطنياً رسمياً لفلسطين بدلاً من قصيدة “موطني”.
وفي تونس، كتب الشاعر المصري مصطفى صادق الرافعي كلمات قصيدة “حماة الحمى”، التي أصبحت النشيد الوطني للبلاد. والنشيد من ألحان الموسيقار التونسي أحمد خير الدين، واعتُمد رسمياً في عام 1987م، بديلاً عن نشيد “ألا خلّدي”، الذي ظل النشيد الرسمي من 1958م حتى 1987م.

أما في العراق، فقد ظل النشيد الوطني المصري السابق “والله زمان يا سلاحي” نشيداً وطنياً للبلاد من عام 1963م وحتى عام 1981م. وبعد تولي الرئيس صدام حسين السلطة اختار قصيدة “أرض الفراتين” لتصبح نشيداً وطنياً للبلاد، وهي من كلمات الشاعر العراقي شفيق الكمالي، وألحان اللبناني وليد غلمية.

وبعد سقوط نظام حكم صدام حسين، استُخدم نشيــد “موطني”، كلمات الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، وألحان اللبناني محمّد فليفل.

 

التوأمان السمعي والبصري

النشيد الوطني وعَلَم البلاد توأمان: أحدهما سمعي والآخر بصري. لكن كليهما رمز للبلاد، فيُعزَف الأول ويُرفَع الثاني في المناسبات الوطنية إعراباً عن وجود الأمة، وعن تمثيلها الرسمي، أو عن انتصاراتها وأعيادها القومية. ولا ينكّس الثاني إلا في أوقات الحداد الوطني، الذي تعلنه الدولة رسمياً لحدث جلل وقع للوطن، إلا العَلَمْ السعودي، الذي يحمل الشهادتين.
ويرتهن التوأمان بلا انقطاع تقريباً. فكلما عُزِف النشيد الوطني، رُفِع عَلَمُ البلاد. وكلما لاح العَلَمْ، فلا بد من إنشاد النشيد الوطني أو ترداده ولو في الصدور.
والعَلَمُ هو من الرموز الأكثر تعريفاً بالبلاد بين بقية الأمم في العالم. والعَلَمْ أو البيرق أو الراية، يعود إلى أزمنة موغلة في القدم، حين بدأ المقاتلون يستخدمون الراية أو العَلَمَ للتعريف بجيشهم. وكان العَلَمُ يتقدّم الصفوف إشارة إلى موقع القيادة في الجيش، وتمييزاً بين الصديق والعدو بين المتقاتلين. أما اليوم، فالعَلَمُ يميل إلى أن يكون رمزاً للبلاد والدول أو المقاطعات والولايات والإمارات وحتى المنظمات.
والألوان والرموز المرسومة على العَلَمِ ليست اعتباطيّة في العموم، بل إنها تستند إلى أساس في التاريخ، والثقافة، أو حتى في الدين في بعض البلدان، مثل الشهادتين في عَلَمِ المملكة العربيّة السعوديّة.
ويرى بعض علماء السياسة والمؤرخين وعلماء الاجتماع، وآخرين، أن الأعلام تعبّر في بعض الأحيان والأماكن عن الثقافة. فالأعلام تثير في كثير من الأحيان، المشاعر والأحاسيس القويّة، كالفخر، والوطنية، وربما الغضب والكراهية، أو الحنين إلى الديار. وهي قد تكون مرادفاً للبلد بالنسبة إلى المواطن. وقد تشير الأعلام إلى منظمات ما، كالأمم المتحدة، أو إلى مرحلة تاريخية، كالصليب المعقوف رمز الرايخ الثالث دولة النازيين. ولاحتواء العَلَمِ على هذه الكثافة من المعاني، فإنه يحتل مكانته رفيعة في نظر الشعوب في العالم بصفته رمزاً للوطن بأفضل ما فيه.

 

 

 

 


مقالات ذات صلة

ولماذا اللون الأخضر؟
ألأنه جميل؟
نعم، إنه جميل، ولكنه أكثر من ذلك بكثير.

في هذا الملف، نذهب إلى جولة في رحاب الكون، لاستطلاع بعض ما نعرفه عن هذه الأجرام السماوية الجميلة، وعن حضورها الآسر في الثقافة والعلوم، ودورها في تطوير الحضارة الإنسانية.

إنه الجواب عن أي سؤال يبدأ بـ “كم؟”. هو كالهواء الحاضر دائمًا من حولنا حتى الالتصاق بنا، ننساه أو نتناساه، أو نتجاهله، رغم أنه وراء تشكيل كل ما أنتجه وسينتجه الإنسان، من الملابس التي على أجسامنا، إلى أبعد الأقمار الاصطناعية عن كوكبنا. إنه القياس، هذا الفعل الذي لا بدَّ منه، ليس فقط لضمان سلامة إنتاج […]


رد واحد على “الأناشيد الوطنية”

  • هل لكم معلومات عن النشيد الوطني المغربي القديم :” إيه أمة المغرب إيه دولة المغرب” التي يقال أنها لحنت بمصر ؟ مع الشكر


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *