مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2019

الأقل هو الأكثر في مفهوم “ما” الياباني


يوجد في عوالم الفن والتصميم المرئي مصطلح “الخوف من الفراغ” الذي يشير إلى وجوب ملء مساحة العمل الفني بأكملها بالتفاصيل. وعكس هذا المصطلح هو ما يسمى “حب الفراغ”، الذي يدخل في صلب المفهوم الثقافي الشائع في اليابان، حيث يُعرف باسم “ما” (Ma) .
و”ما” هو احتفال، ليس بالأشياء، ولكن بالمسافة في ما بينها. وهو يدور حول الفضاء السلبي والفراغات والمساحات الشاغرة، ويتم الترحيب به واحتضانه في كل شيء من التصميم الداخلي والهندسة المعمارية وتصميم الحدائق إلى الموسيقى وترتيب الزهور والشِعر. وفي الواقع، يمكن أن يتواجد هذا المفهوم في معظم جوانب الحياة اليابانية.
هناك نصيحة شهيرة كانت قد قدَّمتها المصممة الفرنسية الشهيرة “كوكو شانيل” للمرأة، قالت فيها: “قبل أن تغادري المنزل، انظري في المرآة وانزعي شيئاً واحداً عنك”. فعلى الرغم من أن إزالة عقد من حول العنق، على سبيل المثال، قد تدل على وجود نقص ما، إلا أنها تفسح المجال لقطع أخرى كي تتألَّق. وبطريقة ما، يؤدي “ما” إلى الأمر نفسه، ففي المنازل التي تحتوي على كثير من الأشياء، لا يتم تمييز أي شيء عن الآخر، ولكن بالتركيز على الفضاء الخالي وتوسيعه، فإن الأشياء الموجودة حوله ستنبض بالحياة.
وكما يتم التوضيح على موقع “واوازا” (Wawaza)، الذي يُعنى بأسلوب الحياة الياباني، فإن (“ما” هو بمثابة الوعاء التي توجد فيه الأشياء وتبرز ويصبح لها معنى. كما أن “ما” هـو الفـراغ الكامل الذي يعطي عدداً لا متناهياً من الإمكانات، مثل الوعد الذي ينتظر الوفاء به).

لوحة للفنان الياباني هاسيغاوا تاشوكو، تُعبِّر عن مفهوم “ما” والفراغ

ومن أجل استيعاب أفضل لهذا المفهوم، يمكن النظر إلى مساحة تعطينا الشعور بالفوضى، حيث إن المسألة تكون ليس حول وجود كثير من الأشياء، ولكن حول عدم وجود ما يكفي من الـ “ما”. وهناك ملاحظة في موقع “واوازا” تقول إنه يمكن أيضاً العثور على “ما” في محطات الكلام الهادفة التي تجعل الكلمات أكثر بروزاً، وفي الوقت الهادئ الذي نحتاجه جميعاً لجعل حياتنا السريعة ذات معنى، وفي الصمت بين النوتات الموسيقية التي تصنع الموسيقى نفسها”.
وكمثال صغير، يشرح الموقع، أنه “عندما يتم تعليم اليابانيين الانحناء في سن مبكرة، يُطلب منهم الجمود مؤقتاً في نهاية الانحناءة قبل عودتهم إلى وضعهم المستقيم، للتأكد من وجود ما يكفي من الـ “ما” في انحناءتهم لتبدو أكثر إجلالاً وإكباراً. وبالمثل، يجب أن تكون استراحة الشاي في يوم مزدحم في مكان هادئ بعيداً عن روتين العمل، بحيث يمكن للمرء أن ينغمس في صفاء الـ “ما” قبل العودة إلى حياته المزدحمة.
إنه بالفعل مفهوم جميل، خاصة بالنسبة إلى كيفية النظر إلى مقتنياتنا التي أصبحت كثيرة في حياتنا العصرية. كما أن هناك نزعة عالمية للعمل والتشتت بشكل مستمر من دون وجود مساحات هادئة لتحديد ما نقوم به. نحن نحشر منازلنا وخزائننا ومخازننا وحتى أطباق الطعام لدينا بالأشياء وفي احتضاننا للوفرة، يفقد كل شيء قيمته. ولكن مع إجراءات بسيطة -مثل التوقف أثناء النهار للتفكير والتنفس، أو عن طريق امتلاك عدد أقل من الأشياء- هناك مجال للتركيز على الفضاء الفارغ من دون أشياء، أو على الـ “ما” الذي يجعل الأشياء ذات معنى أكبر.


مقالات ذات صلة

على الرغم من وجود العديد من التساؤلات حول مستقبل الكتب المادية، فقد أطلقت الفنانة الإسكتلندية المفاهيمية “كاتي باترسون” في عام 2014م فكرة إنشاء “مكتبة المستقبل” كمشروع فني تطلعي يجمع بين كونه كبسولة زمنية أدبية ومشروعًا بيئيًا. كرّست “باترسون” جلّ اهتمامها بما ستتركه البشرية للأجيال القادمة؛ لذلك ابتكرت فكرة إنشاء هذه المكتبة في مدينة أوسلو النرويجية. […]

استطاعت الدول الناطقة باللغة الألمانية (ألمانيا، والنمسا، وسويسرا) أن تخلق نموذجاً في النهضة والتفوّق بالاعتماد على الأيدي العاملة المؤهلة مهنياً، وقد حقَّق هذا النموذج نجاحاً باهراً على مستوى العالم، فيما تسعى دول كثيرة داخل أوروبا وخارجها للاستفادة منه، ففي هذا البلد المزدهر اقتصادياً، يُعدُّ التدريب المهنيّ سرّاً من أسرار نجاحه، بل وربما ريادته عالمياً، فبفضله […]

من المؤكد أن للعلوم والتكنولوجيا تأثيراً عميقاً على المجتمع، لكن العكس صحيحٌ أيضاً، بحيث يشكِّل المجتمع، بصورة كبيرة، الطرق التي تتطوَّر بها العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، تُظهر التجربة أنه لا يمكن دائماً للعلماء، من ناحية، وعامة الناس والحكومات والشركات، من ناحية أخرى، فهم بعضهم بعضاً بوضوح، لهذا السبب كان لا بدَّ من وجود خبراء ذوي […]


0 تعليقات على “الأقل هو الأكثر”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *