قليلة هي التجارب التي تنضح بالصدق والبراءة والالتحام بالحياة، كما هو حال الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة (1903م – 1947م)، فالشعر عنده لا يتغذّى من الأفكار التي يحملها الشاعر عن الأشياء، بل من حرائق الداخل واصطدام الشاعر بنفسه وبالعالم، بحيث تصبح اللغة محصلة طبيعية لهذه الحرائق وذلك الاصطدام. ولأنه ليس شاعر الأفكار المجردة والتوليد الذهني، رفض أبو شبكة إخضاع الشعر للنظريات والقواعد المُعلبة التي لا تُفضي، على الرغم من وجاهة بعضها، إلا إلى تعليب الإبداع وتدجينه وتضييق الخناق عليه. فالشعر عنده “كائن حي تحتشد فيه الطبيعة والحياة فلا يُقاس ولا يُوزن، والنظريات مذاهب وأغراض لا تعيش إلا على هامش الأدب العظيم”.
تكفي نظرة متأنية إلى نتاج إلياس أبو شبكة للدلالة على البعد التاريخي لهذه التجربة، التي حملت روح عصرها على أكثر من صعيد. فالتمزُّق والعصف النفسي، اللذان ظهرا في شخصية الشاعر وحكما جانبًا من نتاجه، كانا يعكسان في العمق وجدان جيله الممزق على المستويات الاجتماعية والسياسية والفكرية. وإذ كان لبنان، آنذاك، في فترة تشكُّل مبهم، حيث يتداخل الديني والقومي والأيديولوجي، وتتصارع الإرادات والمصالح الدولية المختلفة، فقد بدا نتاج كثير من شعرائه وكتَّابه، من أمثال: جبران ونعيمة والريحاني وفوزي المعلوف وإيليا أبو ماضي، وصولًا إلى أبو شبكة نفسه، المرآة الأكثر تعبيرًا عن اضطراب المرحلة وتعدد الخيارات والقلق على المصير.
المناخ الذي عاش فيه الشاعر
لأن الحرية امتحان دائم أكثر ما تظهر صعوبته عند مفترقات الطرق، فليس من قبيل المصادفة أن تأخذ أعمال ذلك الجيل مسار التمرد والرفض والاندفاع العاتي، قبل أن تؤتي في فترة لاحقة ثمار الحكمة وطمأنينة المصالحة مع النفس والعالم. ولا بدَّ من الإشارة في هذا السياق إلى أن مكابدة الكتَّاب والشعراء في بدايات القرن الفائت وشعورهم المفرط بالغربة، قد اتخذا أشكالًا وتعبيرات مختلفة، تُراوح بين الغربة الجسدية والاقتلاع من المكان الأصلي، وبين غربة القلب والروح، وصولًا إلى الغربة الميتافيزيقية المتصلة بمعنى الوجود نفسه. وهو ما ظهر جليًا وبأساليب وتعبيرات مختلفة من خلال تجارب جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وفوزي المعلوف وغيرهم.

ففي نصوص أبو ماضي المبكرة، وهو المعروف بنظرته المتفائلة إلى الحياة، تسود نبرة من المرارة والقنوط والتبرم بالأشياء. وإذا كان جبران يعبر في كتابيه “العواصف” و”الأرواح المتمردة” عن نقمة مماثلة على واقع بلاده البائس والمستكين، داعيًا حفاري القبور إلى دفن الموتى، بشرًا كانوا أم تقاليد، فإن ميخائيل نعيمة يرى في حالة الموات الشامل، التي تلف بلاده من كل صوب، ما يجعل من دفن الواقع المُزري، بأمواته وأحيائه، الشرط الضروري الذي ينبغي توفره للوصول إلى القيامة الموعودة. ولم يكن إلياس أبو شبكة من جهته بعيدًا عن هذا المناخ، وهو الذي تضافر ضده يتمُه المبكر وشقاء بلاده، واصطدام تكوينه المثالي بالجانب الفاسد من الوجود.
من النقمة إلى المصالحة مع الذات
لكن اللافت في الآن نفسه أن معظم الكتَّاب والشعراء والمفكرين عقدوا مصالحات لاحقة بينهم وبين ذواتهم، أو بينهم وبين العالم، سواء بفعل النضج واختمار التجربة، أو مع هبوب النذر الأولى لحركات التحرر ورياح التغيير، أو من خلال العثور في الحب على مآل خلاص. وهو ما نلمح بعض ترجماته في قصائد أبو ماضي الداعية إلى التفاؤل، والممجدة للتحالف الظافر بين جمال النفس وجمال الوجود، كما نلمح ذلك في كتاب “النبي” لجبران، وفي أعمال أبو شبكة الأخيرة “الألحان” و”نداء القلب” و”إلى الأبد”.
وإذا كان أكثر النقاد والباحثين قد ذهبوا إلى اعتبار أبو شبكة شاعرًا رومانسيًا، ومن بينهم صلاح لبكي الذي رأى أن “الرومنطيقية قد تجلّت في شعر إلياس أبو شبكة في أتم مظاهرها”، فإن نقادًا آخرين رفضوا حشر نتاج الشاعر المتنوع في الخانة الرومانسية دون سواها. ومن بين هؤلاء عبداللطيف شرارة الذي عدَّ أن القائلين برومنطيقية أبو شبكة قد ضلوا الطريق، وهم يحدقون إلى الإطار دون الصورة، ولم يتبينوا الجوهر وراء الخُطا، وجرفهم تيار التصنيف والتعميم حتى حجبهم عن الأصالة في شاعريته.
أي تتبع دقيق لشعر الحداثة اللاحق، لا بدَّ أن يقودنا إلى ملاحظة البصمات الواضحة التي تركها أبو شبكة في أعمال بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وخليل حاوي وآخرين.
وفي حين أن الناقدة اللبنانية، يمنى العيد، لا تنفي صفة الرومانسية عن بعض نتاج الشاعر، إلا أنها تلح من جهتها على جانب الالتزام الاجتماعي والوطني في شعره، وعلى انحيازه للفقراء والطبقات الاجتماعية الدنيا. أمَّا الكاتب محمد دكروب، فيذهب بالإسقاط النقدي الأيديولوجي إلى نهاياته، معتبرًا أن أبو شبكة قد تأثر بالثورة البلشفية التي عايش انطلاقتها في يفاعته، والتي أسهمت في تشكيل وعيه الطبقي والاجتماعي. ويستدل دكروب على ذلك بقصيدة “العامل الثائر”، التي ألقاها الشاعر خلال مهرجان أقامه حزب الشعب اللبناني في يوم العمال عام 1923م.
ومع أن ما ذهب إليه كل من شرارة والعيد ودكروب لم يكن مجافيًا تمامًا للحقيقة، إلا أن الجانب “الملتزم” من نتاج الشاعر لا يعكس سوى الجانب العابر من نقمته على الواقع. أمَّا الجانب الأعمق من نتاجه، فيتمثّل في قصائد المرأة والحب، حيث ينعدم كل يقين قاطع، وحيث النفس الإنسانية ساحة مفتوحة ومتناهية بين الملائكة والشياطين. وإذا كان في تجربة أبو شبكة ما يتصل بالواقعية حينًا، وبالرمزية حينًا آخر، وبالرومانسية حينًا ثالثًا، إلا أن هذه الأخيرة تشكل السمة الغالبة على نتاجه الشعري برمَّته. ففي ردّه على بول فاليري في مقدمة “أفاعي الفردوس”، يرى أبو شبكة أن “الشاعر الحقيقي لا طاقة له على اختيار اللفظة، بل له من شعوره الزاخر ما يصرفه عن هذه الأُلْهية”. وعنده أن عناصر الشعر المختلفة تجري كلها في حلبة واحدة، تتساوق من خلالها الفكرة والصورة واللغة والإيقاع.
ومن يتأمل عميقًا في باكورة أبو شبكة “القيثارة” الصادرة عام 1926م، لا بدَّ أن يلاحظ أن القصائد المتصلة باعتراض الشاعر السياسي على الواقع لم تمنعه حتى في أوج صباه من الحفر عن الشعر في أكثر المناطق التصاقًا بنفسه وبهواجسه العاطفية والميتافيزيقية، متلمّسًا الجمال في قيعانه المحزنة، فيما تظهر البراءة بوصفها وردة نادرة في عالم الرذيلة المغوي.
أمَّا مجموعته “غلواء”، وهي الاسم المعدل لحبيبته وزوجته اللاحقة أولغا ساروفيم، فتعكس أكثر من سابقتها الطبيعة المأزقية لشخصية الشاعر، من خلال التجربة القاسية التي عاشتها حبيبته خلال زيارتها لإحدى قريباتها في مدينة صور، ومن ثَمَّ وقوفها الصادم على انحراف هذه القريبة. ومع سقوط غلواء فريسة للمرض والحمّى، يتحول الشاعر من جهته إلى فريسة مماثلة للصراع الضاري بين العفة والدنس، بين الجسد الترابي والروح السماوية. إلا أن أبو شبكة بتحوُّله، كما هو شأن سائر الرومانسيين، إلى ممجد للألم وداعية له، يكشف عن نزوعه النفسي المازوشي، وعن اعتقاد لديه بأن الألم وصراع الخيارات هما الشرطان اللازمان لكل إبداع، وهو ما تؤكده أبياته:
اجرح القلب واسقِ شعركَ منه
إنما الشعر خمرةُ الأقلامِ
وإذا القلبُ لم يُرقَّق بحبٍّ
حجّرته ضغائنُ الأيامِ
رُبَّ جرحٍ قد صار ينبوع شعرٍ
تلتقي عنده النفوس الظوامي

روح عصر وتحوُّلاته
لكن حاجة أبو شبكة الملحة للوصول إلى بر آمن، ما تلبث بفعل علاقة عاطفية خارج الزواج مع امرأة ماكرة، أن تخلي مكانها إلى نوع أكثر فتكًا من الآلام والتساؤلات، وهو ما عبَّرت عنه مجموعته الشعرية “أفاعي الفردوس”، التي تتجاوز كونها مجموعته الأكثر نضجًا فحسب، لتصبح وفق كثير من النقاد واحدة من أفضل الأعمال تعبيرًا عن روح ذلك العصر وتحوُّلاته وحساسيته الجديدة.
وفي هذه المجموعة، التي تذكّر بتجربة بودلير الرائدة في “أزهار الشر”، تبدو الكتابة أقرب إلى الاحتراق الداخلي ونزيف الشرايين منها إلى أمر آخر. ويبلغ سخط أبو شبكة على هذه المرأة في هذا العمل حدوده القصوى. ولكن مع وصول آلامه واحتداماته العصبية إلى ذروتها، يعود أبو شبكة مع حب جديد وامرأة مختلفة وبالغة الحنو، ليتخفف من عواصفه وأوزار ماضيه، وليرى العالم أجمل وأنقى من ذي قبل، كما لو أنه “عوليس” معاصر يعود إلى “إيثاكا” الطفولة والبراءة الوادعة، على حد تعبير الناقد اللبناني إيليا حاوي.
وإذ يحول الشاعر ديوانه “الألحان” إلى معرض يستعيد فيه الجغرافيا اللبنانية المدهشة والموزعة بين الجبال والشواطئ، تترنح الأنوثة في “نداء القلب” و”إلى الأبد” على حبال الجناس الناقص بين المرأة والمرآة، كما تضيق المسافة بين العاشق والمعشوق لتشارف على الاضمحلال، فيخاطب الشاعر حبيبته بالقول:
أُحسُّ خيالي في خيالكِ جاريًا
وروحكِ في روحي وعقلكِ في عقلي
كأنك شطرٌ من كياني أضعته
ولما تلاقينا اهتديتُ إلى أصلي
على أن أي تتبع دقيق لشعر الحداثة اللاحق، لا بدَّ أن يقودنا إلى ملاحظة البصمات الواضحة التي تركها أبو شبكة في أعمال بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وخليل حاوي وآخرين غيرهم. وإذا كان التاريخ، أخيرًا، مليئًا بالمصادفات، إلا أنه ليس أعمى بالقطع. وهو ما يُخرج بعض الأحداث المتزامنة من خانة المصادفة، ليُدخلها في خانة الدلالة والرمز، أو منطق الصيرورة. لذلك، فإن التزامن اللافت بين رحيل إلياس أبو شبكة عن هذا العالم عام 1947م، وبين ولادة الحداثة الشعرية في السنة نفسها، ليس ضربًا من ضروب المصادفة المجردة، بل يبدو وكأنه نقل رمزي لشعلة الحداثة من يد إلى يد، ومن مخيلة إلى أخرى.
اترك تعليقاً