مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2020

إنقاذ الكوكب بأيام خالية من الفحم


جاسم البناي

هل يمكننا أن نتخيَّل كوكبنا من دون الطاقة الأحفورية؟ يبدو أن ذلك ليس وارداً في الوقت الحالي، ولا على المدى المنظور، إذا علمنا أن معظم إنتاج الطاقة في العالم في عام 2018م كان بالاعتماد على مشتقات الوقود الأحفوري. وفيما تبذل شركات الزيت والدول المنتجة له جهوداً علمية جبارة لتطوير احتراقه وترشيد استهلاكه بغية الإقلال من أثره على البيئة، يبقى السؤال: ماذا عن الفحم؟
في العام الجاري 2020م، برزت تجربة فريدة في المملكة المتحدة، حيث توقف حرق الفحم تماماً لمدة شهرين بسبب الظروف التي فرضتها جائحة الكورونا، بما في ذلك توقف الصناعة وأداء الأعمال عن بُعد، ما أدى في نهاية المطاف إلى انخفاض الطلب على الكهرباء بمتوسط يتراوح بين 15 و%20. كما أسهمت الطبيعة بذلك أيضاً، إذ شهد الربيع البريطاني لهذا العام طقساً مشمساً ورياحاً قوية أسهمت في زيادة تشغيل محطات توليد الطاقة المتجدِّدة المعتمدة على الشمس والرياح! ولكن الأمر لم يكن مجرد حدث عابر بفعل ظروف خاصة، بل يؤشر إلى ما هو أبعد من ذلك.

يتوزَّع الفحم جغرافياً في أغلب مناطق العالم، فيما يتركَّز إنتاجه بشكل خاص في الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية وأستراليا والصين والهند بدرجات متفاوتة. كما توجد بعض تكويناته في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.

يُعدُّ الفحم من أقدم مصادر الطاقة في العالم، وعلى الرغم من الاعتماد عليه منذ زمن طويل إلا أنه ما زال يمثل مصدراً مهماً وأساسياً لإنتاج الطاقة في دول صناعية كبيرة. وعلى الرغم من المحاولات المستمرة للتخلي عن استخدامه كما فعلت المملكة المتحدة في نهاية القرن الماضي بإغلاق مناجم الفحم غير الاقتصادية، ما زال الفحم يُستخدم بكثرة في دول العالم الصناعية حيث يُمثل مصدراً مهماً للطاقة إلى جانب المصادر الأخرى.
تجلَّت أهمية الفحم كمصدر للطاقة بعد الثورة الصناعية، عندما تمكَّن الإنسان من استخدامه في صهر الحديد. واستمر الفحم مصدراً رئيساً للطاقة حتى زمن الحرب العالمية الثانية، إذ بدأ استخدام الفحم يقل مقارنةً بأنواع أخرى من الوقود الأحفوري مثل النفط والغاز الطبيعي. وتختلف نوعية الفحم حسب نسبة تركُّز الكربون فيه، والتي تُعدُّ من المحدِّدات الرئيسة لجودة الفحم كمصدر للطاقة، بالإضافة بالطبع إلى الشوائب الموجودة فيه ونسبة الرطوبة.
يتوزَّع الفحم جغرافياً في أغلب مناطق العالم، فيما يتركز إنتاجه بشكل خاص في الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية وأستراليا والصين والهند بدرجات متفاوتة. كما توجد بعض تكويناته في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.
منذ انطلاقة الثورة الصناعية في أوروبا خلال القرن الثامن عشر وإلى يومنا هذا، بقي الاعتماد على الفحم أساسياً في تلبية احتياجات العالم من الطاقة، من تسيير القطارات والآلات البخارية إلى توليد الكهرباء وتحويلها إلى طاقة ميكانيكية تُستخدم في قطاعي النقل والصناعة ونشاطات الحياة المختلفة. وفي الربع الأول من القرن العشرين، بدأ العلماء يلاحظون أن الحرق المستمر لمصادر الطاقة التقليدية بوجه عام والفحم بوجه خاص، يتسبَّب في حدوث بعض المشكلات البيئية كالاحتباس الحراري. وسعى العلماء في مجالات البيئية والمناخ إلى التأكد من صحة هذا التغير ودراسة أسبابه. وبعد كثير من المحاولات المرهقة لدراسة صحة قضية الاحتباس الحراري من عدمها وبعد جهود العلماء المتتالية، وُجِّهت أصابع الاتهام في مسألة الاحتباس الحراري إلى مجموعة من الغازات التي تُسمَّى اليوم بغازات الدفيئة، والتي تُنتَج بسبب حرق الفحم والوقود، ويُعد ثاني أكسيد الكربون أبرز هذه الغازات. وكمحاولة جدية للحد من تأثير الانبعاثات الناتجة عن حرق الفحم والمشتقات الأحفورية الأخرى على البيئة، إضافة إلى لجم الاستهلاك المفرط للوقود الأحفوري غير المتجدِّد، توجهت الدول نحو مصادر أخرى للطاقة تُعرف باسم الطاقة المتجدِّدة.

إن التحوُّل من الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية إلى مصادر الطاقة المتجدِّدة حيثما يكون الأمر ممكناً، له أهمية كبيرة، حتى على الصعد غير البيئية بشكل مباشر.

من الفحم إلى الطاقة المتجدِّدة
فبسبب انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون المتزايدة في الهواء نتيجة لحرق الفحم، خاصة، وغيره من المصادر لإنتاج الطاقة، سعى العلماء والحكومات في استخراج الطاقة من مصادر متجدِّدة لا تضر بالمناخ. وتتمثل مصادر الطاقة المتجدِّدة كما بات معلوماً، في الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة المائية، والطاقة الحيوية، والطاقة الهيدروجينية، والطاقة الأرضية أو الجوفية، وتتم الاستفادة من مصادر هذه الطاقة الطبيعية بتحويلها إلى طاقة حركية أو كهربائية. وما السدود الضخمة على الأنهار في أمريكا أو الصين، ومزارع المراوح الهوائية الضخمة في هولندا إلا بعض الأمثلة عن طرق الاستفادة من مصادر الطاقة هذه.
إن التحوُّل من الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية إلى مصادر الطاقة المتجدِّدة حيثما يكون الأمر ممكناً، له أهمية كبيرة، حتى على الصُعد غير البيئية بشكل مباشر. فالاعتماد على طاقة متجدِّدة لا تنضب يعني توفير كميات كبيرة من الوقود الأحفوري والحفاظ على مخزونه الاستراتيجي لاستخدامه في مشروعات صناعية أخرى لم يعد العالم قادراً على الاستغناء عن منتجاتها. بالإضافة إلى هذا كله، يدعم الموقع الجغرافي لعديد من دول العالم إمكانية الاستفادة من الطاقة الشمسية بشكل عالٍ، خصوصاً تلك التي تتمتع بطول ساعات النهار وجودة الإشعاع الشمسي ووفرته. كما تسهم الطاقة المتجدِّدة بدورها في تنويع الاقتصاد الوطني، وتحفّز الاستثمارات والصناعات غير النفطية، فضلاً عن تقليل سعر تكلفة إنتاج الطاقة، وإيجاد مزيد من الفرص الوظيفية. وكل هذه الأمور تتماشى مع متطلبات التنمية المستدامة مع عدم الإضرار بالبيئة الطبيعية. يدعم هذا التوجه التحوُّل من نمط المدن التقليدية إلى ما يعرف بالمدن الذكية أو المدن الصديقة للبيئة، التي تضع على رأس أولوياتها إنتاج الطاقة من المصادر المتجدِّدة.

تجربة المملكة المتحدة
ومحاولة التخلص من الفحم

تمتلك المملكة المتحدة تجربة فريدة في السعي إلى التخلص من الفحم. فحتى قبل 10 سنوات فقط، كانت محطات الطاقة الكهربائية التي تعمل بالفحم تنتج ما تصل نسبته إلى %40 من إجمالي إنتاج الطاقة في البلاد. وخلال فترات عديدة من عام 2015م، أسهم الفحم بأكثر من %50 من الطاقة المطلوبة. وبقيت استخدامات الفحم في المملكة المتحدة تشكّل %25 من إجمالي مصادر الطاقة حتى عام 2016م، وفقاً للسجلات التي تحتفظ بها “Drax Electric Insights”. وفي هذا الصدد، يقول دوج بار كبير العلماء في منظمة “غرينبيس المملكة المتحدة” لصحيفة “إندبندنت”:
“إن الانخفاض السريع في استهلاك الفحم هو سبب حقيقي للاحتفال. كان هذا الإنجاز غير قابل للتصور ذات مرَّة، ولكن المملكة المتحدة اغتنمت الفرصة لتكون رائدة عالمية في التخلص التدريجي من الفحم. هذا درس يجب أن نأخذه معنا ونحن نسعى إلى بناء اقتصاد جديد عند المضي قدماً بعد الوباء. هناك كثير من القطاعات الأخرى، حيث يتيح لنا الانتعاش الأخضر الفرصة لإظهار قيادة مماثلة أثناء خلق فرص العمل ومعالجة حالة القضايا المناخية”.

توربينات تُستخدم لاستخراج الطاقة من تيار المد والجزر

يوم، أسبوعان، شهران
من دون فحم على الإطلاق

تم تسجيل أول يوم خالٍ من الفحم تماماً في عام 2017م. وفي مايو 2019م، لم تسهم طاقة الفحم بأي شيء في إجمالي الطاقة المستخدمة لمدة أسبوعين. وفي تلك السنة، لم يسهم الفحم سوى بنسبة %2.1 فقط من إجمالي استخدام الطاقة في البلاد. وفي الأشهر الأخيرة، وفرت الطاقة الشمسية ما يصل إلى %10 من طاقة المملكة المتحدة، كما وفرت طاقة الرياح أكثر من %48 في ذروتها في أوائل أبريل. وهكذا أمكن للعام الحالي أن يشهد رقماً قياسياً جديداً في طول الفترة التي استغنت فيها البلاد عن الفحم لمدة شهرين متواصلين في مايو ويونيو. ورغم العودة لاحقاً إلى استخدام الفحم، فإن تشغيله الحالي، وعلى ضوء التجارب السابقة، يشير إلى أن المملكة المتحدة لن تواجه مشكلة كبيرة في التخلي عنه كمصدر لتوليد الطاقة تماماً بحلول الموعد النهائي المقترح في عام 2024م، وهو تاريخ إغلاق كل محطات توليد الكهرباء العاملة على الفحم. مع الإشارة إلى أن المملكة المتحدة لا تزال تعتمد بشكل كبير على الغاز الطبيعي، كما أن أنواع الوقود الأحفوري الأخرى غير الفحم، هي التي أسهمت باستمرار في حوالي ثلث الطاقة المستخدمة خلال الفترة الخالية من الفحم. ويقول جيس رالستون المحلل في وحدة الطاقة والاستخبارات المناخية لصحيفة “إندبندنت”:
“إن عملية قياسية أخرى خالية من الفحم في بريطانيا تؤكد حقيقة أن هذا الوقود هو ببساطة غير مطلوب في نظام الطاقة الحديث. وفي الوقت نفسه، تظهر الطفرة في توليد الطاقة المتجدِّدة والخطط الواسعة لتنمية إمدادات البلاد بمصادر طاقة أكثر نظافة أنه لن يكون هناك سوى اتجاه واحد بعد الآن. فقد أظهرت الاختبارات الأخيرة لنظام الطاقة الذي يتسم بمرونة متزايدة أثناء العطلات المصرفية المشمسة، وفي حالة الإغلاق والتي تم التعامل معها جميعاً من دون مشكلة، أن النظام جاهز للتحرك بشكل أسرع مما يعتقد كثيرون. والسؤال الآن هو ما إذا كان واضعو السياسات سيواكبون ذلك لتشجيع مزيد من الاستثمار في مصادر الطاقة المتجدِّدة”. وأضاف: “إن التركيز على التكنولوجيا الجديدة مثل البطاريات، في الوقت الذي تتعافى فيه البلاد من الصدمة الاقتصادية الحالية، لن يؤدي إلا إلى تسريع هذا الاتجاه على المدى الطويل. وسيشاهدنا العالم نتجاوز نهاية الفحم، ونبدأ في النظر إلى نهاية الاعتماد على مصادر الطاقة الأخرى”.

توربينات الطاقة الكهرومائية

التخلص نهائياً من الفحم
مع إغلاق محطة “دراكس” العاملة على الفحم في يوركشاير في مارس 2021م، لن يبقى في المملكة المتحدة سوى ثلاث محطات كهرباء تعمل بالفحم. وثمَّة إشارات إلى أنه يمكن إغلاق المحطات الأخرى قبل الموعد النهائي المرتقب في عام 2024م. وفي تقييم هذا التطور، يقول أندرو كوبر، المتحدث باسم “الطاقة في المجموعة الخضراء” لصحيفة “إندبندنت”: “من الواضح أن هذه أخبار جيدة للمملكة المتحدة، لكنها ليست سوى خطوة واحدة في الاتجاه الصحيح. إن التخلص من الفحم هو بالتأكيد جزء من حل معالجة قضية تغير المناخ، ولكن لا يزال هناك طريق طويل يتعين قطعه. ولم نر خطة واضحة من الحكومة حول الكيفية التي تنوي بها المضي قدماً. نحن بحاجة أيضاً إلى رؤية مزيد من الإجراءات التي يجب اتخاذها لتعزيز الطاقة المتجدِّدة، من خلال زيادة الاستثمار في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح”.
في وقت سابق من العام الجاري، وجهت “الشبكة الوطنية” خطاباً إلى الحكومة تدعوها إلى تنفيذ التعافي الأخضر من أزمة الفيروس التاجي والوفاء بأهداف صافي الانبعاثات الملزمة بها قانوناً”. ولا يبدو أن هذا الطلب بعيد المنال. بعد نجاح تجربة الامتناع عن استخدام الفحم لشهرين.
أدى التوسع في الاعتماد على مصادر الطاقة المتجدِّدة إلى مضي المملكة المتحدة في تغيير النظام الكهربائي. وللاستفادة من هذا التوسُّع، تسعى البلاد إلى الاستمرار في تخفيض كمية انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون والاعتماد على مصادر الطاقة المتجدِّدة بشكل أكبر. ومن هذا المنطلق، أصبح على القطاع الصناعي العمل على تطوير طرق تخزين الطاقة وترشيد استهلاكها وإدارتها. وبهذا، فإن النظام يضمن استمرار تلبية الطلب في جميع الأوقات. وتتطلّع المملكة المتحدة إلى أن تكون الأولى من بين الدول الصناعية الكبرى التي تتخلص من الفحم نهائياً وبشكل كامل. وهي ترسل بذلك رسالة مهمة إلى العالم، وتقدِّم دليلاً على إمكانية كبح الانبعاثات الكربونية بالكامل مع استمرار القدرة على المنافسة الاقتصادية دولياً.
فهل ستكون التجربة البريطانية مثالاً يحتذى به لإنقاذ الكوكب من الاختناق؟ قد تمثل هذه التجربة حجر الأساس لإنقاذ الكوكب بمزيد من الأيام الخالية من الكربون!

مع إغلاق محطة “دراكس” العاملة على الفحم في يوركشاير في مارس 2021م، لن يبقى في المملكة المتحدة سوى ثلاث محطات كهرباء تعمل بالفحم

مقالات ذات صلة

في عام 2077م، شهد معظم سكان أوروبا كرة نارية تتحرك في عرض السماء، ثم سقطت كتلة تُقدّر بألف طن من الصخور والمعادن بسرعة خمسين كيلومترًا في الثانية على الأرض في منطقة تقع شمال إيطاليا. وفي بضع لحظات من التوهج دُمرت مدن كاملة، وغرقت آخر أمجاد فينيسيا في أعماق البحار.

نظرية التعلم التعاضدي هي: منهج تتعلم عبره مجموعة من الأفراد بعضهم من البعض الآخر من خلال العمل معًا، والتفاعل لحل مشكلة، أو إكمال مهمة، أو إنشاء منتج، أو مشاركة تفكير الآخرين. تختلف هذه الطريقة عن التعلم التعاوني التقليدي، فبين كلمتي تعاون وتعاضد اختلاف لغوي بسيط، لكنه يصبح مهمًا عند ارتباطه بطرق التعليم. فالتعلم التعاوني التقليدي […]

حتى وقتٍ قريب، كان العلماء مجمعين على أن الثقافة هي سمةٌ فريدةٌ للبشر. لكن الأبحاث العلميّة التي أجريت على الحيوانات، منذ منتصف القرن العشرين، كشفت عن عددٍ كبيرٍ من الأمثلة على انتشار الثقافة لدى أغلب الحيوانات. وعلى الرغم من الغموض الذي يلفّ تعبير الثقافة، حسب وصف موسوعة جامعة ستانفورد الفلسفيّة، هناك شبه إجماعٍ بين العلماء […]


0 تعليقات على “إنقاذ الكوكب بأيام خالية من الفحم”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *