للربيع وقع على نفوس البشر يجعلهم ينشرون الفرح والإيجابية في محيطهم. فمنذ آلاف السنين، تطلعت شعوب عديدة إلى فصل الربيع لتختار يومًا من أيامه ليكون “عيدًا”، أو مناسبة للاحتفال بكذا أو كذا. ومن هذه “الأعياد” ما كان على أساس ديني وثني، ومنها ما هو ذو جانب فلكي أو تاريخي أو أسطوري. فلماذا وكيف يرتبط الربيع بهذه الأعياد؟
تطول لائحة المناسبات الربيعية حول العالم، ولكن يمكننا أن نذكر منها مهرجان “هولي” في الهند، المعروف أيضًا بـ”عيد الألوان”، ويُحتفل به عادة في أحد أيام شهر مارس، ويتميز بخروج الناس إلى الشوارع، حيث يتبادلون الزغاريد ورمي المياه والمساحيق الملونة تعبيرًا عن الفرح والتجديد.
وهناك مهرجان” سونغكران” في تايلاند الذي يُصادف رأس السنة التايلاندية، ويُحتفل به في منتصف أبريل، فيتميز بمعارك المياه الضخمة، حيث يرشُّ الناس بعضهم بعضًا بالماء، وهو ما يرمز إلى تطهير الروح واستقبال عام جديد.
ويحتفل الصينيون بالعام الصيني الجديد الذي يُنذر بالحظ السعيد بعد اكتمال القمر الثاني بعد الانقلاب الشتوي، وينتهي بموكب من التنانين الورقية والألعاب النارية التي “تخيف الأرواح الشريرة”.

وفي روسيا، يعدُّ أسبوع “ماسلينيتسا” مناسبة سنوية لتوديع الشتاء، بإقامة سلاسل من الحفلات والانطلاق في نزهات في أرجاء الطبيعة واللعب في الهواء الطلق. كما يُعِدُّ الناس أنواعًا من الفطائر التقليدية التي ترمز إلى الشمس التي اشتاقوا إلى دفئها وعودتها إلى الأراضي الروسية.
ولكن هناك ثلاث مناسبات رئيسة تحتفي بها شعوب عربية في الربيع وهي: “شمُّ النسيمْ” في مِصر، و”النوروز” في العراق وسوريا، و”التافسوت” في الجزائر.
شمُّ النسيم
هو إحدى أقدم المناسبات السنوية في التاريخ المصري، ويرمز إلى بداية الربيع وتجدد الحياة، وتعود أصوله إلى حوالي 2700 سنة قبل الميلاد، حين كان يُحتفل به في مصر القديمة بوصفه جزءًا من الاحتفالات الزراعية. فقد كان المصريون القدماء يعتقدون أن الربيع هو بداية الحياة، وكانوا يحتفلون بقدومه من خلال مجموعة من الطقوس التي تعكس ارتباطهم بالطبيعة والزراعة. أمَّا الاسم “شمُّ النسيم”، فهو مشتق من الكلمة الهيروغليفية “شمو”، التي تعني فصل الحصاد، وقد حُرِّفت عبر العصور لتصبح “شمّ النسيم” مع إضافة كلمة “النسيم” للدلالة على اعتدال الطقس في هذا الفصل.
تبدأ احتفالات شمّ النسيم عادةً في الصباح الباكر، حيث يخرج الناس إلى الحدائق والمتنزهات للاستمتاع بجمال الطبيعة والطقس المعتدل. وكانت الطقوس تشمل تناول أطعمة تقليدية، مثل الفسيخ؛ أي السمك المُملح الذي يُمثّل رمزًا للخصوبة والرزق، والبيض الملوّن الذي يرمز إلى الحياة الجديدة، والخس والبصل اللذين كانا يُعدان نباتات مقدسة لدى المصريين القدماء.
النوروز
المعروف أيضًا بـ”يوم رأس السنة الفارسية”. وهو احتفال قديم يُعدُّ بداية السنة الجديدة في التقويم الإيراني، ويصادف عادةً يوم الاعتدال الربيعي، الذي يحدث في 20 أو 21 مارس. يعود تاريخ هذا “العيد” الذي كان يُحتفل به في الديانة الزرادشتية إلى أكثر من 3000 سنة، ويُحتفل به اليوم في إيران وفي كثير من البلدان التي تأثرت بالثقافة الفارسية، بما في ذلك أفغانستان وكردستان وتركيا وسوريا وآسيا الوسطى. ويُعدُّ النوروز رمزًا للخصوبة والتجديد، ويعكس ارتباط الإنسان بالطبيعة ودورة الحياة، وعلى مرِّ العصور تطوَّرت طقوس الاحتفال بالنوروز، ولكن جوهر المناسبة بقي ثابتًا: الاحتفاء بالحياة والأمل.

تبدأ طقوس الاحتفال قبل يوم واحد من بداية السنة الجديدة، حيث يُعرف هذا اليوم بـ”جشن سيزده بدر” أو “عيد الـ13”. وتشمل الطقوس مجموعة من الأنشطة الاجتماعية والثقافية التي تعزّز الروابط الأسرية والمجتمعية، ومن بين هذه الطقوس تنظيف المنازل أو “خونه تكونى” الذي يُعدُّ تقليدًا أساسيًا قبل يوم النوروز، حيث يُنظّف الناس منازلهم ويجددونها استعدادًا لاستقبال السنة الجديدة، اعتقادًا منهم أن هذا الفعل يجلب الحظ الجيد والبركة. ويُذكر أن عديدًا من الثقافات عبر العالم تبنّت فعل التنظيف الربيعي للمنازل من يوم النوروز بوصفه رمزًا للبدايات الجديدة، والتخلُّص من الفوضى والكراكيب لإفساح المجال لإمكانات جديدة. كما يمكن اعتبار هذه الممارسة بمنزلة استعارة للتجديد الشخصي، وتشجيع الأفراد على التخلي عن الأعباء الماضية واغتنام الفرص الجديدة.
ومن طقوس يوم النوروز أيضًا إعداد مائدة تُعرف باسم “هفت سين”، وتتكوّن من سبعة عناصر تبدأ بحرف “س” باللغة الفارسية، ولكل منها معنى خاص:
سنجد (سبزة): أي الخضرة التي تمثل الطبيعة.
سیر (ثوم): الذي يرمز إلى الصحة.
سیب (تفاح): الذي يدل على الجمال.
سماق (سمّاق): وهو يمثل الصبر.
سرکه (خل): الذي يرمز إلى الصمود.
سمنو (عسل): الذي يدل على الازدهار.
سنبل (زهور): وهو يرمز إلى الحب.
التافسوت
التافسوت كلمة أمازيغية تعني “الإوراق”، وفِعلها هو “ثَفْسَ”؛ أي أورق، دلالة على إوراق النباتات وتفتّح الأزهار وزهور الأشجار المُثمرة في الربيع. والتافسوت هو أحد “الأعياد” التقليدية في الجزائر، يُحتفى به في شهر مارس، لمناسبة حلول الربيع وتجدد الحياة. تعود أصول التافسوت إلى العصور القديمة؛ إذ يُعتقد أنه كان يُحتفل به من قبل الأمازيغ بوصفه جزءًا من تقاليدهم الزراعية، فيرمز إلى الخصوبة والنماء، ويرتبط بفترة زراعة المحاصيل وجني الثمار. كما يُعبِّر عن العلاقة الوثيقة بين الإنسان والطبيعة، ويُظهر كيف أن المجتمعات الزراعية كانت تعتمد على مواسم الزراعة لتحديد أنشطتها واحتفالاتها.
ومن أبرز مظاهر الاحتفال بعيد التافسوت إعداد الأطباق التقليدية، فيُعَدُّ “الكسكسي” من الأطباق الرئيسة التي تُجهَّز خصوصًا لهذه المناسبة، حيث يُحضَّر مع الخضراوات واللحم. كما تُحضَّر الحلويات التقليدية مثل “المقروض” و”البقلاوة”. ومن ناحية أخرى، يُقبل الناس على تزيين منازلهم بالألوان الزاهية والزهور تعبيرًا عن فرحتهم بعودة الطبيعة إلى الحياة.
ختامًا، يُشار إلى أنه على الرغم من كل ما سبق ذكره عن احتفالات الشعوب بحلول فصل الربيع، لم يكن حلوله أمرًا مفروغًا منه بالنسبة إليها. بل لطالما كان البشر يُصلُّون ويتضرعون إلى الله لكي يأتي الربيع كما يحلمون به، وهذا ما كان سببًا رئيسًا في تنظيم هذه الاحتفالات في الأساس.
اترك تعليقاً