مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2025

آلة المعرفة..

كيف أوجدت اللاعقلانية العلم الحديث؟

يُعيد هذا الكتاب النظر فيما يمكن عَدُّه من المُسلَّمات في ميدان البحث العلمي، مثل ضرورة الاعتماد على المنهج وما يعنيه من التقيد بمجموعة من الضوابط والقواعد التي تساعد العَالِم على البرهنة على أفكاره النظرية، والوصول إلى نتائج متماسكة في ميدان تخصصه. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار عمل مؤلفه أستاذ الفلسفة بجامعة نيويورك، مايكل ستريفينز، فيه مثل “الطَرْق المُركز” في القاعدة المتينة التي ارتكز عليها فهمنا المعتاد لأصول العلم، وطريقة عمله لخلخلة مثل هذا الفهم، وتوجيهه إلى مسار جديد يمكن تفسير طفرات العِلم الحديث وفقًا له.

ودعمًا لمثل هذه الرغبة في الخروج عن المألوف في التعامل مع قضايا العلم، ينطلق المؤلف من سؤال أساسٍ هو: لماذا مع ظهور الحضارات قبل آلاف السنين، لم تظهر آلة المعرفة العلمية إلا قبل مئات السنين فقط؟  يُفسر اتخاذه مثل هذا السبيل الشائك الذي يعارض أطروحات لها مكانتها في ميدان فلسفة العلوم كتلك التي قدَّمها كل من كارل بوبر الذي عَدَّ المنهج العلمي نوعًا من المنطق يُطبِّقه العلماء لأجل الوصول إلى أهداف ينشدونها، وتوماس كون الذي رأى أن قوة العلم تنبع من مكانته التي يحققها داخل التنظيم الاجتماعي الذي يحتضنه، والذي يؤمن بصواب نظريات بعينها تحظى بموافقة مجموع أعضائه. ويقول إن الإجابة عن هذا السؤال تُشير إلى أن هذا الأمر لم يحدث فقط بسبب غياب المنهج العلمي بالمعنى المألوف فحال ذلك دون تحقيق القفزات العلمية المرجوة.

فالعلم الحديث، كما يكتب، لم يصل إلى أثينا الديمقراطية، ولم يخترعه أرسطو، وأخفق في التطور في الصين منذ ألف عام، على الرغم من تماسُك تلك الأمة، والتقاليد العلمية، والبراعة التكنولوجية، ولم يظهر في كثير من الثقافات الثرية والقوية مثل المايا والأزتيك والإنكا وغيرها، التي تشترك جميعها في أنها لم تخترع شيئًا في العلوم. لكن يتمثل الجواب عن مثل هذا السؤال، بحسب المؤلف، في أن العلم هو “نوع مستوحش من التفكير، ولفهم وصوله المتأخر إلى المشهد البشري، نحتاج إلى النظر في الغرابة المتأصلة في المنهج العلمي”.

لذلك، ومن أجل فك شفرة هذا المنهج وإلقاء نظرة فاحصة عليه، يُخصص المؤلف قسمًا كاملًا من أقسام كتابه الأربعة، تحت عنوان “جدل المنهجية العظيمة” لتحليل مفهومه الذي يكتنفه الغموض النابع من غموض جوهر العلم نفسه الذي يَقْصُرُه البعض على التجريب المنضبط، والبعض الآخر يحصره في الملاحظة، وتذهب آراء أخرى إلى أن جوهر العلم يكمن في اتباع التقنيات الرياضية المتقدمة.

وينعكس هذا الغموض في فهم العلماء أنفسهم لمفهوم المنهج، فكما يُشير المؤلف إلى أنه إذا استطلعنا الأوساط العلمية، فسوف نكتشف أنه على الرغم من أن العلماء يجيدون استخدام مناهجهم، “فإنهم لا يعرفون أهمية تلك المناهج، ولا سبب ذلك”، بل إن كثيرًا ممن درسوا مفهوم العلم عن قرب خلصوا إلى أنه لا يوجد شيء اسمه “المنهج العلمي”.

ومن ثَمَّ، وعبر فصول الكتاب الأربعة عشر مجتمعة، التي ناقشت آليات عمل العلم وشروط قدومه وكيفية بناء العقل العلمي وصيانته بوصفه آلة للمعرفة عبر سرد مكثف لوقائع بارزة من تاريخ العلوم، يطرح مايكل ستريفينز في كتابه فكرة مفادها أن قوة العلم وقدرته على الاكتشاف تتجاوز فكرة اتِّباع منهج بعينه أو التعلق بـ”الأدلة التجريبية” الموضوعية والعقلانية المرتبطة بتطبيقه في ضوء نظرية محددة تبتعد عن أي نزوات بشرية في الفكر العلمي، لكنها ترتبط بالضرورة بما سمَّاه “قاعدة التفسير الحديدية” التي تعني إمكان تحقيق إنجازات وثورات علمية عن طريق خرق قواعد الحِجاج المنطقي؛ أي بالاعتماد على ما يمكن عدُّه عناصر “لا عقلانية”، وعلى جوانب من التفكير الفلسفي والجمالي. وهكذا، ووفقًا لطرح ستريفينز سيزدهر العلم على نحو أفضل، حين يُتاح له السير في طريقه الخاص حتى لو كان بطريقة بالغة الذاتية. 


مقالات ذات صلة

تأليف: مارك كوكيلبيرج ترجمة: عبدالنور خراقي وعبدالرحيم فاطمي الناشر، خطوط وظلال، 2024م يبدأ أستاذ فلسفة الإعلام والتكنولوجيا بجامعة فيينا، مارك كوكيلبيرج، كتابه باقتباس السطور الأولى من رواية “المحاكمة” لـ”كافكا” المنشورة عام 1925م، التي أشارت إلى واقعة القبض على “جوزيف. ك” صبيحة أحد الأيام دون أن يرتكب خطأ ما، والذي سيُعدم لاحقًا بعد محاكمة افتقرَت إلى […]

تأليف: منيرة بن مصطفى حشّانة الناشر، يافا للبحوث والدراسات، 2024م يُقدِّم هذا الكتاب إلى المكتبة البحثية العربية، من منظور نوعي متفرد، مفهوم “الأجواء” محاولًا تأصيله والكشف عن مدلولاته المتنوعة من أجل فتح آفاق للعمل البحثي والنظري والتطبيقي في مجال الجماليات والإنسانيات، وذلك بعد أن لاحظَت مؤلفته أستاذة الجماليات والفلسفة المعاصَرة بجامعة تونس منيرة بن مصطفى […]

تأليف: بول تايلر ترجمة: سلمى الحافي الناشر: الساقي، 2025م على غلاف النسخة الإنجليزية من هذا الكتاب، سيشاهد القارئ هيكلًا عظميًّا متمددًا على أريكة مريحة يُتابِع التليفزيون، وبيده ما يبدو أنه هاتفه المحمول، ومن حوله تتناثَرُ وجبات الطعام السريعة. ويشكل هذا، باختصار، المعنى العام للمضمون، الذي أراد أن ينقله مؤلِّف هذا العمل خبير التغذية والباحث في […]


0 تعليقات على “آلة المعرفة..”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *