مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

عسير..

وأقدم شواهد لاستئناس الخيول


أ. د. عماد الصياد
أكاديمي في جامعة الملك خالد

قرأتُ ما نشرته القافلة في عددها رقم 706 (سبتمبر – أكتوبر 2024)، وتناول موضوعًا شائقًا للكاتبة فاطمة البغدادي، في باب “علوم وتكنولوجيا” تحت عنوان “كيف غـيَّرت الخيول مجرى التاريخ؟”، حيث أشارت الكاتبة إلى الأحافير التي عُثر عليها في مناطق مُتفرِّقة من آسيا الوسطى وأوروبا وأمريكا الشمالية، واستطردت بتفصيل جاذب إلى ارتباط تاريخ البشرية ومسار الحضارات بالخيول، وما طرأ على هذه الكائنات المذهلة من تطوّرات جينية وسلوكية خلال الأزمنة المُتعاقبة.

دعاني ذلك إلى الكتابة حول الجدل الذي كثيرًا ما يُثار حول التحديد المكاني لبداية استئناس الخيول في العالم القديم، خاصة بعدما اقترن استئناس هذا الحيوان ذي القدرات الخاصة بنهضة حضارية واضحة في الأنشطة العسكرية والاقتصادية وحتى الترفيهية. لذا، فلا غروَ من أن تتكامل الدراسات المعملية بتوظيف أدواتها من الكربون المشع، وتسلسل الحمض النووي، والتحليل الوراثي للبيانات الجينية، مع الدراسات التاريخية والحضارية اللتين تستندان في المقام الأول على الشواهد والمصادر الأثرية، بُغية التأكيد على نتائج بعضهما، أو أن تدحض إحداهما الأخرى.

أثبتت الحقائق العلمية القائمة على علم الجينات أن أولى محاولات استئناس الخيول كانت قبل 5500 أو 5000 عام في سهول أواسط آسيا (كازاخستان) من قِبل سكان حضارة بوتاي. وفي عام 2010م (1431هـ) شهد العالم تحديثًا حول تاريخ استئناس الخيول، وذلك بعدما كشفت الهيئة العامة للسياحة والآثار نتائج أعمال التنقيب في موقع المقر (بالقرب من مركز القيرة بمحافظة تثليث في منطقة عسير من المملكة)، حيث كان من بين المكتشفات بالموقع مجموعة من المنحوتات الحجرية للخيول. بيْدَ أن ما لفت الأنظار إليها وأكسبها قيمة تاريخية وحضارية كبيرة، ظهور بعض من السمات عليها، مكّنت من الاستدلال على أسبقية سكان هذا الموقع في استئناس الخيول.

وكان من الشواهد الأثرية وسماتها الفنية المكتشفة في موقع المقر، أن ظهر على إحدى منحوتات الخيول، التي يبلغ طولها 86 سم، شكل لجام يلتف حول الرأس، إضافة إلى حزام يمتد من منطقة الكتف نزولًا إلى الساق الأمامية، وهو ما يُعد دليلًا قاطعًا على ترويض الخيل واستئناسها.

وعلى الرغم من أن بعضًا من الباحثين شككوا في ماهية هذه العلامات، مُرجِّحين كونها تجسيدًا لبعض الصفات التشريحية أو الطبيعية للخيول، مثل العضلات أو علامات الفراء وطياته، فإن الشواهد الأثرية من الموقع نفسه جاءت لتؤكد استئناس الخيول من خلال نقش صخري بخطوط بدائية يُصوِّر فارسًا على صهوة جواده بشكل واضح، ليدحض بذلك كل محاولات التشكيك.

وقد يساور القارئ شيء من الريب في أصالة تلك المنحوتات ومحليتها، بوصفها آثارًا منقولة يمكن جلبها من زمان أو مكان مختلف. ويكمن الرد على ذلك من اتجاهين: أولهما الدراسات المعملية، التي أكدت أن تلك المنحوتات جرى قطعها من أحجار الموقع نفسه؛ أي أنها محلية النشأة والتصنيع. ثانيهما، وهو ما يرتبط بالدراسات الأثرية التي كشفت عن النقش الصخري للفارس المذكور آنفًا، بوصفه من الآثار الثابتة المرتبطة بالموقع، إضافة إلى المنحوتات الحجرية المكتشفة لعدد من الحيوانات المتنوعة من الحجر المحلي. غير أن اللافت للنظر أن تماثيل الخيول كانت أكبرها حجمًا وأكثرها عددًا، بما يفيد احتمالية تقديس هذا الحيوان في موقع المقر.

أمَّا عن قضية التأريخ، فقد جرى إرسال عدد من العينات العضوية المُكتشفة بالموقع إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإخضاعها لتحليل كربون 14، وأثبتت النتائج أن تاريخها يعود إلى الفترة ما بين 7300 و6640 ق.م. أضف إلى ذلك أن المعثورات من الطبقة الأثرية نفسها المتضمنة تماثيل الخيول، كانت عبارة عن رؤوس سهام ومقاشط وسكاكين حجرية من طراز العصر الحجري الحديث؛ أي حوالي 7000 ق.م، وهو ما يتوافق مع نتائج تحليل الكربون المشع إلى حدٍّ بعيد.

ومن هنا، يمكن القول استنادًا إلى الشواهد الأثرية والدراسات المعملية إن إنسان “المقر” قد استأنس الخيول العربية التي اتضحت سلالتها من شكل الرأس والرقبة الطويلة، منذ ما يقرب من 9000 عام من وقتنا الحاضر؛ أي بفارق 4000 عام قبل استئناس الخيول في أواسط آسيا.

ولعلَّ ما فسَّر وجود فجوات زمنية واسعة في المواقع الأثرية المُكتشفة، ما شهدته الجزيرة العربية من تحولات مناخية متتابعة عبر عصورها القديمة؛ إذ تعرضت في كثير من أرجائها إلى الجفاف والتصحُّر. وخير شاهد على ذلك هو موقع المقر الذي كان مأهولًا بالسكان في العصر الحجري الحديث؛ أي حوالي 7000 ق.م، ثم انقطعت الشواهد بعد ذلك العصر، وهو ما يفيد بانتشار حالة من الجفاف والتصحر أودت بخصوبة الوادي ومعه الحياة النباتية ومبررات الاستقرار. وعلى ذلك، ونظرًا لطبيعة الخيول بوصفها حيوانات نباتية، فلم تعد تتسق مع خصائص البيئة الجافة ذات الدروب المديدة، فباتت الإبل تحتل مكانة الصدارة في النقل والمعارك تدريجيًا.

ويمكن الاستدلال على ذلك الأفول التدريجي من خلال المصادر النصية للحضارات المعاصرة، التي كانت على علاقة وطيدة بالعرب، فمنها السجلات الآشورية ببلاد الرافدين التي أفادت بأنه “كانت هدايا العرب تكريمًا للملك تشمل الإبل والحمير”. كذلك ذكرت النصوص الإخمينية ببلاد فارس “أن الوفود التي تقدم الخيول هي الأرمن والكبادوكيون والاسكيزيون والساجارتيون. أمَّا العرب، فكانوا يقدمون الإبل”.

أمَّا النقوش العربية الجنوبية، فقد ظهرت فيها كلمة “فرس” بكثرة منذ القرن الأول الميلادي وصاعدًا، وكذلك الحال في النقوش الصخرية التي أظهرت استخدام الخيول إمَّا حرة أو تسحب عربات؛ وهو ما يعكس العودة التدريجية للعناية بالخيول حتى باتت من سمات الجزيرة العربية وفخرها إلى وقتنا الحاضر.


مقالات ذات صلة

ما الذي يجعلنا نُحبُّ الاستشهاد بالأمثال؟

هل يمكن تعليم السعادة؟ وهل يمكن تحديد معايير قابلة للتطبيق من كل مَن ينشد الشعور بالسعادة؟ وهل الشعور بالسعادة يعدُّ مهارة يمكن ممارستها مثل الرياضة أو العزف الموسيقي؟

عند الحديث عن مجالات التسويق والدعاية والإعلان، نجد أن العاملين فيها، خاصة كتَّاب المحتوى، يتعاملون مع “اللغة” على مستويين: العربية الفصيحة واللهجة المحلية.


0 تعليقات على “عسير.. وأقدم شواهد لاستئناس الخيول”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *