أثار إعلان فوز الكاتب الجزائري الأصل كمال داود، مطلع نوفمبر الماضي، بجائزة الجونكور نقاشًا محتدمًا يتجدد عادة في هذه المناسبات، يتجاوز حدود النقد الأدبي إلى اتهامات سياسية تطول الكاتب.
على صعيد النقد الرصين، أسهمت الأبحاث ما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية في اشتباكها مع تحليل الأدب، في الكشف عن التحولات التي طالت الثقافة في المجتمعات التي تعرضت للاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين. وخاصة فيما يتعلق برغبة المستعمر في تثبيت لغته وجعلها وسيلة وأداة للتغلغل الثقافي، عبر إضعاف اللغات الوطنية والتشكيك في الثقافات المحلية وكتابة التاريخ برؤية تجعل الأفكار التي يروّج لها منسجمة ومقبولة، وهو ما نجح فيه مع بعض اللغات الإفريقية ”المحلية” المتجذرة، فحوَّلها إلى لغة هامشية، وجعل لغته محلها باعتبارها لغة الحضارة والعالمية والجوائز.
ثمة اختلاف ما بين المشرق العربي وشمال إفريقيا على صعيد التعامل مع اللغة. ففي المشرق يُعدُّ أي مساس باللغة العربية بمنزلة مساس بالعقيدة والتاريخ والحضارة. أمَّا الاستعمار الفرنسي في دول المغرب العربي، فقد استطاع أن يجعل من اللغة الفرنسية لغة رسمية ثانية ما زالت آثارها حاضرة. وبالنسبة إلى الثقافة وعلاقتها بلغة الاستعمار، فقد وُجد من الكتَّاب، في زمن الاستعمار، مَن لجؤوا إلى الكتابة باللغة الفرنسية والإسبانية في شمال المغرب، ثم واصل أدباء ومفكرون آخرون الكتابة بلغة الآخر المستعمِر وغيرها حتى يومنا هذا، في أجناس تعبيرية مختلفة من الشعر إلى القصة والرواية والنقد والمقالة والتاريخ والفكر. ومنهم من تبوَّأ مناصب عليا في مراكز ثقافية أوروبية ونال جوائز ذات قيمة كبيرة.
نقاش مستمر منذ نصف قرن
هناك تشابه كبير في هذا الوضع بالنسبة إلى المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا. ففي المغرب، يُثار منذ سبعينيات القرن الماضي حتى الآن، بين الفينة والأخرى، نقاش حول الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية، مع ظهور أدباء جدد من كُتّاب وكاتبات تفوز نصوصهم بالجوائز. نقاش حول الهوية بين تماسكها وتمزقها، يتخذ أحيانًا أبعادًا سياسية وأخلاقية وأخرى ثقافية، باعتبار أن اللغة هي كيان “هوياتي” واختيار لغة “المستعمِر” هو منفى هذه الهوية، وخضوع للهيمنة اللسانية ودلالتها المتشكّلة في ثقافة مغايرة.
كانت الكتابة بلغة الآخر سؤالًا مؤرقًا وحارقًا بالنسبة إلى النخبة التي كانت تفكِّر من منطلق الحفاظ على الهوية.

كانت الكتابة بلغة الآخر سؤالًا مؤرقًا وحارقًا بالنسبة إلى النخبة التي كانت تفكر من منطلق الحفاظ على الهوية؛ لذلك سيدرك أي متتبع لتطور فكرة الصراع اللغوي في المغرب، أن الموقف في فترة الاستعمار ليس هو في الفترة اللاحقة، وهو ما أشار إليه أنور الجندي في منتصف ستينيات القرن الماضي، في كتابه “الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا”. كما توقّفت عند الموضوع مقالةٌ أخرى حول “ظاهرة الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية” نُشرت في مجلة دعوة الحق (العدد 244، 1985م)، واستشهد صاحبها بتقرير للجامعة العربية صدر سنة 1963م، ومما جاء فيه: “لقد حاول الاحتلال الأجنبي دومًا طمس معالم اللغة العربية بكل الوسائل، وفي سائر الميادين، وخاصة في أقطار المغرب العربي، حيث عمد إلى إحلال اللغة الأجنبية محل اللغة العربية في البلاد القومية، ليضمن لنفسه البقاء”. أمَّا الأديب والزعيم علال الفاسي، فيقول: “القوة الكبرى التي كانت أشد وطأة علينا من كل قوة، وأخطر أثرًا من كل سلاح، هي معرفة الاستعمار بأحوالنا، على إخراجنا من كوننا الخاص، وإدماجنا في وجوده العام. لوّحَ لنا بالحرية عن طريق الإيمان به وبنظمه وأفكاره، وخاطبنا بالمعسول من القول، واحتكر وسائل الحياة، فلم يسمح بالقليل منها إلا لمن اتبعه وتكلّم لغته”.
بين الداخل العربي والخارج
منذ سبعينيات القرن الماضي، تجدّد السؤال حول الذين يكتبون بلغة “الاستعمار”. فكان التمييز بين نوعين من الأدباء: نوعٌ كُتّابه يحملون وعيًا نقديًا متقدمًا ويدركون هويتهم فيستثمرون اللغة التي يجيدونها أكثر من العربية لإيصال أفكارهم التي لا تسقط في فخ الأيديولوجية والتبرير، ومن أمثال ذلك الكتابات السوسيولوجية أو التاريخية لكلٍّ من: عبدالكبير الخطيبي، وفاطمة المرنيسي، وزكية زوانات، وعبدالله العروي، وعدد آخر من المفكرين ممن يكتبون بالفرنسية ويعيشون ويشتغلون بالمغرب. في حين هناك نوع آخر من الأدباء المستقرين في فرنسا، ويكتبون بالفرنسية ويواجهون اتهامات من قبيل اختيارهم لمتخيل فولكلوري وسطحي أو تحريفي من أجل إدهاش القارئ الغربي.
أمام هذا الوضع، خلقت الكتابة بلغة الآخر توترًا للقارئ والكاتب معًا. فالقارئ يشعر أن مخاطبة كاتب عربي له بغير العربية هو تنازل لفائدة لغة المستعمر، وإقصاء للغة الوطنية. أمَّا الكاتب، فإن مواقفه لا تعرف استقرارًا حينما يعدُّ اللغة مجرد أداة للتواصل، وأنه يُعبّر عن أفكاره باللغة التي يجيدها ويرتاح فيها، ويمكن أن تكون هذه اللغة فرصة لتبليغ “صوته الأصل” إلى الغير، وأداة للصراع والتحرر، وأن الكتابة لا تختلف في جوهرها ورسالتها بأي لغة كانت. لكن وجهة نظر إدريس الشرايبي، على لسان بطل إحدى رواياته، تختلف عن ذلك وتُقر بالتعارض الذي يعني الصراع، فيقول: “كنت معتادًا على الكتابة من اليمين إلى اليسار، ووجدت نفسي أكتب من اليسار إلى اليمين. كان الأمر وكأنني أكتب بلغتين متعارضتين”.
رواية “الماضي البسيط” مثلًا
يمكن التأريخ لقضية الهوية في علاقتها بالمجتمع وقضاياه الحيوية، مع صدور رواية الشرايبي “الماضي البسيط”، وهي أول رواية مغربية باللغة الفرنسية في الفترة الاستعمارية عام 1954م، في لحظة اشتداد الصراع بين الوطنيين المغاربة والاستعمار الفرنسي الذي كان يُمارس القتل بشكل عشوائي في أبناء الشعب المغربي وهم يطالبون بالاستقلال وبعودة السلطان محمد بن يوسف (محمد الخامس) من منفاه.
أنجز الناقد المغربي رشيد بنحدّو، المنشغل بالأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، بحث الليسانس في الأدب العربي بجامعة فاس في سنة 1970م، حول الضجة التي رافقت صدور رواية إدريس الشرايبي، وردود الفعل المختلفة وكيف تلقى اليمين الفرنسي، آنذاك، صدورها بترحيب كبير ومبالغ فيه؛ لرغبته في استمرار استعمار المغرب و”حمايتها” بدعوى “تمدين أهاليه وتحديث بنياته”. كما كتبوا عن الرواية مقالات في عدد من الجرائد الفرنسية تمجّدها وتشيد بكاتبها الذي يؤيد أطروحاتهم حول تخلف المغرب والمغاربة وحاجتهم إلى من يُدبّر أمورهم. تسردُ الرواية حياة إدريس الذي يُصوَّر متمردًا على الحياة وتقاليدها في المغرب من خلال عائلته التي يرفضها، منتقدًا سلوكها بقسوة مبالغ فيها، وخصوصًا والده وما يرمز إليه، فيصفه بالمستبد والمتخلف، متوقفًا عند تسلُّطه الذي أدى إلى انتحار والدته وتعذيب إخوته وقتل أحدهم، واستغلاله للمستخدمين الذين يشتغلون عنده. وفي تحوُّل لرد فعل البطل سيبصق على والده، ويتبول على الوطن وهو بالطائرة المحلقة في السماء متوجهًا نحو فرنسا التي لم يخفِ انحيازه وإعجابه بحضارتها وتقدّمها.



انبرى عدد من الوطنيين والمثقفين للتنديد بالكاتب وتخليه عن هويته ووطنيته و”خيانته”، ومن جهته كتبَ الشرايبي، آنذاك، ردًّا بجريدة “الغد” (Demain) الفرنسية بأنه “مقتنع بأن الاستعمار الأوروبي ضروري من أجل خلاص العالم الإسلامي”، وأن “قيم الغرب الحقيقية تمثل الخميرة الفعالة الكفيلة بإطلاق النهضة الاجتماعية”.
ذلك الرد ألقى مزيدًا من الزيت على النار، واستمرت سهام النقد من مقالات مغربية موجهة إلى الكاتب سنوات بعد صدور الرواية. وبُعيد استقلال المغرب بسنة، كتب أحد النقَّاد في إحدى الصحف المغربية التي كانت تصدر بالفرنسية، في يناير 1957م، مقالة تعدُّه فيها مثقفًا خان وطنه وقضيته وتصرَّف ببلادة طمعًا في التقرُّب من الاستعمار ونيل رضاه. وكتب إدريس الشرايبي، إثرَ ذلك، رسالة اعتذار، في عددٍ موالٍ من الصحيفة نفسها، بما عُدَّ نقدًا ذاتيًا يعكس هذا التمزق الذي رافق كتابة الرواية وما خلّفته. ومما قاله في رسالته أنه بكى حينما قرأ ما كُتب عن روايته “الماضي البسيط”، التي هي جزء أول من ثلاثية، سيشرح تطور حبكتها وهي تقوم على “الإيمان”. وفي رسالته الطويلة قال إنه أساء فعلًا إلى وطنه؛ لأنه كان خارج ما يجري فيه، وأن صدور روايته تلك كان غير في وقت غير مناسب، وأنه يتبرأ منها. ويصل عنده التمزق مداه وهو يقول: “حين تصفني الصحافة الفرنسية بمعاداة الغرب، وتصفني صحافة بلادي بأنني بعت نفسي، فأين يكون موقعي إذًا؟ ومن أكون؟ إنها لمفارقة حقًّا”.
من أنتم؟
مثلما حصل مع إدريس الشرايبي في وقت مبكر، تجدد النقاش لاحقًا وخلال فترات، حول هوية الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، وهل يحمل فعلًا هوية حقيقية أم مزيفة وسطحية في ملامستها لموضوعات تثير شهية القارئ الأوروبي وتثبت تفوقه وتحضُّره وضرورته بالنسبة إلى الآخرين. من هذه الموضوعات: الهجرة نحو أوروبا، والجنس، ومظاهر الفلكلور من وجهة نظر ضيقة وأحادية، وتعدد الزوجات، والمساواة والحقوق المدنية على اعتبار أن هؤلاء الأدباء يعيشون في فرنسا ويكتبون ويتصرفون بوصفهم أدباء فرنسيين أكثر منهم أدباء ينتمون إلى وطنهم الأصل.
هذا مأزق يُطرح باستمرار على هؤلاء الذين يحيون مُمزقين بين انتماءين وهويتين، ويزداد هذا التمزُّق حدّة حينما يشتهرون أو تفوز نصوصهم بجوائز، وهم يعلمون أن انتماءهم إلى الثقافة الفرنسية لا يتحقق إلا بما يكتبون عن أوطانهم الأصلية، وهذا ما عبَّر عنه الطاهر بن جلون قائلًا إن: “الفرنسيين في غير حاجة إلى الكتابة عن بلدهم، لديهم ما يكفي من الكتّاب. نشرت نصوصًا نقدية عن فرنسا، عن الضيافة الفرنسية، واستقبلوها بصورة سيئة، وهذا مثير للسخرية، والمكتبات رفضتها قبل أن تقرأها”.
يتنوَّع التعبير عن هذا التمزُّق ومشكل الانتماء عند بعض الأدباء في اقتراح تركيب مفهوم جديد مثل اللغة منفى الأديب، أو الكتابة باللغة الفرنسية هي “غنيمة حرب”، فيما يقول عبدالله العروي إن الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية هو أدب فرنسي بأقلام مغاربة. أمَّا المهدي المنجرة، فينظر إلى المسألة ضمن الحالة الفرانكوفونية التي يعدُّها مجرد عملية سياسية لا علاقة لها بالحضارة الفرنسية. وعلى الرغم من أن عددًا من الأدباء والنقَّاد، من أمثال عبداللطيف اللعبي وعبدالجليل الحجمري، تحدثوا في فترة سابقة أثناء احتدام النقاش حول الكتابة بلغة المستعمِر بأنها مسألة وقت وستنتهي، خصوصًا أمام كتابات الجيل المؤسس من أمثال أحمد الصفريوي وإدريس الشرايبي، ومن أتى بعدهم مباشرة محمد خير الدين والطاهر بن جلون وغيرهما، الذين تحمّلوا قساوة الاتهامات والأسئلة فيما يكتبون واللغة التي يكتبون بها.

يتنوَّع التعبير عن التمزُّق ومشكل الانتماء عند بعض الأدباء في اقتراح مفهوم جديد مثل “اللغة منفى الأديب” أو اللغة الفرنسية “غنيمة حرب”.
ومع مرور الزمن، فنَّد الواقع استنتاج تراجع الكتابة بلغة الآخر، باستمرار انخراط جيل وراء جيل في الكتابة بوعي جديد يناقش الهوية كما تعيشها “الأنا” من دون مركب نقص أو الشعور بغربة ثقافية. فالكاتبة ليلى سليماني، التي تحمل الجنسية الفرنسية والمغربية وتقيم في فرنسا وتمثل رئيس الجمهورية الفرنسية في المنظمة الدولية للناطقين بالفرنسية منذ عام 2017م، بعد سنة على فوزها بجائزة الغونكور الشهيرة، معنية بدورها بهذا النقاش حول الهوية؛ إذ اتُهِمت في رواياتها بمخاطبة الغرب فقط، لكنها ترد على ذلك بأنها تنتمي إلى عالَمين وتُعبّر عن قضايا شاملة وإنسانية، وأنها تحيا في قلق وألم هوياتي يرافقها، حينما تُوصف في المغرب بأنها مُغرّبة ومُفرنَسة. وفي فرنسا تُنعت بعربية الخدمة. ولكي تكشف ليلى سليماني عن جوابها الثقافي، كتبت ثلاثيتها التاريخية لتجيب عن سؤال يُطرحُ عليها باستمرار “من أنتِ؟”، بدءًا بروايتها “بلد الآخرين”، التي تحكي من خلالها بعضًا من سيرتها العائلية، وخصوصًا عن جدتها الفرنسية التي قَدِمت إلى المغرب بُعيد الحرب العالمية الثانية لتختار الاستقرار فيه بعدما تتزوج مغربيًا. في الرواية تأريخ جديد ومستعاد تخيليًا للعلاقات الكولونيالية ومسألة الهوية الذاتية والاجتماعية والثقافية، تُعبِّر عنها النساء في الثلاثية (ماتيلدا، عائشة، ميّا، إيناس، سلمى…) لإثبات إمكانية التعايش مع دورة التاريخ وسط إكراهات تحتاج إلى مقدرة عالية لإعادة تعريف الأشياء بمسميات جديدة، خلافًا للأحكام المسبقة التي راكمتها الظروف والسياقات الملتبسة.
ومثلما لجأت إلى التاريخ العائلي وعبره إلى التاريخ المشترك والعام، فإن ليلى سليماني طبّقت ما قاله الطاهر بن جلون وآخرون من الأدباء المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية، إن اللغة الفرنسية تتيح لهم معانقة “تابوهات” يصعب عليهم مجابهتها في اللغة العربية! وانبرى لها من وصفوها بالمخبرة المحلية التي تعاني عقدة الدونية تجاه المستعمر والغرب عمومًا.
إنها مفارقة بعناصرها التي تُغذّي بعضها بعضًا، فالصراع مع المستعمر ما زالت آثاره في المجتمع. ولذلك، فإن النقاش لن ينقطع يومًا ما حول الأدب المغربي المكتوب بلغة الآخر (المستعمر)، خصوصًا حينما نجد، وبعد مرور أكثر من ستة عقود على الاستقلال، تزايد عدد الأدباء الذين يكتبون بالفرنسية، ويحملون الوعي نفسه الذي يعاني التمزُّق من خلال القضايا التي يرتبطون بها للتعبير عن هذا الوعي.
اترك تعليقاً