في الخزائن القديمة بين الدفاتر والكتب والمستندات التي لم يعد لنا بها حاجة، يعيش جزءٌ حيٌ من ذاكرتنا. صورٌ تجمعها الألبومات ولحظات متفرقة حفظتها أشرطة الفيديو. تاريخنا يعيش هناك مستترًا، رغم قدرة الأيام على المضي بعيدًا عنه ورغم غبار السنين الذي تراكم عليه. السعادة هي عنوانُ هذا التاريخ المجُمّد، أيامٌ لا تتذكر الصورُ منها إلا أجمل ما فيها. ضحكات عامرة نسمع صداها قادمًا من الماضي، ومشاعر حيّة عندما نراها نشعر بدّفء يغمر صدورنا، فكل شيءٍ فيها باقٍ كما تركناه، إننا لا نكبرُ في هذا الإطار وأحباؤنا لا يرحلون.
في ذكرياتنا التي سعينا في حفظها بكل الأدوات التي مرت تحت أيدينا، من كاميرات تصوير فوتوغرافي ثابتة وكاميرات فيديو أخذنا بها لقطاتٍ مهتزة إلى هواتف ذكية، نجد أن الأعياد تحتل مساحة خاصة بها، فهي أكثر من أي وقت آخر، لحظات كان لنا إصرار خاص على حفظها ببهائها: وجوهنا فيها مُشرقة، ملابسنا جديدة وزاهية، موائدنا عامرة، ولقاءاتنا العائلية قد لا تتكرر إلا في أيام تشبهها، وخلف كل هذا تقف مشاعرنا التي صاغت شكل هذه الأيام البهيّة وأعطتها رونقها. إن الصور في الأعياد تتعاون مع ذاكرتنا، تحذف ما قد يشوّش على الفرح وتُهذب الزوايا لتجعل الماضي مُشرقًا، ومن هنا تستمد قيمتها ومعناها.
أعيادُنا الحميمة.. لحظاتنا فرحنا الخالدة

كل شيء يبدأ بجملة واحدة بعد صلاة المغرب: “غدًا أول أيام العيد”، جملة تتجاوز حيّزها كخبرٍ سعيد لتُصبح نداء طوارئ يُطلق حالةً من الاستنفار الأقصى في البيوت. يتحوّل المساء فجأة إلى ورشة مصغّرة للحياة: الأرض تُكنّس، المجالس تُقلب رأسًا على عقب لتنظيفها، الثياب الجديدة تُكوى، قوائم الاحتياجات تُعدّ، والمطبخ لا يهدأ. تُصدر الأم التعليمات بصوت أعلى من المعتاد، يركض الأطفال بين الغرف فرحين بنسمات العيد، تتوالى طلبات السوق في اللحظة الأخيرة، وتعلو أصوات التنبيهات المتأخرة: من لم يقص شعره؟ ما طول الصف عند الحلّاق؟ من لم يجد ثوبه؟ من نسي أن يشتري عطرًا، يالها من زحمة عند إشارات الأسواق؟ الليل ضيّق، والمهام أكثر من الساعات.
في تلك الساعات القليلة، لا أحد ينام مبكرًا -أو لا أحد ينام أبدًا. تتأخر السهرة رغم التعب، ويُغسل السجاد رغم نظافته، وتُغلق الأدراج التي لا داعي لفتحها، وكأن للعيد أعينًا ستفتش كل زاوية. تُعلّق الثياب جديدة وزاهية، لا تُلمس، فقط يُنظر إليها وتُراجع مرة أخيرة قبل أن يحل الصباح. حتى نوم الأطفال مختلف، فهم ينامون بملامح متحمّسة، نصف يقظة، ينتظرون أن تشرق الشمس ليبدأ العرض.
الصباح لا يبدأ بهدوء، بل بصوت منبّه أو طرقٍ على الأبواب. كل فردٍ في البيت له توقيته، لكن الوقت نفسه ضيّق، والكل يريد أن يكون أول من يلبس، أول من ينزل، أول من يراه الناسُ بثوبه الجديد. الجدّات يوزّعن العيديات والدعوات، والأمهات ملكات خليّة النّحل لم تتوقّف حركتهن منذ الليل وتتواصل في الصباح بالشاي والقهوة والتمر وإعلان الفرح بالعيد والرجاء من القدير العزيز أن يقبل الصيام وصالح الأعمال.
بعد صلاة العيد، تفيض الساحات بالفرح والوجوه المبتسمة، تتعانق الأيدي وتعبر التهاني المدى، يسير الناس من المُصلى إلى بيوتهم بخطى خفيفة وقلوبٍ ممتلئة، جارٌ يصافِح جاره، وصغار يلعبون فيرتفع صدى صياحهم عاليًا بحثًا عن العيديات. يسير الصباح مسرعًا فيما يترقب الجميع الإفطار. تفرش الموائد في البيوت بشتى أنواعها، وتختلف التفاصيل من بيتٍ لآخر ومن منطقة إلى أخرى، لكنّ الشعور واحد: اجتماعٌ فريد.

يمر النهار سريعًا، بين زيارات متتابعة أو ضيافاتٍ لا تهدأ. الأطفال يتنقلون بثيابهم المرتبة والتي بدأت بفعل اللعب تفقد زينتها فيما صارت أكياس العيديات تثقل أيديهم، يحملون ثرواتٍ صغيرة وحلويات لا حصر لها.
وحين يقترب المساء، تبدأ ملامح الهدوء لتهيمن على طابع اليوم. العائلات تتجه إلى الخارج إلى الحدائق والمنتزهات والتجمعات.
الجلوس لا يكون طويلاً، ولا الحديث عميقًا، لكنه كافٍ ليشعر الجميع أن اليوم لم يُهدر، وأن العيد ليس مجرّد مناسبة، بل خيط طويل يربط أفراد العائلة ببعضهم. وفي آخر الليل حينما يعود كل شيءٍ إلى هدوئه، يُطوى أول أيام العيد، ثمّ يُعلّق في مكان ما من الذاكرة.
الأعياد والذاكرة: حين توثق الجماعة ملامح الفرح

كم ذكرى من العيد نتشاركها سويًا؟ كم مشهدًا نعرفه ويرتبط في أذهاننا بالعيد رغمًا عن انتمائنا لثقافاتٍ لا علاقة تربط بينها؟ الذكريات ليست شأنًا فرديًا تمامًا كما نظن، ففي لحظات الفرح، كما الحزن، يشتبك الشعور الشخصي بما حوله من أصوات وأجساد وسياقات، والعيد، بوصفه مناسبة اجتماعية كثيفة، لا يُعاش منفردًا. بل إن ما نعتبره “ذكرياتنا” عن العيد، غالبًا ما يكون مشتركًا مع آخرين، نكتشف أننا نتذكر الشيء نفسه معهم، وبالصورة نفسها، وكأن الذاكرة نُسجت في جماعة لا في عقل واحد.
هذا التراكب بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية، هو ما يمنح العيد قوته العاطفية. فالفرد لا يتذكّر وحده، بل يستدعي ما عاشه ضمن سياق جماعي، وغالبًا ما يساعده الآخرون على ملء الفراغات أو ترميم الصور الباهتة في ذهنه. وهنا يظهر التوثيق، خاصة الصورة، كوسيط ذكي بين الشعور الفردي والوعي الجمعي. فالصورة التي نحتفظ بها من العيد لا تُذكّرنا بما عشناه فحسب، بل تضعنا داخل مشهد نعرف أنه تكرّر عند غيرنا، بالملابس نفسها، وبالأثاث نفسه وربما بالملامح نفسها.
يعبّر الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي “موريس ألبفاكس” عن هذه الفكرة بقوله: “تحتفظ ذكرياتنا بطابعها الجماعي، وكثيرًا ما نستعين بالآخرين لمساعدتنا في عملية التذكر”. فالصورة لا تُستعاد وحدها، بل تُفتح دومًا في حضور جماعة، أو على الأقل في ظل فكرة الجماعة التي تحرك المشهد كله من الخلفية.
هكذا يتحول التوثيق من مجرد حفظ للحظة إلى سجل مشترك يخلق نوعًا من الألفة العابرة للبيوت. جيلٌ كامل يفتح ألبوماته، فيجد المشاهد متطابقة: ثيابٌ زاهية، أمهاتٌ مبتسمات، أطفال ضاحكون مرحون. ذكريات لا تخص أحدنا وحده، بل هي مُلكنا جميعًا، نتشاركها من دون أن نلتقي أو نعرف بضعنا.
التوثيق.. همّ إنساني لا يخبو وهجه

في زحام الحياة اليومية، يُضيء التوثيقُ الشخصيُّ جوانبًا من حياتنا، ونظّن أن ذاكرتنا لا تكفي لحفظها. فمنذ زمن المصريين القدماء، كان التوثيق هاجسًا ملازمًا للإنسان، كوسيلة يمسك بها اللحظات قبل أن تفلت من بين يديه. النقوش على الجدران كانت سجلًا للأحداث الكبرى، وامتدادًا لحياة يومية أحاطت بها رغبةٌ لتخليدها. وثّقوا الطقوس الدينية ومواسم الحصاد الولائم العائلية وحتى ألعاب الأطفال، وكأنهم تركوا رسالة للأزمنة القادمة: أن الحياة تُحفظ حين تُسجّل.
مضت السنون وتبدّلت الأدوات، لكن الرغبة في التوثيق بقيت حيّة. نحتفظ بالصور العائلية وندوّن اليوميات ونسجل أصوات من نحب، بحثًا عن امتداد لما عشناه، لا نريد للذكريات أن تفلت، ويعمل التوثيق على أن يعيد ترتيبها أمام أعيننا، فتظل ملامح الأحبة حاضرة رغم الغياب، وتبقى الضحكات مسموعة رغم مرور الزمن. إن التوثيق لم يكن في يومٍ من الأيام ترفًا، بل هو حاجة إنسانية، تروي حكايتنا في البحث عن الخلود، ولا فرق بين جدار معبدٍ عمره آلاف السنين يمد حضارة مندثرة بالحياة، وألبوم عائلةٍ يحكي لحظة سعيدة رغم بساطتها، فكلُّ حياةٍ تستحقُّ أن تُروى، وكلُّ ذكرى تستحقُّ أن تُحفظ.
يشير “رولان بارت” في كتابه “الغرفة المضيئة: تأملات في الفوتوغرافيا” إن الصور بمجرّد التقاطها تتجاوز حدود اللحظة الراهنة إلى بُعدٍ آخر يشبه رحلة نحو زمنٍ مضى، يقول: “كل صورة فوتوغرافية هي شهادة على الحضور [أن شيئًا كان هنا]، وبذلك فهي تتجاوز الزمن لتضعنا في مواجهة مباشرة مع الماضي. الماضي صار مؤكدًا مثل الحاضر”. وبدورها تأخذ “سوزان سونتاغ” المسألة إلى ما هو أبعد، حينما تتناول في كتابها “حول الفوتوغراف” المعنى المستتر خلف الصور، بوصفها لا تلتقط أحداث الماضي وتؤكد حضورها فحسب، وإنما تعيد خلقها من جديد بقيمة أعلى، فتقول: “التصوير هو إضفاء الأهمية. ربما لا توجد مواضيع لا يمكن تجميلها، ولا سبيل لوضع حدٍ للنزعة المتأصلة في كل الصور بإضفاء قيمة على مواضيعها”. وبحسب هذا المنظور، فالصور تضفي الأهمية على موضوعاتها، فكيف باللحظات ذات المواضيع المهمة ابتداءً! وهو ما يعيدنا إلى الأعياد، التي هي أهمّ اللحظات في أيامنا، تأتي فتكسر رتابة حياتنا، وتدخل إلى قلوبنا السرور والبهجة، مع هذه القيمة التي تملكها، تصبح صورنا فيها ذات قيمة متجاوزة لكل الصور في كل اللحظات الأخرى.
اترك تعليقاً